Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

النوري بوزيد: شئتُ أن أكون أمينا بالسينما ... على قضايا المرأة

فيلم "عرايس الخوف" جزء أخير من ثلاثية المجتمع التونسي

المخرج السينمائي التونسي النوري بو زيد (اندبندنت عربية)

 

رغم بلوغه الخامسة والسبعين، لا يزال المخرج التونسي النوري بوزيد متمرداً، صاحب روح ثائرة. انه أحد رموز العلمانية في العالم العربي المزنر بالعنف والتطرف والجهل. هذا الشغوف بالسينما، يعمل منذ أكثر من ثلاثين عاماً على انجاز سينما تونسية مغايرة. أفلام كـ"ريح السد" و"صفايح ذهب”، علامات فارقة في مسيرته. في مهرجان البندقية الأخير، عُرِض له "عرايس الخوف"، الذي يُعتبر الجزء الثالث من ثلاثية باشرها مع "آخر فيلم" وواصلها مع "ما نموتش". ثلاثة أفلام تنبثق من عمق المجتمع التونسي. 

في "عرايس الخوف"  يحفر بوزيد عميقاً في هم شغل كثر من أبناء جيله: انضمام توانسة، شبّاناً وفتيات، إلى جماعات إرهابية متطرفة، انتشرت خلال الثورة السورية على نظام الأسد. أفلام تونسية عديدة، بمستويات فنية متوافتة، حرصت على تصوير مصير شباب تم استقطابهم واستدراجهم لفخ التطرف الديني. علماً ان هذا كله كانت نتائجه كارثية على صعيد المجتمع التونسي . 

"عرايس الخوف" عن فتاتين تعودان من سوريا حيث تم استغلالهما جنسياً والتغرير بهما بأبشع الطرق، إلى تونس. تجري الحوادث في العام ٢٠١٣، في فترة الترويكا التي قادت تونس بعد انتخابات ٢٠١١. الفتاتان تحملان ندوب هذه التجربة القاسية التي تتحول مع الوقت إلى تروما نفسية.

يشرح بوزيد لـ"اندبندنت عربية" كيف ان أفلامه الثلاثة الأخيرة شكّلت ثلاثية سينمائية: "أنجزتُ "آخر فيلم"، “ما نموتش" و"عرايس الخوف" بروحية الثلاثية. انها عن تداخل السرطان في الجسد التونسيّ وابتلاعه شيئاً فشيئاً. نشأنا على نمط العيش اليساريّ المنفتح وعلى قوانين أحوال شخصية متسامحة. لن نُبرّر الضغوط علينا بذريعة الدين. لن نقبل. الدين في ذاكرتي محبّة وعيد وشهر رمضان. ظلّ كذلك منذ الطفولة والشباب إلى ما قبل الثورة. اليوم تبدّل المشهد. باسم الدين، يرمون قنابل ويمارسون العنف والضرب على الرأس. تعرّضتُ للضرب على يد اعضاء في حزب "النهضة". هذا الحزب لم يشارك في الثورة، لكنّه استولى على السلطة وسيطر على الحُكم. وضع الإسلاميون أيديهم على السياسة وراحوا يبتّون القرارات. لم يخترهم الشعب. ساهم المجلس التأسيسيّ في صياغة الدستور والتحضير للانتخابات. كانت الفترة المعطاة لهم سنة واحدة. تمسّكوا بالكراسي ثلاث سنوات. رفضوا التنحّي. خرجت تظاهرات بغالبيتها نسائية لإسقاطهم. وجرت مفاوضات كثيرة في هذا الشأن. ثم استقالوا. لولا ذلك، لما استعدّوا للتنازل عن مقعد. دعني أخبرك شيئاً: لقد نشأتُ على اليسار. تربّيتُ في مجتمع إقطاعي منذ الطفولة. لكنّني لم أعش إقطاعاً متعسّفاً لكوني أنتمي إلى عائلة ثرية. كان والدي فلاحاً يجني مداخيل من الفلاحة. حين كبرتُ، تأثّرتُ بالناصرية. وبعد العام ١٩٦٧، عشتُ خيبة الانتماء إلى هذا الخطّ العروبيّ. رأيتُها وهي تفشل. ثم سافرتُ إلى باريس للالتحاق بمعهد السينما. إلى أن كان العام ١٩٦٨، فتشرّبتُ أفكاراً ماركسية. هذا تطوّري وتراكماتي الفكرية. لستُ ماركسياً اليوم، لكنّني يساريّ متطرّف. يساريّ متجذّر. علّمتني نظرتي للحياة اعتبار الإسلام ديناً. إنّه مُلك الجميع. ليس مُلكك أنتَ فقط. لا تستطيع تحويله أداة تعذيب وقتل واحتلال. بهذا أنتَ تضرّ بالدين. تضرّ بالإسلام في ذاته وجوهره ومعانيه. دعونا نطبّق الدين بمفهومه الإنسانيّ".  

