منذ قرابة الثلاثة أسابيع، توقّفتُ عن تناول الطعام، واضعةً جسدي وحياتي على المحك فيما أقفُ في البرد القارس بالخارج يوماً بعد يوم. هذا من زاويتي، أما من زاوية الكارثة البيئية والمناخية الحاليّة، ما أفعله لا يُعدّ شيئاً، فالوقت يُداهمنا.
والحقيقة أنّ قراري الإضراب عن الطعام لا يزيد عن كونه مجرّد مبادرة فرديّة يائسة وملاذاً أخيراً. إذ يحتّم علي عملي كمحاضِرة جامعيّة، تهيئة الشباب والشابات للمستقبل، لكن عن أيّ مستقبلٍ نتكلّم؟
بصفتي ناشطة في "الإضراب العالمي عن الطعام لمناهضة الجوع" و"التمرّد على الانقراض"، شاركتُ وأُشارك في الاعتصامات السلميّة أمام مقرات الأحزاب السياسية البريطانية في لندن، مطالبةً المرشحين والأحزاب على السواء الاعتراف بالطبيعة الملحّة لهذه الأزمة والالتزام بالتحرّك الفوري. فمن دون إجراءات فعليّة، يواجه مليارات الأشخاص خطر المجاعة والموت الناجمين عن الانهيار البيئي والمناخي. وهذه الأزمة لن تنتظرنا.
وهذا ما شدّد عليه أمين عام الأمم المتحدة في الحفل الافتتاحي للقمة المناخية في مدريد هذا العام، عندما وصف السلوك البشري الحالي بـ"الحرب ضدّ الطبيعة" وحذّر من اقترابنا من نقطة اللاعودة. علينا أن نتذكّر أننا نحن الطبيعة. وعلينا أن نتذكّر تحذيرات العلماء الثُقات من تجاوز كوكب الأرض نقاط تحوّل عدّة باتجاه فجوات هدّامة لا يُمكن رأبها، بسبب أفعالنا البشرية. وعلى الرغم من إعلان أكثر من 11 ألف عالم حالة الطّوارئ المناخية على مستوى العالم، ما برحت حكومتنا عاجزة عن التحرّك بسرعةٍ كافية.
ولمّا طلبنا الاجتماع بقادة الأحزاب السياسية، سألناهم دعم قانون الطوارئ البيئية والمناخيّة المعروف بـ"قانون المطالب الثلاثة". على الحكومة، برأينا، أن تُجاهر بالحقيقة من خلال إعلان حالة الطوارئ البيئية والمناخية والتحرّك الفوريّ لكبح خسارة التنوّع البيولوجي وتصفير انبعاثات الكربون بحلول 2025، وأخيراً وليس آخراً، إرساء هيئة تُعنى بالعدالة البيئية والمناخية ويقودها مواطنون.
وعن إضرابي عن الطعام، يُمكن القول إنّه إمتياز. أنا اخترتُ بنفسي ألاَّ آكل، لكنّ 820 مليون شخصٍ غيري لا يملكون حرية الاختيار. وببساطة، إنهم يعيشون من قلّة الطعام. ومع ارتفاع درجات الحرارة وتزايد شدّةَ الأحوال المناخيّة، مع ما ينتج عنهما من حرائق ونوبات جفاف وفيضانات ونزوح جماعي، يُتوقّع للاضطرابات والنقص في الغذاء أن يعمّ العالم، ويُتوقّع لحوالى 45 مليون شخصٍ في جنوب أفريقيا أن يُواجهوا خطر الأزمة الغذائية التي تفرض نفسها علينا جميعاً. نعم، هذا صحيح. من المرتقب أن يتسبب ارتفاع درجات الحرارة وتزايد شدّة الأحوال المناخيّة مع ما ينتج عنهما من حرائق ونوبات جفاف وفيضانات ونزوح جماعي، في إفساد المحاصيل ورفع أسعار المواد الغذائية وتفشّي حالات عدم الاستقرار والنّقص في الغذاء على صعيد العالم. وبالنسبة إلى بلادنا تحديداً، فقد بدأت الفيضانات وموجات الحرّ الشديد بعرقلة قدرتنا على إنبات المحاصيل. وبما أننا بلدٌ يستورد نصف ما نستهلكه من طعام، كيف عسانا أن نبقى على قيد الحياة؟
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لا شك أنني محظوظة. وحالياً، أملك إمكانية الوصول إلى الطعام وخيار تناول الطعام من عدمه. أتمتّع بجسدٍ معافى وقويّ وأُحيط نفسي بلفيفٍ من الأقرباء والأصدقاء. لكن، أولسنا جميعاً محظوظين وأحرار بطريقة استخدامنا لامتيازاتنا، بمعنى أنّ بإمكاننا تسخيرها لتحقيق مصلحتنا الخاصة أو لمكافحة التغييرات التي تتهدّد عالمنا الثمين اليوم وغداً!
