Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"أبيي"... الشوكة في الخاصرة

مقتل 32 شخصاً بين دولتي السودان الشمالي والجنوبي

جنديان من قبيلة دينكا (غيتي)

أشعل مقتل 32 شخصاً في هجومٍ على قرية كلوم بمنطقة أبيي الفاصلة بين دولتي السودان الشمالي والجنوبي، فتيل التوتر مجدداً. صوت الطلقات في هذه المنطقة التي تتقاسم أراضيها قبيلتا المسيرية (شمالية من أصول عربية) ودينكا نقوك (جنوبية من أصول أفريقية)، لم تكن كما في قصة الكاتب المصري محمود البدوي "طلقة في الظلام" فحسب، وإنَّما تعدى الوضع زمن المقاومة وأدبها إلى زمنٍ مسكون بالنزاع الأبدي، حيث يزعم الطرفان هناك أنَّ كلاً منهما هو صاحب الحق والمُعتدى عليه.

لا يفصل بين الاتفاقيات الموقّعة بين الأطراف المتقاتلة سوى حمم من  فوهات الأسلحة الثقيلة وقذائف الاتهامات بالعدوان من الجانبين حتى اقترب الوضع من أن تعلن أبيي المكلومة "منطقة حرب".

جدلية ملكية أبيي

 لا تزال تبعية منطقة أبيي رسمياً لأيٍّ من الدولتين: السودان أم جنوب السودان، وشعبياً لأيٍّ من القبيلتين: المسيرية أم دينكا نقوك، تمثل أحد الملفات الشائكة بينهما برغم تكوين إدارية مشتركة إلى حين حسم القضية. وهذه المنطقة الغنية بالنفط التي تتخذ موقع الخاصرة في السودان القديم وعلى الحدود بين الدولتين بعد انفصال جنوب السودان عام 2011، ما زال سكانها متنازعة إثنيتهم بين قبيلتين هما المسيرية ذات الأصول العربية التي كانت تستقوي بحكومة الخرطوم السابقة، وبين قبيلة الدينكا الجنوبية المدعومة من حكومة جنوب السودان، التي ينحدر منها رئيس الدولة سلفاكير ميارديت.

عرّفت محكمة التحكيم الدولية في لاهاي منطقة أبيي بأنّها المنطقة التي حوّلت من جانب واحد من قبل الإدارة الاستعمارية عام 1905 من الجنوب إلى الشمال، حيث أُحيلت فيها مشيخات دينكا نقوك التسع إلى إقليم كردفان.

واعتبرت قبيلة المسيرية أنّ تعريف المحكمة الدولية، وثيقة تؤكد تبعية أبيي للشمال. في حين استندت قبيلة دينكا نقوك على رواية الرحالة براون، التي أشار إليها في مذكراته، التي قال فيها إنَّه عندما زار المنطقة عام 1798 وجد مجموعة من الدينكا تسكن في المناطق المتاخمة لبحر العرب. ويرى دينكا نقوك أنَّهم سكنوا على ضفاف نهر الزراف ومن ثم انتقلوا إلى مناطق بحر العرب قبل المسيرية، ولا توجد وثائق تثبت أو تدحض زعم أيٍّ من الطرفين.

  وبالرغم من عدم الاستقرار في المنطقة التي تصرُّ فيها كل من القبيلتين على تبعيتها لها، إلَّا أنّهما كانتا تتقاسمان النشاطات الاقتصادية المختلفة، التي يغلب عليها الرعي، بتحديد مساحاتٍ معلومةٍ باتفاق زعماء العشائر لا تتجاوزها أي منهما، دون قعقعة لسلاح ولا أزيز مدافع، وحدها الحكمة الأهلية هي التي أسهمت ولزمن طويل في حل المشكلات ودياً.

تعايش أم لا تعايش؟

 قضية أبيي يفضحها طموح شعب المنطقة في العيش السلمي والرعي على سهولٍ واحدة، كما تكشفها حيرة سُحبها المثقلة على قمة هضبة "النيمانج" التي بفعل أحابيل السياسة لم تدرِ أتمطر جنوباً أم شمالاً.

