Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

سيّدة العمران الحديث وفنونها الجميلة

"المتحف الوطني لفنون القرن الواحد والعشرين" لزها حديد: الإبداع في الطريق

مبنى المتحف وسط بيئته

في ما لا يقل عن مدينتين عربيتين، يمكن حتى اليوم، بعد ثلاث سنوات ونيّف من رحيل المهندسة المعمارية العراقية/البريطانية زها حديد، يمكن لهاوي الفنون الجميلة أن يجلس في مكان معيّن ليراقب بأم عينيه كيف تتكوّن أمامه تحفتان فنيّتان بديعتان تحتاج كل منهما إلى سنوات أخرى قبل أن تكتمل. ونعني بقولنا هذا، بالطبع، أن هذين الصرحين المعماريين لا يزالان يشكلان بعد رحيل مبدعتهما نوعاً من "فن قيد التكوّن"، وهو أمر قد يصعب أن يكون متاحاً لأي نوع من أنواع الفنون الأخرى، حيث نعرف أن العمل الفني يتوقف إنجازه ما إن يرحل صاحبه حتى وإن كان ينتمي إلى فن جماعي كالسينما مثلاً. في العمران لا تسري هذه القاعدة كما نعلم بالنظر إلى أن المصمّم المعماري، حين ينجز تصميماته ويتم الإتفاق عليها مع أصحاب الشأن، تنتقل الخرائط إلى التنفيذ ودائماً تبعاً لرغبات المبدع الذي يقوم متابعوه على حسن سير العمل حتى بعد رحيله، بحيث يطلع المبنى المعني متطابقاً تماماً مع المشروع المبدئي، كقاعدة عامة.

حلم تشكيليّ

والحال أننا في تقديمنا أعلاه لم نتحدث، بصدد مبنى المسرح الذي يقام في الرباط المغربية على ضفة نهر أبي الرقراق، كما بصدد المخازن الكبرى التي تبنى وسط أسواق بيروت في العاصمة اللبنانية، عن قضية عمرانية بقدر ما تحدثنا عن "فن قيد التكون". فثمة في العالم ألوف وأكثر من ألوف المباني التي يرحل مصمموها قبل اكتمالها فلا تعتبر أمراً إستثنائياً. ومن هنا نفرق بين الحالين ونعني تحديداً ما نقول. فالواقع أن كل مبنى شيدته تلك المبدعة العراقية التي كانت إستثنائية ليس فقط بين النساء العراقيات والعربيات، بل بين نساء العالم، إنما هو أقرب إلى أن يكون تحفة فنية – بالمعنى الذي تقصده تحديداً عبارة "فنون جميلة" – معروضة أمام مرأى الناس جميعاً في رقعة معينة في مدينة أو غير مدينة. صحيح أن في إمكاننا أن نطبق هذا القول على إنجازات كثر من المهندسين المعاصرين في العالم أجمع من كالاترابا إلى آندو ومن جان نوفيل إلى إنزو بيانو، فتلك سمة أساسية من سمات عمران زمننا هذا، بيد أن في إمكاننا أن نقول زها حديد تحديداً أوصلت الأمر إلى ما يقرب من جنون الفن، حيث أن كل مبنى مما شيّدت خلال العقود الأربعة الأخيرة، أتى أشبه بـ"منحوتة" ضخمة، أو بلوحة تشكيلية عرفت طريقاً إلى الجمهور العريض. ومن هنا ما نقوله دائماً أن حلم زها حديد كان حلماً تشكيلياً بقدر ما كان حلماً عمرانياً.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

في نهاية الأمر كانت زها حديد حين انتقلت من الرسم إلى العمران – دون أن تتخلى عن الأولى حتى مراحل متقدمة من حياتها، وإن تحوّل الرسم نفسه لديها إلى ما يشبه التصميمات الهندسية -، كانت تبدو وكأنها توسّع أفق لوحتها الفنية وتحاول أن تجعل من النحت والرسم فنا عملاقا موحدا. ومن هنا لن يكون من المفاجىء أن نرى أن عدداً لا بأس به من إنجازات زها حديد كُرّس لمبان لها علاقة مباشرة بالفنون والمكتبات، على شكل متاحف ودور أوبرا ومسارح وما شاكل ذلك. ولعل الشاهد الأبرز على ذلك مبنى شيّدته "المهندسة المرأة الوحيدة في العالم" التي حازت على جائزة بليتزكر في العام 2004 وهي المعتبرة بالنسبة إلى العمران أشبه بنوبل الأدبية أو العلمية -، وهذا المبنى هو"المتحف الوطني لفنون القرن الواحد والعشرين" في روما.

