Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"يرما" لغارثيا لوركا: زوجة الرجل العقيم

ثورة المجتمع الحقيقية بدءاً من قضية المرأة

مشهد من تقديم معاصر لـ"يرما"

من المؤكد أن الشاعر والكاتب الإسباني فدريكو غارثيا لوركا، لم يكن ناشطا سياسيا بالمعنى الحرفي للكلمة، ومن هنا فإن إعدام الفاشيين له لم يكن بسبب فعل سياسي مباشر كما سوف نرى بعد سطور. لكنه كان ثوريا حقيقيا بالمعنى الإجتماعي. وبالتالي ما كان يسعى إليه من طريق إبداعه إنما كان "ثورة في الذهنيات" يراها أكثر عمقا وضرورة. والحقيقة أن ليس في إمكاننا أن نفهم ثورية هذا المبدع إلا إذا نظرنا إليها على هذا النحو سابرين أغوار شعره ونثره. ولكن بشكل خاص ثلاثيته المسرحية عن "قضية المرأة" المؤلفة من "بيت برناردا ألبا" و"عرس الدم" وأخيرا "يرما" التي نتناولها هنا بصورة خاصة.

ولعل سبب التوقف هنا عند هذه الأخيرة يعود إلى كونها ظُلمت دائما لحساب المسرحيتين الأخريين اللتين انتشرتا وقُدمتا وترجمتا ولُعبتا في شتى أنحاء العالم، بل غالبا ما كُيفتا لتلائما شتى المجتمعات، فيما ظلت "يرما" حبيسة إسبانيّتها، "تُلطش" في أحيان كثيرة من دون ذكر... إسم المؤلف! المهم أن "يرما" التي ختم بها غارسيا لوركا ثلاثيته في العام 1961 يمكن اعتبارها في عمقها أكثر ثورية وجرأة من باقي ما تبقى من أعمال هذا الشاعر، شرط ألا نفهمها كعمل فجائعيّ وحسب، بل كعمل ذي فاعلية سياسية.

تراجيديا التحرر

لا يقدم لنا الكاتب، من خلال المأساة التي تعيشها شخصية المسرحية الرئيسية يرما، فاجعة على الطريقة الإغريقية وحسب، حيث يأتي المشهد الأخير والذي تقتل فيه هذه الأخيرة زوجها حين يقرّ أمامها أخيرا بأنه هو العقيم والمسؤول عن عدم حملها وإنجابها الولد الذي تحلم به طوال حياتها، بل يقدم فعل القتل نفسه بوصفه فعل تحرّر لتلك المرأة من المواثيق الإجتماعية/ الدينية التي تربطها برجل ها هو عجزه لا يدمر حياتها فقط وإنما يقضي على المبرر الوحيد لوجودها. ولنعد الآن إلى الوراء لنطّلع على ما أوصل الزوجين إلى ذلك المشهد الأخير الذي كان قادهما إلى ضريح قديس كانت يرما قد لجأت إليه كي... يحل مشكلتها. وما تلك المشكلة سوى كونها محرومة من الحمل متّهمة من قبل المجتمع بأنها هي السبب... حفاظا على سمعة ذكورية زوجها. لكن حرمان يرما لا يطاول الحمل والإنجاب فقط، بل كذلك حقها في الحب والعلاقات الزوجية. فالمواثيق والأعراف الدينية في بيئتها تمنعها من إقامة أي علاقة مع الزوج إن لم تكن غايتها الإنجاب. والواقع الأخلاقي يقول لنا في المقابل، أن ليس ليرما أن تُغرم بشخص غير زوجها، حتى وإن كانت تشعر، بعد يأسها من الزوج، بانجذاب إلى راع فتيّ في المنطقة الريفية التي تعيش فيها. وبالتالي فإنها منذ البداية تطرح على نفسها أسئلة وجودها: هل ستعيش دون حب؟ وهل ستعيش دون ولد يزيّن حياتها؟ وهل ستكتفي بأن يكون زوجها في حياتها مجرد واجهة وتكون هي في حياته إيهاما بذكوريته؟

على هذه الأسئلة يجيب المجتمع والكنيسة إيجابا، أما هي فإنها ستثور على هذا الواقع، لكن ثورتها لن تقودها إلا إلى الفعل الوحيد الذي تجد نفسها مجبرة عليه في نهاية الأمر: قتل زوجها كفعل تحرر ووسيلة للعودة إلى إنسانيّتها كامرأة جديرة بالحب وأم تستحق ولدا.

حين يحوّلك الأعداء إلى أسطورة

لم يشارك لوركا في الحرب الأهلية، ولم تسل من أصابعه نقطة دم واحدة، بل اكتفى بأن تحدّث عن فظاعة الحرب، وعرج في طريقه على ضروب القسوة التي كان يمارسها رجال الحرس المدني التابعون لفرانكو، فإذا بهؤلاء لا يغفرون له موقفه ذاك. إذ ما كان منهم ذات يوم فيما كان كعادته متوجها لتمضية الصيف في غرناطة، في شهر آب (أغسطس) 1936، هو المقيم عادة آمنا في مدريد، إلا أن تعرفوا عليه واعتقلوه. وما أن حل يوم 19 من الشهر نفسه، حتى حكموا عليه بالإعدام ونفذوا الحكم برميه بالرصاص. وعلى ذلك النحو وضعوا حدا لحياة ونشاط واحد من كبار الشعراء الذين عرفتهم إسبانيا في القرن العشرين.