أسأل بوزيد عن السبب خلف اهتمام السينما التونسية بإشكالية الإسلاموية المجتمعية بهذا الشكل اللافت، فيقول: "على المستوى الفكريّ، تربّينا على أجواء من الحرية. وعلى المستوى الاجتماعي، نشأنا على أحوال شخصية منصفة، لا تتيح تعدّد الزوجات. حتى إنّ قانون المساواة في الإرث لا يزال قيد التفاوض، في انتظار التصويت والإقرار". 

في "عرايس الخوف" يحاكي بوزيد وقائع حدثت في تونس وكان شاهداً عليها. هناك ثماني فتيات حكم المجلس التأسيسيّ عليهنّ. إثنتان تحملان جنيناً في أحشائهما. كيف ينسى هؤلاء الضحايا؟ يقول: "أردتُ أن أكون شاهداً على معاناتهن وأميناً لذاكرتهن. حتى إنّ البطل الذكر استنبطته من شاب طُرد من معهد واعتدت عليه الشرطة. دعوا الناس يعيشون كما يحلو لهم. دعوهم أحراراً. لا تعطي قوانين حقوق الإنسان إذناً لأحد للتدخُّل في حياة أحد. للجميع الحقّ في العيش كما يشاؤون، بصرف النظر إن أيّدتُ سلوكهم أو رفضته. أردتُ أن أكون شاهداً على ما أرتكبته الترويكا من اغتيالات. اغتالوا لنا أربعة قادة سياسيين من اليسار المُعارِض. وغذّى السلفيون جماعات إرهابية تونسية أمعنت في الجريمة والقتل. يسمّون الجيش وقوات الأمن طاغوتاً يترقّبون تصفيتك. كيف ذلك؟ هذه مسائل باتت وراءنا. لِمَ نعود إليها؟ حين أتى الإسلام، حمل تقدّماً في الفكر وثورة. اليوم نريد التطوُّر، لا العودة إلى الوراء.  حين شاهدتُ مسلسل "عمر" (عرضته "أم بي سي") شعرتُ بالفخر. لِمَ يجعلوننا ننصدم؟ هم لا يدافعون عن الدين، هم ضدّه. بعيدون مسافات منه".

قسوة سينمائية

 ثمة قسوة هائلة في "عرايس الخوف". يصوّر بوزيد الواقع بطريقة خام، مقترباً كثيراً بكاميراته من الوجوه. يوضّح قائلاً: "يبدو الفيلم كأنّه وثائقيّ، فيما هو روائيّ. بالنسبة إلى القرب من الوجوه، فقد استعملتُ العدسة ٨٥ في اللقطات كلّها. يروقني أن تتنفّس الكاميرا، حتى على صعيدي الـ"وضوح" والـ"فلو". جعلتُ البحث عن الـ"وضوح" ممكناً في وسط المشهد، من دون أن أشعر بالقلق. منحتُ الصورة حياةً. حتى الإضاءة لم أرفقها بما يزيد على الأدوات التي نستعملها للضوء يومياً. أردتُه أقرب إلى الوثائقيّ، لنشعر بالسكرة إنّهن يحملن معاناة هائلة. أحببتُ الاقتراب منهنّ. المرأة لم تقتل. الرجل فعل. في النهاية، أنا سعيد لكونها أمسكت حجراً وسدّدته تجاهه". 

لا يبدي بوزيد أي رحمة ازاء المجتمع التونسيّ. يقول الأشياء كما هي دون احتساب النتائج المترتبة عليه. نقده لاذع، لغته صريحة. يعلق قائلاً: "إنني رحوم مع النساء، غير رحوم مع الرجال. هم طافحون بالعنف، يمقتون الخروج من الإقطاعية. شئتُ أن أسجّل شهادتي من أجل المرأة. لم أرد للنسيان التسلّل وخنق الذاكرة. إنّه الأخطر على الإنسان، كأنّ المرء يلفظ روحه. لا، لن نُذعن له. في الفيلم، أربع بنات، منهنّ من تقاوم بالكتابة، وأخرى فضّلت الموت على أن تضع جنيناً لا تعرف مَن يكون والده، فلم ترده ضحية مثلها. الثالثة راحت تُحاول محاسبة كلّ مَن أوصلها إلى تعاستها، حتى والدها الذي باعها. عدا تعاون الأم والمحامية، الأولى بالأحاسيس والثانية بالقانون. شخصيات في دوّامة صراع. كلّ هذا لا يُعطينا حقّ النسيان أبداً".

المزيد من ثقافة