Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

من أحوال العرب

ساهم الأدب بتنزيل التاريخ منزلة الدين

حصار دمياط من قبل الأسطول الصليبي والبيزنطي (ويكيبيديا)

هناك ظاهرة غريبة يتميز بها مسار تشكل وعي التاريخ في العالم العربي وشمال أفريقيا، الوعي الجماعي والفردي على حد سواء، إذ على مر العصور السياسية والثقافية المتعاقبة موازاة مع تراكم الأحداث الفاصلة كالحروب والعمران والخراب، ظلت تجليات صورة "التاريخ" كإنجاز بشري في الذهنية العربية والمغاربية هي صورة "الدين"، ففي هذه الصورة يختلط الفعل والسلوك البشريان لزعماء أو قادة عسكريين أو ملوك أو خلفاء أو أمراء بسلوكيات وأفعال جاء ذكرها في سِيَرِ الأنبياء والرسل، وكثيراً ما تختلط قصداً، وبنيّة مُبيّتة، هدفها تزييف الوعي الجماعي، أعمال بعض الزعماء السياسيين عبر التاريخ بما جاء ذكره في الحديث عن بعض المعجزات الإلهية التي ذكرتها المتون الدينية، وكثيراً أيضاً ما يتقاطع، وبقصد أيضاً، الخطاب الديني الذي ينتمي إلى النصوص المقدسة أو إلى أحاديث الأنبياء والرسل بخطب الزعماء والخلفاء، إذ يتم إخراج الخطاب من سياقه التاريخي إلى سياق أيديولوجي آخر.

كلما ضاع مستقبل الشعوب وبدا المصير مغيماً وغير واضح المعالم، إذ تبدو حياة الفرد والمجموعات الاجتماعية غير مضمونة، بل مهددة بالحروب والمجاعة والخوف والظلم، إلاّ وعاد الفرد والجماعة أيضاً إلى البحث في الماضي عن بقعة ضوء في تاريخهم، فيصبغون عليها بعض أصباغ المدونة الدينية وبركات السماء وتأويلات إلهية غير منطقية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وكلما أراد الحاكم العربي أو المغاربي أن يمرر خطابه ويبرر تعسفه أو ظلمه، ويمنح وجوده بعداً "قدرياً" يربط ذاته بذوات الأنبياء ويربط خطابه بخطاب الرسل والأنبياء ويبحث عن طريق لوضع ما يقوم به في خانة "المنزل" و"القدري" و"اللامناص" منه.

وقد ساهم الأدب العربي والمغاربي، الشعبي والفصيح، شعراً وسيراً في تنزيل التاريخ منزلة الدين، ووضع ما هو تاريخي في مكان ما هو ديني، والبشري-السلطوي في موضع الإلهي أو النبوي، لقد سجن الشعر العربي خطابه الأدبي في ثنائية المدح والهجاء، وهي ظاهرة يتميز بها وبشكل واضح الخطاب الشعري العربي الفصيح منه والشعبي، وفي ذلك ارتبطت التجربة الشعرية بالخلفاء أو ببعض من حاشيتهم ممن كانوا أصحاب القرار، وأحال كل حديث عن هذه التجارب على الديني، ما أنتج لنا تقديس الخليفة والوزير والوالي ووضعه داخل غلالة من الأوصاف التي تحيل بشكل عفوي إلى الرسل والأنبياء.

وقد بدت بعض السِّير العربية التي تناولت حياة بعض الشخصيات الفاعلة والمفصلية في التاريخ والمسجلة في نصوص شعبية للعامة مؤكدة، ومبرزة الجانب التقديسي الديني ليجعلنا أمام صورة لفارس يتميز بمواصفات كائن خرافي يقوم بأفعال تُوحي بها إليه السماء، وأن الملائكة تحارب معه وأن الشياطين تعترض مسيرته، وأن هاتفاً غيبياً هو من يقود خطاه ويوجه جنده، لذلك وجدنا تقاطعات كثيرة في رسم ملامح بعض الشخصيات التاريخية العربية والإسلامية بما يشبه سير الأنبياء، فالاستراتيجيات الحربية التي يستندون إليها هي إيحاء من السماء، والسيف ليس آلة حربية بل هو قوة خارقة للعادة وغير منسجمة مع التاريخ ومع الجغرافيا، لذلك ضيع العرب التاريخ وضيعوا الجغرافيا أيضاً، ولم يجدوا سوى اللاهوتي كملتجئ لهم يأوي انتكاساتهم وأضغاث أحلامهم.

