بعد محاولات التيار الصدري السيطرة على الاحتجاجات، بوسائل عدة منها فرض ذلك بالقوة من خلال استخدام "القبعات الزرق"، ندد المرجع الشيعي العراقي الأعلى علي السيستاني بالعنف الذي أودى بحياة محتجين في مدينة النجف، وبينما رفض قيام أي جهة غير رسمية بالتكفل بحماية المحتجين، شدد على ضرورة أن تحظى أي حكومة عراقية جديدة بثقة الشعب ومساندته، ما أدى إلى إصدار أمر بانسحاب "القبعات الزرق" من ساحات الاحتجاج وتسليم الملف للقوات الأمنية.
ودعت المرجعية قوات الأمن العراقية إلى حماية المحتجين السلميين من المزيد من الهجمات، مشيرة إلى أن "عليها تحمل مسؤوليتها تجاه كشف المعتدين والمندسين، والمحافظة على مصالح المواطنين من اعتداءات المخربين"، واستهجنت "قيام جهات غير حكومية بالتدخل في الملف الأمني وفرض رؤيتها على المواطنين"، في ما يراه مراقبون أنه موجه لـ "القبعات الزرق".
تأرجح الخطاب الصدري
ويرى مراقبون أن التيار الصدري يتأرجح بين السلطة والثورة، في محاولة للكسب السياسي من الجانبين، وأشاروا إلى أن السيستاني قطع الطريق أمام كل القوى التي تحاول السيطرة على الاحتجاجات، مرجحين أن يقوم محمد توفيق علاوي بالانسحاب من التكليف برئاسة الوزراء على إثر الضغوط التي تمارس عليه من القوى السياسية.
وتبدل خطاب التيار الصدري بعد الغارات الأميركية التي أسفرت عن مقتل قائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني، في وقت كان الصدر من أوائل الذين دعوا للإضراب العام الذي يشمل طلبة المدارس والجامعات، لكنه سرعان ما تراجع عن ذلك في الفترة الأخيرة، محملاً المحتجين مسؤولية قطع الطرقات ومنع الطلبة من الدوام.
وبدأت الإشكالات بين المحتجين من جهة والتيار الصدري من جهة أخرى عندما حاول الصدر دفعهم لاختيار مرشحين لمنصب رئيس الوزراء من داخل ساحات الاحتجاج، الأمر الذي رفضه المحتجون مبينين أنه ليس من اختصاصاتهم فضلاً عن أنهم أعلنوا المعايير التي يجب أن يتحلى بها رئيس الحكومة المقبلة، لكن ما فاقم من الإشكالية بين المحتجين وزعيم التيار الصدري، هو رؤيتهم أنه يحاول تسييس الاحتجاج وتمرير غايات التيار الصدري من خلاله، وعوّل المحتجون على دعم مرجعية النجف في صد تلك المساعي، بحسب مراقبين.
اجتماع ليلي
في غضون ذلك، جرى اجتماع ليل الجمعة - السبت، بين مجموعة من ممثلي عدد من خيم الاعتصام في ساحة التحرير، وبين كاظم العيساوي المعاون الجهادي لزعيم التيار الصدري مقتدى الصدر. وتشير تسريبات من داخل الاجتماع إلى أن "العيساوي تعهد بإخلاء المطعم التركي وتسليمه إلى المحتجين شرط أن يكونوا معروفين فضلاً عن سحب القبعات الزرق من ساحات الاحتجاج".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويقول مصدر رفض الكشف عن هويته إن "العيساوي نفى أن يكون التيار الصدري أو القبعات الزرق مسؤولين عن أحداث النجف"، وكشف المصدر لـ "اندبندنت عربية" عن أن "العيساوي أكد أن التيار الصدري وتحالف سائرون غير داعمين لعلاوي واتفقنا على عدم التصويت عليه أو على كابينته الوزارية"، وأشار إلى أن "المجتمعين أبلغوا العيساوي بأن علاوي مرفوض من كل ساحات الاحتجاج في العراق"، ولفت المصدر إلى أن "العيساوي تعهد بالاعتذار من الطلبة الذين تم الاعتداء عليهم من قبل القبعات الزرق فضلاً عن تعهد بتحويل المطعم التركي إلى صرح ثقافي وافتتاحه أمام الزوار بالتنسيق مع نخب فنية".