والحال أن رجال فرانكو كانوا هم الذين حولوا لوركا، باغتياله على ذلك النحو، إلى أسطورة، بحيث إن الكثيرين اليوم يعتقدون أنه كان بطلا من أبطال الحرب الأهلية وأن اغتياله كان لمشاركته في تلك الحرب في صفوف الجمهوريين التقدميين. لكن هذا ليس صحيحا، فلوركا عند اغتياله كان بعيدا عن المشاركة في الحرب، بل كان على خلاف فكري عميق مع الحزب الشيوعي الذي عاد وتبناه كليا بعد موته.

بيد أن هذا لم يكن العنصر الأساسي في حياة لوركا. العنصر الأساسي هو كونه شاعرا شفافا وحادا في الوقت نفسه، وكاتبا مسرحيا من طبقة الكبار. وحتى اليوم لا تزال مسرحياته مثل «عرس الدم» و«بيت برناردا ألبا» و"يرما" التي نتناولها هنا، تسحر المتفرجين وتشكل جزءا من ريبرتوار المسرح العالمي.

كان لوركا حين أغتيل في السابعة والثلاثين من عمره، فهو ولد في بلدة نوينتيغا كويروس في الأندلس قرب غرناطة في 1899. وهناك أمضى سنوات حياته الأولى في أوساط الشعب ملتصقا بالأرض، وظل طوال حياته معبرا عن احتكاكه بشعب الريف وأرضه مستوحيا معظم ما كتبه من ذلك الاحتكاك. وهذا على الرغم من انتمائه إلى أسرة ثرية ما مكنه من تلقي دروس ثانوية راقية ثم الانتساب إلى جامعة غرناطة حيث درس الأدب والحقوق ثم تعرف بالموسيقي الكبير مانويل دي فاليا، الذي زاد من حبه للفولكلور وولعه به. وتحت تأثير هذا الأخير، كتب ونشر، وهو بعد في الثامنة عشرة، مجموعته الأولى «انطباعات ومشاهد». ولقد قاده نجاح تلك المجموعة إلى اتخاذ قراره بالانتقال إلى مدريد.

نشاط محموم قبل النهاية

وصل لوركا إلى العاصمة وكان في العشرين من عمره، وهناك ارتبط بكل تلك الصداقات التي أحدثت انعطافة أساسية في حياته: مع سلفادور دالي ومع لويس بونيال بين آخرين. وراح يهتم بالسينما والرسم والموسيقى إلى جانب الشعر وقاده هذا كله إلى المسرح فأولع به إلى درجة أنه عمد لاحقا إلى إقامة مسرح للدمى في دارة أهله، راح يكتب له النصوص التي كان دي فاليا يضع لها الموسيقى.

وبالنسبة إلى الشعر واصل لوركا كتابته وأصدر في 1921 «كتاب الشعر» الذي لفت اليه الأنظار حقا، غير أن الشهرة الحقيقية لم تأته إلا في 1927 حين نشر في ملقا مجموعته «أغنيات». وهنا، هذه المرة، أيقن الإسبان أنهم أمام شاعر كبير، خاصة وأن مسرحيته الكبيرة الأولى «ماريانا بينيدا» عُرضت في ذلك العام نفسه محققة شهرة ونجاحا كبيرين ثم أتى نشره مجموعته الشعرية الكبرى «أناشيد غجرية» في العام التالي ليرسخ مكانته، فبات يعتبر أحد أكبر شعراء إسبانيا المعاصرين. وتجاوزت شهرته الحدود وبدأ شعره يترجم، فدعي إلى الولايات المتحدة حيث ألقى مجموعة محاضرات، وعاد من هناك بواحد من أجمل كتبه «شاعر في نيويورك» كما أن مروره بكوبا، في طريق عودته، رسخ علاقته بالموسيقى والفولكلور، وهكذا حين عاد عين مديرا لمسرح «لاباراكا» الجوال، فأخذ يدور بين المدن والقرى ويجمع الفولكلور الإسباني ويقدم كلاسيكيات مسرح إسبانيا. وهذه الذخيرة كانت هي التي مكنته، خلال الأعوام الأخيرة من حياته، من تكريس وقته للكتابة وللمسرح، فأخذ يكتب مسرحية بعد الأخرى: «عرس الدم» (1933) ثم «يرما» (1934) و«روزيتا العزباء» (1935)، ثم «بيت برناردا آلبا» التي أنجزها قبل شهر واحد من مصرعه. أما آخر جولاته فكانت في أميركا اللاتينية خلال العامين الأخيرين من حياته، وهي جولة عاد منها بمشاريع وأفكار، أتى اعدام الفاشيين له  ليلقي بها في وهدة النسيان.

المزيد من ثقافة