يهدف الفن إلى جعلنا نشعر بالأشياء. الأفلام والأغاني الشعبية واللوحات والكتب والمسرحيات، جميعها لديها القدرة على إثارة الفرح لدينا والخوف والعار والضحك والملل والحزن. يمكنها أيضاً أن تثير الغضب الشديد، ولهذا السبب أبذل ما في استطاعتي لتجنّب مشاهدة أفلام لارس فون ترير. لكن ما لا يفعله الفن هو التسبّب في زرع شخصية بكاملها، وتحويل أفرادٍ كانوا مسالمين إلى مهووسين يشهرون آلاتٍ حادّة.
إنه لمن المستغرب أن يحتاج ذلك توضيحاً في السنة 2019. ومع ذلك، بعد سحب الفيلم البريطاني "بلو ستوري" (القصة الزرقاء) من سلسلتي صالات عرض في نهاية الأسبوع على أثر اندلاع شجار في إحدى صالات "فو" Vue في بيرمنغهام، ها نحن هنا. فالفيلم الذي أخرجه أندرو أونوبولو، المعروف أيضاً بإسم "رابمان"، يروي قصة صديقي طفولة يتحوّلان إلى عدوّين في سنّ المراهقة، بسبب قتال العصابات في لندن ضمن ما عُرفت بـ "حرب الرمز البريدي". وقد تلقّى المخرج مديحاً على تصويره دورة العنف والعقاب التي تنتهجها ثقافة العصابات.
وفي مقال نشرته أسبوعية "ذي أوبزرفر"، أثنى الناقد السينمائي سيمران هانز على العمل "الذي أكد على مأساة البراءة الفاسدة، والرموز المشوّهة، ومرحلة ما بعد الصدمة." لكن ترحيب النقّاد بالفيلم لم يعنِ الكثير لمجموعة صالات العرض "فو" التي تذرّعت بمسألة الحرص على سلامة مرتادي صالاتها لوقف عرضه على شاشاتها. ووجّهت إدارتها من خلال هذه الخطوة اللوم ليس إلى أولئك الذين بدأوا القتال، بل إلى فيلم "بلو ستوري" نفسه.
ليست هذه هي المرة الأولى التي ينشب فيها عنف داخل قاعات السينما، ولن تكون الأخيرة. ومع ذلك، عندما هاجمت مجموعة من المراهقين رجلاً أثناء عرض فيلم "بوهيميان رابسودي" Bohemian Rhapsody في بورتسموث العام الماضي، لم يُقدَّم أي اقتراح بوجوب وقف عرض الفيلم. وعندما قُتل 12 شخصاً أثناء إطلاق مسلّح النار خلال عرض فيلم The Dark Knight Rises في أورورا بولاية كولورادو الأميركية، عام 2012، كان من المفهوم عموماً أن الجاني هو المسؤول وليس باتمان. لقد تمّ التعامل مع فيلم "بلو ستوري" باعتباره السبب الرئيسي في شجار بيرمنغهام، وهذا يعكس الكثير ممّا يحدث في العالم الذي نعيش فيه. فالفيلم قدّم مجموعة من الممثلين السود، وعمل عليه صانعو أفلام سود، ويتناول قضايا تؤثّر بشكل كبير في المجتمعات السوداء، وهؤلاء هم أكثر عرضة للشك والمساءلة من الأفلام التي تصنّع من جانب البيض ومن أجلهم، ومن بطولة ممثلين منهم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
مع ذلك ، فإن الخوف من الفن وخصائصه المفسدة، كان موجوداً على مرّ الدهور، ولا يقتصر على السينما وحدها. فاللوحة التي رسمها الفنان الفرنسي غوستاف كوربيت في القرن التاسع عشر بعنوان "أصل العالم"، والتي جسّدت صورة مقرّبة لفرج المرأة، اعتُبرت خطرة للغاية كي تظهر في حياة فنّان، بينما استغرق الأمر محاكمةً مثيرة في العام 1960 لرفع الحظر عن عرض فيلم Lady Chatterley’s Lover المستوحى من رواية دي إتش لورانس عن علاقة غرامية. ولطالما كان موسيقيّو الروك هدفاً لشرطة الأخلاق، فقد تلقّى المغنّي ماريلين مانسون تهديدات بالقتل وبتقطيع أجزائه، بعد مزاعم عن أن مرتكبي مذبحة كولومبين في العام 1999 كانوا من عشّاق موسيقاه (دفعت ولاية ساوث كارولينا له مالاً في الواقع، من أجل عدم تقديم حفلاته الموسيقية هناك). طبعاً لم يكن مانسون مسؤولاً عن أعمال القتل التي وقعت في كولومبين بمقدار ما كانت فرقة البيتلز مسؤولةً عن أعمالٍ حملت توقيع سميّه شارل مانسون، الذي بعدما أمر بمقتل شارون تيت وعائلة لابيانكا في العام 1969، ادّعى زعيم الطائفة أن رسائل مموّهة ضمن "وايت ألبوم" لفرقة البيتلز هي التي دعته إلى القيام بذلك.