أنا الآن بصدد العودة الحذرة إلى الأكل. ويعني هذا أنني أتناول الطعام من جديد لكن بطريقةٍ بطيئة ومصحوبة بنصائح وفحوصات طبيّة مستمرة. صحيح أنّ جسدي ضعيف وحركتي بطيئة، لكني قوية بقلبي وعقلي. إذ انكشفت أحاسيسي لمّا فقدتُ قدرتي على ابتلاعها مع الطعام أو لمّا بدأتُ أريح نفسي لعدم الشعور بالخوف أو الحزن وأتلقّى هدايا الحب والتواصل. أجد الراحة والتعزية في أصدقائي وفي الأحاديث الغنية مع المارة. علينا أن نفهم كم نحن ضعفاء وكم نحتاج بعضنا البعض في شبكة الحياة التي ننتمي إليها.
لا تعني الأزمة المناخية دولاً بعيدة ولن تحدث في المستقبل البعيد... إنها هنا الآن وتؤثّر فينا جميعاً. وتتمثّل الطريقة العمليّة الوحيدة للتغلّب عليها في تكاتفنا وتواضعنا وتعالينا على خلافاتنا كي نعزز قدرتنا على التكيّف. وينسحب هذا الأمر على السّياسيين أيضاً.
في الوقت الحاضر، يبلغ عدد الداعمين لـ"قانون المطالب الثلاثة" من المرشحين للانتخابات زهاء 60 مرشحاً؛ ولا يكف هذا العدد عن التزايد يومياً. ففي إطار اعتصاماتنا اليومية، تمكّنا لغاية اليوم من تجاذب أطراف الحديث مع نواب قادة حزبي العمال والديمقراطيين الليبراليين وعقدنا اجتماعاً لمدة ساعة مع نائب رئيس الحزب الأخضر وغيره من كبار الأعضاء، بإنتظار اللقاء الذي سيجمعنا بقيادات تلك الأحزاب. والجدير ذكره أنّ آدم برايس من حزب "بلايد سيمرو" كان أول قائد يلتقي بنا لمناقشة عملية دعم القانون بكلّ جدية.
أما المحافظون، فلم يتواصلوا معنا أبداً طوال الأيام الـ21 التي مكثنا فيها خارج مقرّهم. واستناداً إلى ذلك، يستمر الجدّان بيتر (76 عاماً) وماركو (67 عاماً) في إضرابهما عن الطّعام أمام مقرّ حزب المحافظين للأسبوع الرّابع على التّوالي. والأرجح أن يبقيا على هذه الحال حتى حلول موعد الانتخابات، عساهما ينجحان في إقناع بوريس جونسون على الخروج والتحدّث إليهما.
ثمة حاجة ملحّة إلى اتّخاذ إجراءات عاجلة. سنقترع هذا الأسبوع وكلّنا حاجة للسياسيين كي يستخدموا سلطتهم للتحرك ضدّ أسوأ أزمة في تاريخ البشرية. إنها ليست مجرد انتخابات أخرى؛ إنّها الانتخابات المنتظرة للتصدّي للإنهيار المناخي.
* بترا ميتزيغر هي ناشطة في "التمرّد على الإنقراض" ومحاضرة في الفن والتّصميم في جامعة "سنترال سانت مارتنز".
© The Independent