Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"النهر" لجان رينوار:  الحب في بلاد الآخرين

غرام إنجليزي خائب على ضفاف نهر الغانج

مشهد من فيلم "النهر"

هناك على الأقل سينمائيان عالميّان كبيران يعلنان دائماً أن سينماهما تدين بالكثير للمخرج الفرنسي جان رينوار من خلال فيلمه الملوّن الأول "النهر" الذي حققه في العام 1951 في الهند: أولاً المخرج الأميركي فيس أندرسون الذي قال إنه بتأثير من "النهر" حقق فيلمه "دارجيلنغ ليمتد" في العام 2007، ثم بخاصة مخرج الهند البنغالية الكبير ساتياجيت راي الذي يطنب في كتاباته في الحديث عن تعرّفه على رينوار على ضفاف الغانج حيث كان العمل معه على "النهر"، طريقه للوصول إلى قرار حياته بالعمل في الإخراج السينمائي. غير أن تأثير "النهر" يتجاوز هذين المبدعين ومن بعيد. ففيلم رينوار هذا يعتبر من علامات السينما وإن كان ثمة ضروب سوء تفاهم تحيط به دائماً.

بين الحب المراهق وحكمة الشرق

فللوهلة الأولى سيُخيّل لمن يعرف بوجود الفيلم، - الخارج أصلاً من فيلموغرافيا صاحب "الوهم الكبير" و"قواعد اللعبة"، من دون أن يكون قد شاهده -، أنه عمل أنثروبولوجي يتحدث عن الإنسان الهندي وحياته المرتبطة بنهر الغانج، النهر الذي يشير إليه العنوان. لكن الفيلم لا يتناول هذا الأمر لأنه في حقيقته يروي قصة حب وحياة هانئة لعائلة إنجليزية جيّدة الأحوال تعيش هناك في الهند أيام الاستعمار البريطاني، وتحديداً في البنغال. ومن دون أن يكون الفيلم "صرخة ضد الاستعمار" كما كان في إمكان الناس أن يتوقعوا من رينوار، أتى أشبه بروايات جين أوستن أو أفلام جيمس آيفوري التي تتناول العواطف والأحاسيس، ولكن على أي حال، من دون أن يفوّت المخرج الفرنسي الكبير وضع لمسات روحانية "هندية" ونتف من التقاليد الغيبية الهندوسية هنا أو هناك، إنما على سبيل الزينة بالأحرى ليظل الموضوع إنجليزياً طبقياً يتحلق بالأحرى بمشاكل الصبا والمراهقة التي تعيشها الصبية الإنجليزية هارييت وشقيقاتها وأخوها الفتى في منزل وادع وحياة تسير هادئة كمجرى النهر الهندي العظيم، مع إطلالات على بعض المحليين الذين، إلى حكمتهم وتقاليدهم التي يصوّرها رينوار بمهارة وأريحية مستشرق متعاطف، لا يظهرون بوصفهم أصحاب البلاد بل كشخصيات هامشية. وهذه الشخصيات تتحلق من حول حكاية الحب – المجروح في  نهاية الأمر – التي تعيشها هارييت تجاه الكابتن جورج العسكري النبيل والفاتن ذي الرجل المقطوعة وتنسج من حولها الآمال حتى اليوم الذي تنكشف فيه الحقائق بالتزامن مع موت شقيق هارييت واندفاع العسكري الشاب في حكاية حب أخرى، معلناً أن تودده لهارييت كان تودداً أخوياً لا أكثر.

تلك هي حقيقة حكاية هذا الفيلم الذي حققه رينوار في سياق مرحلته الأميركية مشتغلاً فيه على جماليات بصرية تناسب خوضه السينما الملونة للمرة الأولى في مساره، ومصراً فيه على الاستعانة، للقيام بالأدوار التي رسمها قلم مؤلف الرواية روبرت غولدن، بممثلين هواة وديكورات طبيعية حاشراً من عنديّاته في مجرى الرواية أفكاراً بديعة وحكماً اكتشف في الهند وجودها وسيظل ينادي بها لاحقاً... ومن هنا ما يقال إن هذا الفيلم الذي نقل صورة لحياة إنجليزية في بلاد الآخرين، علّم مخرجه الحكمة الشرقية، وشاعريتها، قبل أن يعلمه أي شيء آخر.

السينما الشاعرية     

مهما يكن لم يكن غريباً، لمن كان ابناً لأحد كبار رسامي المدرسة الانطباعية، بيار أوغوست رينوار، أن يصبح واحداً من كبار شعراء فن السينما، وأن يعتبر فيلمان له على الأقل: "قواعد اللعبة" و"الوهم الكبير"، إلى جانب "النهر"، اثنين من أهم الأفلام في تاريخ السينما.