جزء من بيئة محيطة

حسب المرء اليوم أن يحلق بطائرة على علو منخفض فوق العاصمة الإيطالية ليدرك ما تحدثنا عنه أول هذا الكلام، وذلك بالطبع حتى من قبل أن يدخل ذلك المتحف المذهل ويتجول في أرجائه كما يفعل ألوف الزائرين يومياً مأخوذين ليس بالأعمال المعروضة في "قاعات المتحف" بل بالمتحف نفسه. والحقيقة أننا إذا كنا نضع هنا كلمة "قاعات" بين معقوفتين فما هذا إلا لأن التشكّل التقليدي لأي متحف للفنون على شكل قاعات منفصلة، لا وجود له هنا. هنا يبدو المتحف متشكّلا من كلّ ضخم تفضي كل بقعة فيه إلى بقعة أخرى وتبدو الأدراج المنزلقة نفسها جزءاً من المتن العمراني لا مجرد دروب توصل من بقعة إلى أخرى.

حتى وإن كانت زها حديد قد حققت هذا الإنجاز العمراني في مرحلة من مسارها المهني كانت لا تزال فيها مجبرة على النضال لفرض آرائها ورؤاها في بيئة باهظة الكلفة ويسعى الممولون فيها إلى لجم أحلام المصممين المبدعين، فإنها عرفت ودون تنازلات تذكر، كيف تجعل المشروع مشروعها الخاص بحيث أتى المبنى كنوع من خاتمة لمرحلة أولى من عملها قبل أن تنتقل في مرحلة تالية إلى فرض "جنونها" الإبداعي الخاص على تلك المشاريع، متسلحة هذه المرة باسم بات ضخماً وبدهشة كانت تقرب من الذهول لدى مكلّفيها بالمشاريع حين تعرض تصميماتها أمامهم. ومن هنا حتى نقول أن متحف روما هذا كان واحداً من آخر المشاريع التي إضطرت فيها إلى المساجلة بصعوبة كي تفرض رؤيتها، خطوة لا بد من قطعها على ضوء متابعتنا سيرة زها حديد المهنية وإدراكنا حجم "المعارك" التي خاضتها في سبيل تلك الرؤية المحوّلة كل عمل عمراني إلى ما يشبه القطعة الفنية.

هكذا تكلمت زها

مهما يكن من أمر لا بد أن ننتبه إلى جملة من ظروف جعلت هذا المتحف يستغرق عشر سنوات قبل أن يُنجز، هي السنوات العشر ونيّف (1998 – 2010) التي تعززت فيها مكانة زها ولا سيما أن عام حصولها على الجائزة المميّزة التي جعلت لها مكانة إستثنائية بين النساء كما بين المصممين، يتوسط تلك المرحلة. ولعل خير من تحدث عن ذلك الإنجاز كان المصمّمة نفسها التي في مجال شرحها لما توخّت الوصول اليه من خلال عملها على ذلك المشروع ربطته مباشرة بالبيئة المدينية للمنطقة التي أُقيم فيها "حيث يبدو مرتبطاً تماماً بالمركز المديني المحيط به مع بروز يكوّنه شكله المتميّز ضمن تلك البيئة التي سرعان ما يبدو أنه هو الذي يجتذب بقية العناصر العمرانية المحيطة به إليه" ولا شك أن هذا القول يذكرنا، مثلاً، بالمكانة التي يحتلها مبنى مركز جورج بومبيدو وسط باريس للمصمم إنزو بيانو الذي غالباً ما تجري المقاربة بين أعمال زها حديد وأعماله. وهذا بالنسبة إلى التموضع الخارجي للمبنى و"إنتمائه" إلى البيئة المحيطة. أما بالنسبة الى التكوين الداخلي فتتابع زها قائلة: "إن المسار الذي يسلكه الزائر عبر المتحف وفي أرجائه إنما هو مسار عبر أجواء شديدة التنوّع وعبر مناظر "مفلترة" تماما وبيئات ضوئية مختلفة في كل مكان عن بعضها البعض. وكل هذا في وقت يشعر فيه مسؤولو المتحف وكذلك الزائرون بالطبع، بأنهم يتمتعون بمقدار كبير من حرية الحركة والتنقل دون أن يكونوا ملزمين بسلوك خط سير محدّد. ومن الواضح أن هذه الظاهرة قادرة على امتصاص تجربة الزائر وإعطائه مكافأة على وجوده هنا. وذلك عبر دعوته في كل لحظة إلى حوار حرّ يقيمه مع البيئة التي يتجول فيها ولكن خاصة مع التحف المعروضة أمامه". والحقيقة أن مثل هذا الكلام سيبدو عصياً على أن يُدرَك بوضوح لمن لم يعتادوا زيارة متاحف الفن، أما الرواد المعتادون فسوف يدركون ليس فقط أهميته المطلقة بل كذلك، وخاصة، كونه يمثل جديداً في عالم المتاحف يجعل من متحف روما هذا، جديراً باسمه كـ"متحف لفنون القرن الواحد والعشرين" كما يجعل زها حديد (1950 2016) جديرة بلقب رسّامة العمران ومعماريّة الرسم.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة