ندد أنصار الكرد السوريين في أنحاء العالم بما يعتبرونه اغتصاباً وشيكاً للأرض من جانب تركيا التي تحاول احتلال أراض في شمال شرقي سوريا بأسلوب القرن التاسع عشر الاستعماري نفسه، إذ تسعى أنقرة إلى الاستيلاء مجدداً على مناطق كانت تابعة للإمبراطورية العثمانية.
لكن يقول المسؤولون والمحللون الأتراك إن أهداف أنقرة في إطلاق "عملية نبع السلام" العسكرية أقل طموحاً من ذلك، فهي محاولة لإنهاء التهديد القائم على حدودها، وإنقاذ سياستها الفاشلة تجاه سوريا، وربما تحقيق بعض المكاسب السياسية على الصعيد الداخلي.
ومن هذا المنطلق، فإن تدخل الرئيس التركي رجب طيب إردوغان الأخير في سوريا يشبه غزوات روسيا المحدودة في القرن الواحد والعشرين لأراضٍ كانت جزءا من الاتحاد السوفييتي مثل جورجيا وأوكرانيا، أكثر مما يشبه الحروب الإمبريالية التي شنتها بريطانيا وفرنسا بغرض الاستيلاء على أراضٍ شاسعة.
وفي هذا السياق، قال يوروك إسيك، المحلل الجيوبوليتيكي المقيم في إسطنبول، إنهم "يريدون أن يكونوا المخربين الأساسيين لتجربة الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا (روجافا)، وهذا يشكل 51% من الدافع وراء الغزو. إنهم يريدون منع الكرد من التمتع بأي نوع من الحكم الذاتي".
ومع حلول يوم الأربعاء الماضي، كان الهجوم الذي شنّته تركيا في شمال شرقي سوريا، ضد "قوات سوريا الديمقراطية" الكردية قد مضى عليه ثلاثة أيام فقط، بعد إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترمب أن الولايات المتحدة لن تعترض سبيل القوات التركية، وستسحب قواتها من المنطقة.
وقد وصفت "قوات سوريا الديمقراطية" هذا الإعلان بأنه "طعنة في الظهر"، لأنها كانت الحليف الرئيس للولايات المتحدة في حربها ضد "داعش" في سوريا، التي كلفتها أكثر من 11 ألف مقاتل خلال سنوات الحرب ضد التنظيم الإرهابي.
من جانبهم، يقول المسؤولون الأتراك إنهم يأملون بإنشاء ممر عرضه 20 ميلا على امتداد حدودهم الجنوبية بدءاً من الضفاف الشرقية لنهر الفرات وحتى الحدود العراقية على بعد 400 كلم، وإعلانه "منطقة آمنة"، ثم توطين اللاجئين السوريين العرب المؤيدين لتركيا فيها بدلا من الانفصاليين الكرد المعادين لها، الذين يشكلون امتدادا لحزب العمال الكردستاني (بي كَي كَي) إذ يعتبرهم الأتراك الفرع السوري منه، تحت اسم "وحدات حماية الشعب" الجناح المقاتل الرئيس لـ "قوات سوريا الديمقراطية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي هذا الصدد أفاد مكتب الاتصالات في رئاسة الجمهورية التركية في ورقة إيجاز وزعت على مراسلين دوليين أن "الهدف من عملية نبع السلام هو إبادة حزب العمال الكردستاني أو وحدات حماية الشعب الكردي و"داعش" في شرق الفرات، وبالتالي توفير الامن والسلام لشعبنا إضافة إلى تمكين أخواننا وأخواتنا السوريين من العودة إلى بلدهم".
وقال المحللون نقلاً عن المسؤولين العسكريين أتراك الذين تحدثوا إليهم، إن من المرجح أن تستخدم أنقرة أقل قوة ممكنة لتحقيق هدفها التكتيكي المحدود وتأمل عدم حدوث أي خطأ في هذه العملية العسكرية.
وفي هذا الصدد قال سليم سازاك، الباحث في جامعة براون وهو يتمتع بعلاقات مع المؤسسة العسكرية التركية: "حتى الآن، كل الذين تحدثت معهم شددّوا مرارا على أننا سنتقدم عشرين ميلا ثم نتوقف.. أذكر لكم حرفيا اقتباسا ردّده مسؤول عسكري كبير (لدينا عشرة ملايين كردي من مواطنينا، إذن لماذا سنحتاج إلى خمسة ملايين آخرين مع عشرات الآلاف من مقاتلي "داعش في السجن. سنحصل على منطقتنا العازلة. وهم يذهبون جنوبا ليحرسوا السجون التي فيها أسرى "داعش. كلما تعمقنا جنوباً كلما زادت احتمالات المواجهة مع داعش")".