"ميثاق الثورة"
وفي أول رد فعل على خطاب السيستاني، وجه زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر بانسحاب "القبعات الزرق" من ساحات التظاهر وتسليم ملف حماية المتظاهرين إلى القوات الأمنية، وكتب الصدر بياناً من 18 نقطة أطلق عليه اسم "ميثاق ثورة الإصلاح" قال فيه إن "الاستمرار على سلمية التظاهرات، يعني عدم إجبار أي شخص على التظاهر والاحتجاج مطلقاً وعدم قطع الطرقات والإضرار بالحياة العامة وعدم منع الدوام في المدارس كافة، وأما الجامعات وما يعادلها، فالأمر اختياري، ومن دون إجبار على الدوام وعدمه".
وشدد الصدر على "عدم التعدي على الأملاك الخاصة والعامة وعلى المرافق الخدمية والصور والمقار وغير ذلك مطلقاً، وإخلاء مناطق الاحتجاج والاعتصام من أي مظاهر التسليح، وينطبق ذلك على المولوتوف والقاعات والعصي وغيرها مطلقاً وذلك بتسليمها للقوات الأمنية"، ودعا أيضاً إلى أن "تدار التظاهرات من الداخل والتخلي عن المتحكمين بها من الخارج مطلقاً، وعدم تسييسها لجهات داخلية أو خارجية حزبية كانت أم غيرها، وإعلان البراءة من المندسين والمخربين، والتي أشارت لها المرجعية وغيرها من القيادات الدينية والعشائرية وما شاكلها، فضلاً عن توحيد المطالب وكتابتها بصورة موحدة لجميع تظاهرات العراق".
وأشار الصدر إلى ضرورة "العمل على تشكيل لجان من داخل التظاهرات من أجل المطالبة بالإفراج عن المعتقلين والمختطفين والتحقيق الجدي في قضية شهداء الإصلاح الذين سقطوا خلال التظاهرات، فضلاً عن العمل على إيجاد ناطق رسمي لها، وعدم التعدي على القوات الأمنية ومنها (شرطة المرور) مطلقاً، وتقديم المعتدين سابقاً أو لاحقاً للقوات الأمنية فوراً".
مراعاة القواعد
ودعا الصدر إلى "مراعاة القواعد الشرعية والاجتماعية للبلد قدر الإمكان وعدم اختلاط الجنسين في خيم الاعتصام وإخلاء أماكن الاحتجاجات من المسكرات الممنوعة والمخدرات وما شاكلها"، وطالب بانسحاب (القبعات الزرق) وتسليم أمر حماية المتظاهرين السلميين والخيم بيد القوات الأمنية المسلحة، كما دعا إلى "تحديد أماكن التظاهر عموماً والاعتصام خصوصاً ومن خلال موافقات رسمية وبالتنسيق مع القوات الأمنية بصورة مباشرة".
وتحدث عن ضرورة "الالتزام بتوجيهات المرجعية والقيادات الوطنية وطرد كل من يثير الفتنة الداخلية والطائفية وكل من يعتدي على الذات الإلهية أو الأعراف الدينية والاجتماعية وما شاكل ذلك"، ودعا إلى أن "يكون يوم الجمعة يوماً لتظاهرات عراقية حاشدة من دون الإعلان عن أي انتماء لغير العراق ومن دون التفرقة بهتاف أو فعل أو لافتة أو ما شابه ذلك"، وطالب بـ "التحقيق بحادثة (الوثبة) و (مرقد السيد الحكيم) و (ساحة الصدرين) ومجزرة (الناصرية) وما شابهها في جميع المحافظات".
قائد الثورة والسلطة
وسط هذه الأجواء، قال الكاتب والصحافي سامان نوح، إن "خطبة السيستاني كانت واضحة تماماً وهو يقول للقبعات الزرق إنه ليس من واجبكم حماية التظاهرات أو التدخل في الاحتجاجات"، مبيناً أن "الرسالة وصلت إلى التيار الصدري وبعدها مباشرة حصلت مفاوضات وحوارات بين ممثلي الصدر وبعض ممثلي التنسيقيات وتم الاتفاق على بعض النقاط".