لقد عرف رينوار، المخرج الفرنسي الأكبر في تاريخ السينما الفرنسية، كيف يكون بالنسبة إلى الفن السابع، ما كانه أبوه بالنسبة إلى فن الرسم. ومن هنا تشابه الرجلان، في الحساسية الفنية، وفي الابتكار الجمالي، وفي البعد الاجتماعي لفنيهما، حيث تجد لدى جان رينوار، في أفلامه، ذلك المزج نفسه الذي حققه والده بين الخادمات اللواتي استخدمهن كـ "موديل" في لوحاته، وبين السيدات الارستقراطيات اللواتي هواهنّ وكرس لهنّ معظم فنه. وتروي الحكايات أن جان رينوار إنما اتجه إلى فن السينما، أملاً في أن يحوّل إندريه هشلنغ، التي كانت آخر "موديل" عشقها أبوه واستخدمها، إلى نجمة سينمائية. أما الفيلم الذي شاهده وبهره وقرر بعده أن يخوض حقاً لعبة الفن السينمائي فكان "جنون النساء" لفون شتروهايم (1921)، الذي اكتشفه رينوار بعد أعمال فنية خاضها إثر عودته من الجندية حيث خدم في فرقة القناصة وكطيار (وهما أمران سنجد أثرهما لاحقاً في بعض أفلامه، وبخاصة في "قواعد اللعبة").

في 1924 كان جان رينوار في الثلاثين من عمره، حين اتخذ قراره النهائي بأن يصبح سينمائياً، وهو أمضى السنوات الأربع الأولى من حياته السينمائية خائضاً في تجريبية طليعية مزج فيها بين إرثه الانطباعي وتأثره بالمدرسة التعبيرية الألمانية، وهو ما نلاحظه في أفلام مثل "فتاة الماء" و"نانا" ثم بخاصة "شارلستون" و"بائعة أعواد الثقاب". غير أن تلك الأفلام لم تحقق النجاح المرجو على الرغم من أنها دفعت إلى الصدارة شخصية "موديل" أوغوست رينوار السابقة التي باتت امرأة لجان رينوار ونجمة استثنائية تحمل، هذه المرة، اسم كاترين هيسلنغ.

نحو المرحلة الواقعية

وفي النهاية حدث الانفصال بين المخرج والنجمة وانتهت بذلك مرحلة التأسيس في مسار رينوار السينمائي، لتبدأ في العام 1931 مرحلة تالية استمرت عقداً من السنين هي المرحلة الواقعية، التي كان أول أفلامها "الكلبة" الذي حقق قدراً لا بأس به من النجاح، مع أن رينوار بقي على تجربته، إذ خلف رداء الواقعية الجديد الذي بدأت ترتديه افلامه الجديدة، راحت تظهر تنويعاته الغرائبية وتأثره بالكوميدي ديل آرتي، وفنون الدمى والأساليب الوقحة واللغة المستقاة من ابتذالية الشارع الشعبي. وهو أمر نلاحظه يتكرر في أفلام تلك المرحلة مثل "طوني" و"بودو أنقذ من الغرق" و"ليلة الكارفور" و"مدام بوفاري" و"جريمة السيد لانغ" وصولاً إلى أفلام مرحلة الجبهة الشعبية ذات النزعة التقدمية مثل "الحياة لنا" و"المارسيلية" و"قواعد اللعبة" الذي أوصل قوة تعبيره وأداءه الفني إلى ذروة لم تكن متوقعة، بعد أن كان فيلم "الوهم الكبير" (1937) قد حقق له سمعة عالمية.

وحتى وإن بقي هذان الفيلمان "الوهم الكبير" و"قواعد اللعبة" العلامة في مسيرة جان رينوار، فإن سمعة الرجل وأهميته تجاوزتا أهمية ذينك الفيلمين، وهذا ما جعله يخوض اللعبة السينمائية بقوة حين اضطر عند أوائل الحرب العالمية وإثر احتلال ألمانيا فرنسا، للهرب إلى الولايات المتحدة الأميركية.

في العالم الجديد وجد رينوار في 1940 الأبواب مفتوحة أمامه، بخاصة أنه كان يرغب، من أعماقه، في الانخراط في اللعبة السينمائية الهوليوودية. غير أنه اضطر هناك لتحقيق أفلام نضالية ضد الهتلرية أبقته على الهامش، حتى كان فيلمه "رجل الجنوب" الذي نقل فيه الصراع المعتاد لديه، بين الفرد والمجتمع إلى صراع بين الإنسان والطبيعة، مقتبساً من عالم أميركا المعقد اهتمامه بالطاقة البشرية الخلاقة في مواجهة أي صراع مفروض على الفرد. وهو ما صوره في الهند حين توجه إليها، في 1951 ليحقق واحداً من أجمل أفلامه: "النهر"، وعند بداية سنوات الخمسين عاد رينوار، بشكل شبه نهائي إلى فرنسا حيث حقق أولاً فيلم "العربة الذهب" ثم ألحقه بواحد من أجمل أفلامه، على الصعيد الشكلي، كما على صعيد استخدام اللون، "فرانش  كانكان"، ثم كان "إيلينا والرجال" (1956) فـ "الغداء على العشب" الذي جاء أشبه بتحية للوحة مانيه الشهيرة، مثلما كان "فرانش كانكان" تحية لتولوز لوتريك. ومنذ ذلك الحين خفت وتيرة عمله، بسبب تقدمه في العمر، كما أن أفلامه الثلاثة الأخيرة "وصية الدكتور كورديليه" و"العريف المجروح"، ثم أخيراً "مسرح جان رينوار الصغير" كشفت عن كونه تحول إلى متحف ليس أكثر، فكان عليه أن يعيش خلال السنوات التالية وسط أمجاده عاطلاً من العمل مكللاً بالغار وتُكرّس له الدراسات والكتب، حتى رحل عن عالمنا في العام 1979 ليشعر أهل السينما وهواتها بأن جزءاً أساسياً من تاريخ السينما الفرنسية والعالمية قد رحل معه.

المزيد من ثقافة