ولأنّ الحرب تقوم على طموح القسمة الضيزي لمن يفترض غياب عقولهم في ظلام السلطة، وقسوة قلوبهم عن إدراك معنى هذا التعايش، يكون لزاماً على شعب المنطقة أن يدفعوا ثمن صمتهم منذ أيام السير "ريجنالد ونجت" الحاكم العام الإنجليزي الذي قرر في 1905 ضم بحر الغزال إلى كردفان لاعتبارات إدارية، إلى أن أصدر السكرتير الإداري السير هارولد مكمايل، قراراً بوضع حدٍّ إداري فاصل بين قبيلتي المسيرية ودينكا نقوك.

ومن ثم مروراً بعثرات التاريخ السياسي إلى اليوم الذي برزت فيه قضية أبيي كقضية عالقة منذ توقيع اتفاقية السلام الشامل بنيفاشا الكينية عام 2005 بين الحكومة السودانية السابقة والحركة الشعبية لتحرير السودان، وبعد أن كان النزاع بين إقليمين داخل وطن واحد تحوّل إلى نزاع بين دولتين، بعد انفصال الجنوب.

 وبهذا كانت نتيجة اتفاقية نيفاشا للسلام، تقسيماً وسلاماً مموهّاً، بل حرباً أخذت أول ما أخذت في طريقها من مهر توقيعها بدمه، العقيد جون قرنق زعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان وأحد الطرفين الرئيسين الموقعين على الاتفاقية الذي قضي في حادثة طائرة في 30 يوليو (تموز) 2005، بعيد تنصيبه النائب الأول لجمهورية السودان بأيامٍ معدودة. وبذلك يظهر كيف أنّ أمر السلام ليس مرهوناً بتوقيع الاتفاقيات، وقضية التعايش بين أبناء الوطن الواحد تعيق مجراها رواسب ضغينة الظلم من حقوق منتزعة أو مطموعاً فيها.

حرب البروتوكولات

وفقاً لما بذله المفاوضون في اتفاقية نيفاشا، فإنَّ قبيلتي المسيرية ودينكا نقوك، حصلتا على مكاسب اقتصادية كبيرة أبرزها تخصيص جزء من عائدات البترول المنتج في أبيي، وإنشاء صندوق تنمية وإعادة بناء وتأهيل أبيي لمعالجة برامج الإغاثة وإعادة التوطين والاستقرار والدمج والتأهيل والبناء. لذا، بات مطلوباً من القبيلتين أن تتحسسا مواضع هذه المكاسب ومظانها قبل أن يقودهما أيٍّ من الشريكين إلى مهاوي فقدانها.

 تم تكليف زعماء الإدارة الأهلية من قبيلتي المسيرية ودينكا نقوك للتوقيع على اتفاقية كادوقلي، التي تمت في  يناير (كانون الثاني) 2011، إلى جانب وزيري الداخلية بحكومتي الشمال والجنوب لثقة شريكي الحكم حزب المؤتمر الوطني الحاكم والحركة الشعبية لتحرير السودان في دور هؤلاء الزعماء ومكانتهم عند أهل القبيلتين.

كانت تلك هي الصورة الزاهية لاتفاق كادوقلي، أما نقيض الصورة فحملته الأيام مخفياً وسط بهجة نتيجة استفتاء جنوب السودان التي قضت بانفصال الجنوب، إلَّا أنَّه ترعرع عندما زادت الاشتباكات وأعداد القتلى والجرحى في الصراع بين القبيلتين، وطغى عليه حلم تحقق الدولة المستقلة.

لم تندمل الجراح حتى فُتحت أخرى بقطع الطريق القادم إلى أبيي من جهة الشمال، وقطع الطريق أيضاً على مسارات الرعي لقبيلة المسيرية المتجهة إلى الجنوب، ليحدد كل طرف وجود الآخر بتكتل عسكري دون تحديدٍ لطبيعة مهمته.