وأوضح لـ "اندبندنت عربية" أن "بيان الصدر محاولة لإعادة رسم العلاقة بينه وبين المحتجين"، لافتاً إلى أن "البيان يحوي إشكالات عدة بما يتعلق بالحريات العامة وحرية المعتقد"، وأشار إلى أن "الصدر في بيانه كأنه يقول إنه قائد السلطة والثورة معاً، ويتحدث بوضوح وكأنه قائد الثورة ويملي ما يريد على المحتجين ويتدخل في التفاصيل، ومن جهة أخرى يطالب الجهات الأمنية بحفظ الأمن وتأمين الساحات ومسائل تتعلق بإدارة الدولة وكأنه قائد السلطة"، وقال "حديث الصدر عن عدم تسييس التظاهرات يبدو متناقضاً، إذ إن كل ما يقوم به هو تسييس للتظاهرات".
انسحاب من التكليف
ورأى رئيس المجموعة العراقية للدراسات الاستراتيجية واثق الهاشمي أن "خطاب المرجعية قطع الطرق أمام كل القوى التي تحاول السيطرة على ساحات الاحتجاج"، وأضاف لـ "اندبندنت عربية"، "ردود الأفعال على رسالة السيستاني جاءت بسرعة عندما أرسل الصدر معاونه الجهادي إلى ساحة التحرير، وقال سوف لن نصوت ولن ندعم حكومة محمد علاوي"، ولفت إلى أن "رسالة السيستاني إلى محمد علاوي أن أمامه خيارات حتى لا يكون مصيره كمصير عبد المهدي بعدم الخضوع إلى الكتل السياسية"، مرجحاً أن ينسحب علاوي في ظل ضغوطات كبيرة تمارس عليه من الكتل السياسية.
اصطفاف مع المحتجين
إلى ذلك، قال الباحث في الشأن السياسي أحمد الشريفي، "هناك تصعيد سياسي من مختلف القوى السياسية على السيستاني، لأن تلك القوى ترى أنه اصطف مع المحتجين ضدهم، ما اعتبروه خذلاناً لهم"، وأضاف لـ "اندبندنت عربية"، "لم يكن الصدر يتوقع أن يكون رد الفعل من المرجعية بهذا المستوى"، مبيناً أن "رسالة السيستاني هي التي دفعت الصدر لإصدار الميثاق"، وتوقع الشريفي أن تكون الأمور سائرة باتجاه إيجاد بديل لعلاوي الذي لم يعد مقبولاً.
وعن ضغط المرجعية لإجراء انتخابات مبكرة، بيّن الشريفي أن "المرجعية لا تزال تدعم هذا الخيار، لكن الأدوات والوسائل في تحقيقها بيد الكيانات السياسية"، مبيناً أن "المرجعية لا تثق بالقوى السياسية في تحقيق ذلك".
خسارة التيار الصدري
ويرى الباحث والأكاديمي عقيل عباس أنه "كان هناك توافق بين السيستاني والصدر، إلى أن كسر الصدر هذا التوافق بموقفه الذي اصطف من خلاله مع الحكومة عندما أدخل القبعات الزرق في سياق مساعدة القوات الأمنية"، ويضيف لـ "اندبندنت عربية"، "الصدر قام بتلك الإجراءات في سياق تفاهم مع إيران يتعلق بتفكيك الاحتجاجات مقابل أن ترفع يدها عن الفصائل المسلحة الموالية لها وتمرير حكومة علاوي، فضلاً عن القيام ببعض الإصلاحات التي يطالب بها المحتجون".
ويشير إلى أن "هذه الطريقة التي انتهجها الصدر كانت الغاية منها جعل إيران والفصائل المسلحة تتخلص من ضغط الاحتجاجات ويتواصل مع النظام السياسي، ويكون التيار الصدري هو الفائز في النهاية، إذ أنهى التهديد للنظام السياسي الذي مثلته الاحتجاجات وحقق بعض المطالب الإصلاحية وبهذا يرضي المحتجين والطبقة السياسية"، ويلفت إلى أن "التيار الصدري وجد نفسه بين ضغطين، الاحتجاجات ورد الفعل على ما قامت به القبعات الزرق من جهة، ومن جهة أخرى، خطبة المرجعية عندما سحبت بساط الشرعية الثورية التي حاول الصدر أن يصوغ عبرها مشروعه"، ويعتقد عباس أن "مشروع الصدر انتهى وبدأت عملية التسوية"، مبيناً أن "التيار الصدري خرج خاسراً من المعادلة، حيث خسر حلفاءه المدنيين ولم يكسب خصومه السابقين من الفصائل ولم يقترب من السيستاني"، وختم "الشيء الوحيد الذي تبقى من مشروع الصدر هو ترشيح محمد علاوي ولا يبدو أيضاً أن لعلاوي حظوظاً حقيقية في تشكيل الحكومة المقبلة".