ملخص
جرى طرح فكرة العلاقات الجيو-اقتصادية خلال فترة حكم رئيس الوزراء السابق عمران خان، لكن لم يجر اتخاذ أية خطوات عملية لحل المشكلات السياسية الجوهرية التي أعاقت تطبيق هذا المفهوم على أرض الواقع، كما علقت الآمال بعودة "طالبان" للسلطة في أفغانستان عام 2021 في تهيئة بيئة مواتية للتكامل الإقليمي.
يلعب موقع باكستان الفريد دوراً مهماً في سياستها الخارجية وخططها الإقليمية، إذ تقع عند مفترق طرق جنوب ووسط وغرب آسيا، وتربطها الجغرافيا البحرية بدول الخليج العربي وشبه الجزيرة العربية، فضلاً عن دول شرق أفريقيا.
لكن تعقيدات الجيوسياسية الإقليمية، ولا سيما العلاقات الثنائية المتوترة مع جيرانها على الجهة الشرقية والغربية، تحد من قدرة إسلام آباد على أن تصبح مركزاً محورياً للربط الإقليمي وممرات التجارة، وقد أبرز التصعيد الأخير للتوترات الحدودية مع أفغانستان هذه المعضلة الإستراتيجية مجدداً.
عند تأسيس باكستان كان وضع الدول المجاورة والبيئة السياسية مختلفاً تماماً عن الآن، وحين بدأت الحرب الباردة كانت الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي منشغلين بتوسيع نفوذهما عبر القارات وإيجاد حلفاء لكتلتيهما السياسيتين، ومن هنا بدأت باكستان في توظيف موقعها الجغرافي الذي وفر لها فرصاً كبيرة، وهذا التوظيف لم يتأثر بتفكيك باكستان عام 1971 عندما انفصلت بنغلاديش الحالية عنها، إذ استمرت في الحفاظ على أهميتها كلاعب رئيس في الجغرافيا السياسية لجنوب آسيا والشرق الأوسط.
الفرص الجيوسياسية
وفي السياق أدت أحداث عام 1979 التي شملت الغزو السوفياتي لأفغانستان والثورة الإيرانية واستعادة العلاقات الإسرائيلية - المصرية إلى تغيير جذري في المشهد الجيوسياسي للمنطقة، وعززت هذه التغيرات دور باكستان بفضل موقعها الجغرافي كلاعب إقليمي بالغ الأهمية، وخلال الأعوام التالية أصبحت باكستان في طليعة الجهود المبذولة لاحتواء توسع الاتحاد السوفياتي من خلال التمرد الأفغاني، وقد استغل صانعو القرار في باكستان خلال تلك الحقبة الوضع بمهارة لتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية من موقعهم الجغرافي.
ومع انتهاء الحرب الباردة تلاشت الفرص الجيوسياسية التي كانت تشكل حجر الزاوية للوضع الإستراتيجي لباكستان، وللأسف فشلت النخبة الحاكمة الباكستانية في أن تدرك تغييرات الواقع الجيوسياسي، ولم تتخذ خطوات ملموسة للتكيف مع العالم والمنطقة المتغيرين بسرعة، بل استمرت مفاهيم مثل العمق الإستراتيجي (نظرية تقول إن باكستان يجب أن تتدخل في أفغانستان وتصنع منها منطقة عازلة على الحدود الباكستانية) في الهيمنة على المشهد الجيوسياسي الباكستاني.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كان من المفترض أن يؤدي انهيار الاتحاد السوفياتي واستقلال دول آسيا الوسطى إلى خلق فرص جديدة لباكستان للتواصل مع آسيا الوسطى، لكن الدعم الباكستاني لمختلف الأطراف في الحرب الأهلية الأفغانية حال دون ذلك، ولم تستغل هذه الفرص السياسية، وقد تغير هذا الوضع رأساً على عقب بعد هجمات الـ11 من سبتمبر (أيلول) 2001 والغزو الأميركي لأفغانستان، إذ برزت باكستان مجدداً كدولة في الخطوط الأمامية للحرب على الإرهاب، وهو ما أدى إلى تعزيز بعض العناصر المعادية لباكستان في كابول، وهذه العناصر كانت ساخطة على دعم إسلام آباد لنظام "طالبان"، وعلى رغم اتخاذ باكستان بعض الخطوات في مجال القوة الناعمة لتحسين العلاقات مع مختلف الجماعات العرقية والاجتماعية في أفغانستان، لكن سياستها العامة ظلت متأثرة بالمنظور الأمني، ويرتبط هذا بدور باكستان في الإقليم، إذ كان الهدف من مشاريع البنية التحتية ضمن الممر الاقتصادي الصيني – الباكستاني، ولا سيما تطوير ميناء جوادر، هو تعزيز التجارة البينية مع دول آسيا الوسطى، إلا أن عدم الاستقرار في أفغانستان وتوتر العلاقات بين باكستان وكابول شكّلا عائقاً أمام تحقيق هذا الهدف، ولحل مثل هذه المشكلات جرى طرح فكرة العلاقات الجيو-اقتصادية خلال فترة حكم رئيس الوزراء السابق عمران خان، لكن لم يجر اتخاذ أية خطوات عملية لحل المشكلات السياسية الجوهرية التي أعاقت تطبيق هذا المفهوم على أرض الواقع، كما علقت الآمال بعودة "طالبان" للسلطة بأفغانستان عام 2021 في تهيئة بيئة مواتية للتكامل الإقليمي.
بدائل جديدة
في بداية حكم "طالبان" في كابول أحرز الجانبان تقدماً إيجابياً، إذ بدأ العمل على مشاريع تنموية مثل مشروع خط سكة حديد تربط أوزبكستان وأفغانستان وباكستان ومشروع الطاقة بين آسيا الوسطى وجنوب آسيا(CASA-1000) ، لكن تصاعد الهجمات العابرة للحدود التي تشنها حركة "طالبان - باكستان"، ورفض حكومة كابول اتخاذ أي إجراء ضدها، أديا إلى تفاقم التوترات الثنائية وتوقف عملية التنسيق الإقليمي فعلياً، وفي أكتوبر (تشرين الأول) الماضي أغلقت باكستان حدودها مع أفغانستان بعد اشتباكات حدودية عنيفة مع قوات "طالبان"، وهكذا أصبحت إستراتيجية باكستان الأمنية متشابكة مرة أخرى مع طموحاتها في التكامل الإقليمي، ولذلك انتهى المشروع الجيو-اقتصادي عملياً ووجد صنّاع القرار في باكستان أنفسهم مجدداً أمام حقائق جيوسياسية قاسية.
يتطلب هذا الوضع من باكستان إيجاد بدائل جديدة وأكثر واقعية لربط مراكز قوتها بآسيا الوسطى، وفي الوقت نفسه تحتاج باكستان إلى بناء علاقات أقوى مع شركائها في جوارها البحري الأوسع وتخصيص موارد لتطوير بنيتها التحتية البحرية، وأخيراً فلا يمكن لباكستان أن تقلل من الأثر الاقتصادي للتوترات المزمنة مع جيرانها الشرقيين والغربيين إلا من خلال تنويع أنشطتها بعيداً من أنظمة الربط والتجارة البرية.
نقلاً عن "اندبندنت أوردو".