وينصبّ عادةً غضبٌ من نوع خاص على الأفلام التي تُعدّ سياسية جداً أو جريئة للغاية جنسياً أو شديدة العنف، وبالتالي يمكن أن تلحق الضرر بجمهور المشاهدين. ففيلم Taxi Driver (سائق التاكسي) التي تولّى بطولته الممثل روبرت دينيرو، يُزعم أنه كان له دور كبير في أوهام جون هينكلي جونيور ومحاولته اغتيال الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان في العام 1981. أما فيلم A Clockwork Orange للمخرج ستانلي كوبريك، المقتبس عن رواية أنطوني بورغيس، والمتضمّن مشاهد تعذيب وعنف جنسي، فقد سُحب من صالات العرض السينمائية بناءً على طلب كوبريك نفسه، بعدما بدأت تقارير تتحدّث عن وقوع جرائم حقيقية حصلت بتأثير من أحداث الفيلم. هذه السنة، تعرّض فيلم "جوكر" لانتقاداتٍ بسبب تعاطفه مع قاتلٍ مختلّ عقليا، وذهب بعض المعلقين إلى وصف المحتوى العنيف فيه بأنه "خطير". وقد أدّت تلك الدعاية المهتزّة التي سبقت العروض إلى اتّخاذ الشرطة سلسلة إجراءات وتمركزت خارج عدد من دور العرض في الولايات المتحدة لمنع وقوع اضطرابات.
قد تكون في فيلمٍ ما جوانب غير محبّبة أو عنف يمكن الاعتراض عليه انطلاقاً من الذوق الشخصي أو بناءً على قاعدة اللامعقول، هذا شيء، لكن القول إنه ينبغي ألا يكون موجوداً خوفاً ممّا قد يثيره، فهذا شيء آخر. ولو أخذنا هذه الفكرة إلى نهايتها المنطقية، فسنُضطر إلى التفكير جدّياً في منع الأطفال من مشاهدة أفلام الكرتون "توم أند جيري" خوفاً من الأضرار التي يمكن أن يحدثها هؤلاء الصغار بواسطة مكنسة منزلية، أو منع أفلام كرتون Wile E Coyote، مخافةً أن تؤدي إلى زيادة كبيرة في مبيعات مادّة الديناميت.
هناك أسباب لعدم تشجيع الأطفال على مشاهدة المحتوى الجنسي الصريح أو الوحشي، لأنهم في سنّهم لا يمتلكون الأدوات اللازمة لمعالجته وفهمه. لكن البالغين هم أكثر تطوّراً في تفكيرهم. تشارلز مانسون قال إن فرقة "البيتلز" أمرته بأن يرتكب جرائمه، علماً أن ديفيد بيركوفيتز القاتل الشهير في نيويورك المعروف بـ "إبن سام" Son of Sam كان قد ادّعى أنه أخذ أوامره من كلب. الأفلام لا تلهم العنف أكثر من الكلاب. واللوم كلّه يجب أن يُلقى على الناس.
© The Independent