وتجدر الإشارة إلى أن إردوغان يوصف غالبا بأنه قائد تكتيكي بارع لكن تنقصه القدرة على رسم استراتيجية شاملة. فخلال الست عشرة سنة التي حكم فيها، ظلت سياسة تركيا الخارجية متقلبة في الغالب، وذات توجه انتهازي.
فدعمه للانتفاضة في سوريا كان جزءا من موقفه كبطل لانتفاضات الربيع العربي، وهو موقف كانت له تداعيات سلبية على الرئيس التركي الذي تخلى عنه. لذلك فإن التدخل العسكري الأخير في شمال شرقي سوريا هو بمثابة الملاذ الأخير لبلد خائف حقا من أن الإدارة الذاتية الكردية هناك قد تشجع الانفصاليين الكرد في تركيا كي يحاولوا أن يحذوا حذوها. كما أنه يريد أن يرتاح من الـ 4 ملايين لاجئ سوري، الذين تأمل أنقرة بإعادة جزء منهم إلى "المنطقة الآمنة" التي تخطط لإنشائها.
من جانبه قال زيا ميرال الزميل في "المعهد الملكي الموحد للدراسات الدفاعية والأمنية" في لندن إن "السياسات التركية حول سوريا تطورت وظلت ذات طابع ارتدادي لفترة طويلة. لا تمتلك تركيا استراتيجية واضحة أو هدفا على المدى البعيد أو استراتيجية خروج، فاستراتيجيتها الآن هي منع الجماعات المرتبطة بحزب العمال الكردستاني من كسب أراضٍ" على حدودها.
يمكن القول إن تركيا أمضت سنوات وهي تهيئ الأرضية العسكرية والدبلوماسية والسياسية للعملية الجارية الآن، تحت اسم "نبع السلام". وظلت تعبّر عن انزعاجها من تجربة "الإدارة الذاتية الكردية" (روجافا) منذ بدئها عام 2013. وكان قرار الولايات المتحدة بدعم هذه المنظمة أغضب تركيا وأصبح ذلك مصدر الازعاج الأساسي في التوتر المتزايد بين واشنطن وأنقرة. ويمكن النظر إلى إسقاط أنقرة السلطة التي كانت تقودها وحدات الحماية الشعبية الكردية في عفرين، المنطقة الشمالية الغربية المعزولة من سوريا، في حملة أطلقت عليها "عملية غصن الزيتون" باعتبارها تمرينا تجريبيا للعملية الجارية حاليا.
وسعت أنقرة طوال العام الماضي للحصول على دعم روسيا، التي برزت كلاعب عالمي أساسي في سوريا، وعلى تأييد ترمب لتنفيذ خططها بما يخص الشمال السوري، موضحة لكلا الطرفين نيتها إنشاء منطقة آمنة هناك.
وفي هذا الصدد علق سازاك قائلا "هذا ما حدث. لم يكن هناك أي حل آخر، إلا السماح بظهور دولة وحدات الحماية الشعبية الكردية على الحدود مع تركيا. لم يكن سوى هذا أو ذاك. فليس هناك حل ثالث".
استخدمت تركيا على الأرض حتى الآن القوى الجوية لرسم معالم ميدان القتال في أيامه الأولى. وهذا ما دفع آرون ستاين مدير الشرق الأوسط في معهد أبحاث السياسات الخارجية بواشنطن إلى القول "ما أراه هو استراتيجية تتجنب المخاطرة نسبيا، فهناك قصف مكثف للطيران والمدفعية، استعدادا للهجوم المؤلل".
وركز الهجوم التركي في مرحلته الأولى على مستطيل يمتد إلى 100 كيلومتر من البلدات الحدودية لتل أبيض إلى شرق راس العين، بعمق ما يقرب من 25 كيلومترا داخل سوريا.
وقال نوار أوليفر، المحلل العسكري في معهد عمران، وهو مركز دراسات استراتيجية يتخذ من إسطنبول مقراً له "نحن ننظر إلى عملية ستؤمّن مستطيلا بين تلك المدن ويعطي الأتراك مجالا واسعا لإطلاق النار على الطريق الرابط بين الحسكة وكوباني".
