ملخص
تُنفق روسيا حالياً ما يقرب من 40% من موازنتها في الحرب القائمة، وفقاً لما صرّح به الأمين العام لحلف الناتو، مارك روته، في وقت سابق من هذا الشهر.
يواجه الاقتصاد الروسي هذا العام تحديات متزايدة، من تضخم جامح، وعجز متفاقم في الموازنة يعودا جزئياً إلى الإنفاق العسكري الضخم، وانخفاض عائدات النفط والغاز الطبيعي.
تباطأ النمو الاقتصادي بشكل حاد، إلا أن هذه الأزمة الاقتصادية المتفاقمة من غير المرجح أن تدفع الرئيس فلاديمير بوتين إلى طاولة المفاوضات قريباً لإنهاء الحرب في أوكرانيا.
ويرى المحللون أن الكرملين قادر على الصمود لسنوات عديدة أخرى في ظل وتيرة القتال الحالية والعقوبات الغربية المفروضة.
في مذكرة بحثية حديثة، تقول الباحثة المتخصصة في شؤون روسيا وأوراسيا في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية "سي أس آي أس"، ماريا سنيغوفايا، "إذا نظرنا إلى الاقتصاد نفسه، فلن يكون هذا هو القشة التي قصمت ظهر البعير... الوضع ليس كارثياً، بل يمكن السيطرة عليه".
وأشارت إلى أن روسيا قد تستمر في القتال خلال الأعوام الثلاثة إلى الخمسة المقبلة، مشيرةً إلى صعوبة إجراء تقييم دقيق لما بعد ذلك.
العقوبات لم تلحق ضرراً كافياً باقتصاد روسيا
يعتقد فريق من الاقتصاديين الروس المعارضين للرئيس بوتين، أن حرب الاستنزاف قد تستمر لفترة أطول، لأن قدرة الكرملين على خوض الحرب "غير مقيدة بأي قيود اقتصادية".
يقول من المعهد الملكي للخدمات المتحدة "آر يو أس آي"، ريتشارد كونولي، إن العقوبات الغربية لم تُلحق ضرراً كافياً بالاقتصاد الروسي القائم على الطاقة لتغيير خطط موسكو للحرب.
وأضاف الباحث البارز في الأمن الدولي في مركز الأبحاث البريطاني، "طالما أن روسيا تُنتج النفط وتبيعه بسعر معقول، فلديها ما يكفي من المال لتسيير الأمور... لا أقول إن الصورة وردية حقاً بالنسبة لهم، لكن لديهم ما يكفي لكي لا يكون الاقتصاد عاملاً في حسابات بوتين عندما يفكر في الحرب".
أوضحت سنيغوفايا أن التاريخ يُظهر أن روسيا أكثر ميلاً للموافقة على تسوية سلمية غير مواتية إذا كانت تعاني من ركود اقتصادي، كما كانت الحال في نهاية الحرب العالمية الأولى والحرب السوفياتية في أفغانستان.
لكن الوضع الاقتصادي الحالي "لا يزال بعيداً كل البعد عن ذلك، وسيتطلب الأمر ضغطاً أشدّ على الاقتصاد الروسي وفترة أطول بكثير للوصول إلى تلك المرحلة".
ويُعدّ هذا نبأً سيئاً لأوكرانيا، ولإدارة ترمب التي عقدت جولات عدة من المحادثات في محاولة للتفاوض على إنهاء الحرب.
زيادات ضريبية وارتفاع الأسعار
أشارت سنيغوفايا إلى أن ما تغيّر بالنسبة لروسيا هو أن الانتعاش الاقتصادي الأولي الناجم عن زيادة الإنفاق العسكري يبدو أنه انتهى، والآن يتعيّن على الكرملين "مواصلة تحميل المجتمع الروسي عبء الحرب".
اتخذ هذا العبء على المجتمع شكل زيادة كبيرة في معدلات ضرائب الشركات والدخل، فضلاً عن زيادة ضريبة القيمة المضافة، للمساعدة في تمويل مستويات قياسية من الإنفاق العسكري.
ويواجه المستهلكون الروس أيضاً ارتفاعاً حاداً في الأسعار، بخاصة بالنسبة للسلع المستوردة.
لكن على عكس الغرب، فإن التضخم المرتفع "لا يُثير استياءً اجتماعياً كبيراً" في روسيا، كما أوضحت سنيغوفايا، مشيرًة إلى آثار الدعاية الحكومية والقمع.
قال كونولي أيضاً إن التضخم في روسيا ما بعد الحقبة السوفياتية كان مرتفعاً دائماً، لذا اعتاد المستهلكون عليه. وتوقع صندوق النقد الدولي أن يبلغ متوسط التضخم السنوي في روسيا 7.6 في المئة هذا العام، بانخفاض عن 9.5 في المئة خلال عام 2024.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتُنفق روسيا حالياً ما يقرب من 40 في المئة من موازنتها في الحرب القائمة، وفقاً لما صرّح به الأمين العام لحلف الناتو، مارك روته، في وقت سابق من هذا الشهر، وهو أحد التقديرات المتباينة للإنفاق العسكري الروسي.
قفز هذا الإنفاق بنسبة 38 في المئة خلال العام الماضي مقارنةً بعام 2023، وفقاً لتقرير صادر في أبريل (نيسان) عن معهد استوكهولم الدولي لأبحاث السلام.
ظهور فئة الرابحين الاقتصاديين في زمن الحرب
أدى هذا الإنفاق المتزايد إلى ظهور فئة جديدة من الرابحين الاقتصاديين في زمن الحرب، بمن فيهم مُقاولو الدفاع، مثل مُصنّعي الأسلحة، والعمال اليدويون، ونتيجة لذلك، انخفض الفقر في أجزاء من روسيا، مما يعني أن بوتين يواجه ضغوطاً أقل من بعض قطاعات المجتمع، كما قال الخبراء.