 في ظل تطور هذه الأحداث ما كان بالإمكان الرجوع إلى ما قبل الاستفتاء، ولكن الحل الوحيد كان في احتواء أحداث العنف بتوقيع اتفاق بين قبيلتي المسيرية ودينكا نقوك وهو ما تعارف عليه باتفاق كادوقلي بولاية جنوب كردفان.

يقضي الاتفاق بدفع الديات والتعويضات لأحداث عام 2010، كما يؤمن على فتح الطرق والمسارات لضمان الرعي. ولتنفيذ آليات هذه الاتفاقية فقد تم الاتفاق أيضاً على أن تكون مسؤولية الجاني شخصية في الجرائم الجنائية أمام القانون وذلك حتى يتم السيطرة على معظم الانفلاتات الأمنية وحتى لا تؤخذ القبيلة كلها بذنب فرد واحد.

 وقبل أن يحقق الاتفاق الحلول المرتجاة، نكص كل جانب عن الاعتراف بحق زعماء الإدارة الأهلية بالتوقيع على اتفاق رأوا أنَّه يعزز وجود الجانب الآخر في المنطقة مما اعتبروه تساهلاً وتنازلاً عن كثير من الحقوق.

وهكذا تبخر إيمان زعماء الإدارة الأهلية الذي قدموا به للتوقيع على الاتفاقية بأنَّ الأصل في العلاقة الأزلية بين قبيلتي المسيرية ودينكا نقوك هو السلام والتصالح والتعايش السلمي والتمازج والتصاهر، والعيش معاً كشركاء في الكلأ والماء والأرض، لأنَّ قلق المنتقدين للاتفاقية يسّرع من وتيرة إعلان أبيي شمالية أو جنوبية في وجودها مع وجود كيان آخر مقيم على الأرض هو الوجود العسكري.

 فرض اتفاق كادوقلي واقعاً لم يلتزم الطرفان بأيٍّ من بنوده رغم التوقيع فأفرز تداعيات فتحت الطريق على نيران صراع قديم متجدد تم فيه حرق مناطق بمن فيها وما فيها.

لعنة النفط

 ليست أبيي وحدها وإنّما السودان نفسه، الـذي جعلته الكوارث المتعاقبة وعاءً للفناء حيث ما زالت تسكن ضمائر حكامه نزوات وغرائز الالتفاف حول السلطة. وكل هذا يحدث على جسد الوطن الذي تناثرت أجزاؤه أشلاء.

وما وصول الجنوب إلى الانفصال، ولا استفحال أزمة الشرق، ولا تعقيد مشكلة دارفور إلا تكسّر للنصال على جسد الوطن الأعزل المحفوف بالنعرات القبلية والتكتلات العشائرية. صار النِّفط لعنةً لم تقف عند حدِّ تلميح الحكومة السابقة بتأجيل الاستفتاء إلى حين حل مشكلة أبيي وترسيم الحدود، لأنَّه لن يتم في إطار دولتين منفصلتين وإنما يجب أن يكون في إطار الدولة الواحدة. كما أنَّ لعنة النفط كذلك لن تقف عند اقتراحٍ بضم أبيي للجنوب في إطار صفقة شاملة مع الشمال حول ترسيم الحدود والعلاقات الشمالية الجنوبية.

ما دامت هناك قضية في أبيي تسيطر على أمل القضاء على مشاهد الحرب، لن يرى المسيرية أو الدينكا جمال بحر "كير" ولن يستظلوا بغزارة أشجار الأبنوس والهجليج والطلح، ولن يلوّن أجسادهم لهيب الطقس الاستوائي، ولن تحتويهم رحابة بيوت قرى "الميرم" التي تغطيها ثمار الباباي. والأعظم من ذلك أنّه لن تُحلّ معضلة أبيي وما زالت تتدلى من عنق الوطن عقدة العنصرية، تشنق الجميع في غابتها الاستوائية.

المزيد من تحلیل