وبسبب هذه النصوص الأدبية والسيرية الخارجة عن مسار التاريخ، فقد اختلطت وجوه تاريخية بإيجابياتها وسلبياتها بوجوه الأنبياء والرسل، كما هي حال شخصية صلاح الدين الأيوبي أو خالد بن الوليد أو حتى عنترة العبسي.

ونظراً أيضاً للهالة الخرافية والدينية التي انطبعت في ذهنية العامة، فقد اختلطت لدى العرب أقوال بعض المصلحين المعاصرين بأقوال الصحابة من أمثال محمد عبده وجمال الدين الأفغاني، وتداخلت بعض أفعالهم في ذهنية العامة ببعض أفعال الأنبياء.

وهذه الحالة الثقافية والفكرية والاجتماعية التي تُغَلِّبُ الديني وتُغَيِّبُ التاريخي أو تضعه جانباً، أسهمت في غياب الفكر النقدي في العقل العربي، إذا كان هناك عقل أصلاً!! وهو ما أنتج حالة من الشلل الفلسفي، وأبعد فكرة طرح الأسئلة المحرجة السياسية والوجودية والاجتماعية وكرس الجهل المقدس والمؤَسَّس وعمّم ظاهرة غسيل الأدمغة.

إن ظاهرة "تَدْيِينِ" التاريخ، أي تحويله إلى دين، جرّ الوعي الجماعي ووعي النخب أيضاً إلى اعتبار كل من ساهم في الإصلاح الديني عربياً مهما كانت قوميته، أي إلغاء البعد الإثني في التاريخ، ومنحه صفة الانتماء إلى العروبة المرتبطة بالإسلام الأول، وبنبي الإسلام، فالأيوبي والبخاري والأفغاني والألباني والهمذاني وغيرهم عرب لأن صورهم انصهرت في مخيلة دينية وليست مخيلة تاريخية، وربطهم بالقومية العربية ليس من باب الشوفينية العنصرية ولا من باب أن بعضهم اندمج في الثقافة العربية، بل من باب أولوية الرؤية الدينية على الرؤية التاريخية.

منذ ولادة مفهوم الدولة الوطنية في العالم العربي وشمال أفريقيا، لم تتمكن هذه البلدان على اختلاف أنظمتها السياسية من وطنية إلى اشتراكية إلى ليبرالية إلى ملكية، من التحرر من "تديين" التاريخ، فالجميع لا يزال يقرأ التاريخ بالدين، ويُسَيِّر التاريخ بالدين، ومحاولاً تهميش الزمني le temporel وتكريس اللاهوتي le théologien والمواثيق والدساتير العربية والمغاربية جميعها تُثَبِّتُ الدين سلطة فوق جميع السلطة، فالحُكم بالدين وليس بالتاريخ، وحين يكون الحكم باسم الدين يساء إلى الدين، فكثيراً من الحروب عبر التاريخ كانت بتوقيع ديني بين من يمثلون رموز الدين نفسه، في منبعه، نُذَّكِّر هنا بما حدث في التاريخ الإسلامي من اغتيال بعض الخلفاء الراشدين واقعة الجمل وقتل مئات الصحابة.

لقد وجد المواطن العربي والمغاربي نفسه محاصراً ذهنياً من جهة بثقافة أدبية تكرست وازدهرت بين المدح والهجاء، ومن جهة ثانية بفقه واقع ضحية ثنائية الحرام والحلال، أمام ذلك يعيش المواطن بعيداً من فكرة ثنائية "الحر والعبد" أو "الجائع والشبعان" أو "الجاهل والعالم" ليعيش ضحية "المؤمن" و"الملحد"، وهي الثنائية التي اغتصبت الذهنية العربية وجرت النخب نحو جدار من دون منفذ.

لقد صُوِّرَ للمواطن بأن كل انتصار هو باسم "الدين" وكل هزيمة هي بسبب "التفريط في الدين" ومن هنا تأسست فكرة "تديين" التاريخ.

اقرأ المزيد

المزيد من آراء