في محاولة من روسيا لاستبدال بعض الواردات الغربية، وسّعت نطاق تصنيع المنسوجات والأحذية والمنتجات الغذائية والإلكترونيات الأساسية، بحسب ما أشارت إليه الباحثة الزائرة في جامعة جورج واشنطن والمتخصصة في البحوث السياسية والاجتماعية، إيكاترينا كوربانغالييفا، بما في ذلك بيانات دافعي الضرائب الروس.
وتوصلت أبحاثها إلى أن أجور بعض فئات العمال ارتفعت ثلاثة أضعاف، وفي بعض الحالات خمسة أضعاف، بين عامي 2021، أي قبل عام من بدء روسيا حربها، و2024.
وقالت كوربانغالييفا واصفةً الانتعاش الاقتصادي الذي شهده الاقتصاد خلال الحرب "كان الأمر أشبه بجرعة من الأدرينالين"، مع أنها أشارت إلى تباطؤ النمو الاقتصادي منذ ذلك الحين.
وشهدت بعض المناطق الريفية الأكثر فقراً في روسيا انتعاشاً اقتصادياً منذ بداية الحرب، ويعود ذلك جزئياً إلى الرواتب الضخمة التي تُصرف للجنود الروس وعائلاتهم، وهي استراتيجية استخدمها الكرملين لتجنيد المتطوعين وتجنب التجنيد الإجباري على نطاق أوسع، سعياً منه لتعويض من فقدوا أرواحهم على جبهات القتال في أوكرانيا.
وقال كونولي من معهد الدراسات الروسية الدولية "يتقاضى الجنود الروس اليوم رواتب أعلى من أي جندي روسي آخر في تاريخ الجيش الروسي... كسبوا أموالاً أكثر مما كانوا يأملون في كسبه لو بقوا في تلك المناطق الأقل حظاً نسبياً من البلاد وحصلوا على وظائف أخرى في القطاع المدني".
وأشارت كوربانغالييفا إلى أن الحكومة الروسية صرفت أيضاً تعويضات كبيرة لعائلات الجنود الذين قُتلوا أو جُرحوا في الحرب.
تمكن الكرملين، جزئياً من خلال ضخ الأموال في القوى العاملة العسكرية وعائلاتهم، من تهدئة السخط على رغم أن الخسائر الروسية في أوكرانيا تقترب من مليون شخص، منهم 250 ألف قتيل، وفقاً لتقديرات مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية المنشورة في يونيو (حزيران) الماضي.
وتجنّبت الحكومة إلى حد كبير الاحتجاجات التي شهدتها حربا الشيشان وأفغانستان، حين طالبت عائلات الجنود المجندين من المناطق الأفقر في روسيا والاتحاد السوفياتي بإنهاء الصراعات.
وقال كونولي "لا أعتقد أن للمناطق أي تأثير على استمرار الحرب، لكن غياب الاحتجاجات الشعبية العارمة يخفف الضغط على بوتين عند اتخاذه قراراته في شأن الخطوة التالية".
يقول الخبراء إن الكرملين ربما يدرك مخاوفه في شأن عودة شريحة كبيرة من قدامى المحاربين إلى المجتمع - بلا وظائف، ويعاني الكثير منهم من حاجات طبية باهظة - في حال التوصل إلى اتفاق سلام. وقالت مديرة مبادرة الحكم الاقتصادي في المجلس الأطلسي، كيمبرلي دونوفان، "من مصلحة بوتين استمرار هذه الحرب، من منظور داخلي بحت".
كلفة باهظة للتهرب من العقوبات
بينما يمكن التعامل مع التحديات الاقتصادية على المدى القصير، فإن الوضع على المدى الطويل قد يكون مختلفاً، إذ استنزفت روسيا مبالغ طائلة من صندوق ثروتها السيادي، وهو ما ذكره تقرير حديث للمجلس الأطلسي، والذي يخلق "مفاضلات جديدة للكرملين"، إذ يتقلص هامش الأمان الذي كان يحمي عامة الشعب من كلفة الحرب.
وبحسب معهد كييف للاقتصاد، انخفضت قيمة الأصول السائلة، أو القابلة للتحويل بسهولة إلى نقد، في صندوق الرعاية الاجتماعية الروسي بنسبة 57 في المئة منذ بداية الحرب في أوكرانيا.
ومع استنزاف الصندوق، "يصعب تصور سيناريو تستطيع فيه الحكومة الروسية الحفاظ على نفقاتها الدفاعية الحالية من دون خفض الإنفاق الاجتماعي بشكل شامل وواضح لعموم الشعب"، وفقاً لتقرير المجلس الأطلسي.
إضافة إلى ذلك، فإن العقوبات الأخيرة التي فرضتها الولايات المتحدة والمملكة المتحدة على اثنين من كبار منتجي النفط الروس - لوك أويل وروسنفت - رفعت كلفة الأعمال بالنسبة لروسيا، كما صرح دونوفان من المجلس الأطلسي. وقال "إنهم (منتجي النفط الروس) يعيدون توجيه صادراتهم النفطية عبر شركات روسية أصغر... وهذا يكلفهم أموالاً طائلة".
وأوضح، أنه إذا اقترن ذلك بتشديد العقوبات وزيادة الضغط على الهند والصين لوقف شراء النفط الروسي، فقد يغير الكرملين حساباته في نهاية المطاف. وتابع "كلما زاد الضغط الذي نمارسه على روسيا باستخدام هذه العقوبات، زادت كلفة محاولتها التهرب منها".