وسيسمح انتزاع هذا المستطيل للقوات التركية والمجموعات المتحالفة معها بشطر "وحدات الحماية الشعبية الكردية" الى نصفين وتوجيه المدفعية والعمليات الأرضية لتأمين الطريق السريع أم4 المار عبر شمال سوريا، والبدء باستنزاف القوات الكردية الموجودة في تل أبيض وراس العين.
وقال ستاين المتخصص في الشؤون التركية إنهم "يريدون تطويق تل أبيض وراس العين قبل البدء إما بتطهيرها أو الجلوس هناك فقط والانتظار". كذلك، ستكون هناك مراحل أخرى لتوسيع منطقة النفوذ. فعلى عكس محاولات أنقرة السابقة لانتزاع أراض في سوريا، سيكون مرجحا أن تعطي القوات التركية أهمية ثانوية للمقاتلين السوريين المتمردين على دمشق، ففي عفرين وجرابلس انتقد السكان المحليون "الجيش السوري الحر" بسبب ما قام به أفراده من أعمال نهب وفوضى في المناطق التي سيطروا عليها.
وفي هذا الصدد قال أوليفر إن "بعض سكان المنطقة بمن فيهم العرب قلقون من بعض تصرفات الفصائل المسلحة.. كان هناك كثير من المشاكل بسبب تصرفات الفصائل. نحن لا نريد تكرار نفس الأخطاء".
ويتوقع المحللون حربا قصيرة ومكثفة تستمر أسابيع أو عدة أشهر تليها فترة أطول من الفوضى قبل تحقيق الاستقرار في المناطق التي ستسيطر القوات التركية عليها داخل الشمال السوري، فهامش المناورة المتوفر لتركيا مقيد بالجغرافيا السياسية ومن جهة وبحدود قدراتها العسكرية.
وكان الرئيس إردوغان قد عرض خريطة في اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة الشهر الماضي، عليها عشر نقاط زرقاء محددة كمواقع لبناء مستوطنات للاجئين السوريين. غير أن ستاين أشار إلى أن كلا من تلك النقاط كانت تمثل أيضاً موقعاً عسكرياً تركياً دائماً، مثل تلك النقاط العاملة في شمال العراق منذ أمد طويل.
من جانبهم يقول المسؤولون الأتراك إنهم أحاطوا الولايات المتحدة وروسيا وحلفاءهم في الناتو علما قبل بدء الهجوم، وأن موسكو وواشنطن تبدوان وكأنهما قد وضعتا لأنقرة القواعد لخطواتها بما يخص هذه العملية العسكرية.
كذلك، فإن تركيا مفلسة، واقتصادها يعاني والحروب مكلفة بشكل عام.
وأعرب ستاين عن اعتقاده بأن" لديهم رؤية واسعة.. هم يحاولون إضفاء التجانس على العملية، إذ أن لديهم أهدافاً عسكرية وهم سيحققونها خلال ستة أشهر".
أما إيسيك الذي يرصد حركة السفن والطائرات فقد لاحظ وصول طائرات محملة بخبراء روس في مجال الطيران إلى أنقرة يوم الخميس الماضي، وهذا في الغالب من أجل تقديم الدعم للعمليات العسكرية في شمال سوريا، لكن تركيا الدولة العضو في حلف الناتو والتي تعتبر جزءاً من منظومة الالكترونيات والاتصالات التي تقودها الولايات المتحدة، تعتمد أيضا على واشنطن لتشغيل تكنولوجيتها العسكرية الأكثر تطورا.
وعلق إيسيك قائلا "نحن حقا لا نمتلك القدرة على العمل عسكريا وحدنا لأشهر، من دون الدعم الروسي والأميركي لنا".
غير أن المسؤولين العسكريين الأتراك واثقون من قدرتهم على تحقيق أهدافهم بسرعة. فأرض الشمال الشرقي السوري مستوية بالكامل تقريبا، وهذه ميزة ليست لصالح المقاتلين الانفصاليين الكرد البارعين في حرب العصابات في المناطق الجبلية. كان الكرد قاتلوا بشكل فعال ضد "داعش" لكن ذلك كان بفضل مساندة المقاتلات والمدفعية الأميركية المدعومة من جانب أنظمة توجيه متقدمة.
وفي هذا الصدد قال إيسيك "الشتاء مقبل وسيكون أصعب على وحدات الحماية الشعبية الكردية العمل في أماكن منبسطة.. فمن دون دعم القوة النارية الأميركية سيكون من السهل على الطائرات والمدفعية التركية أن تلاحقهم".
© The Independent