Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

العمل الإنساني معركة "صامتة" في السودان

تحول من واجب أخلاقي إلى ساحة صراع جديدة تستخدم فيها الإغاثة كأداة نفوذ ويترك المدنيون بين الجوع والسلاح

تحولت المساعدات من حق إنساني إلى أداة نفوذ في السودان (رويترز)

ملخص

لا يستند العمل الإنساني إلى منظومة تحميه في السودان، بل إلى تضحيات شخصية تعمل تحت الخوف، وضغط نفسي مستمر، وبشعور دائم بالذنب.

لم يعد العمل الطوعي في السودان فعلاً محايداً، بل مغامرة محفوفة بالمخاطر، فتحت فوهات البنادق، يعمل متطوعون بلا حماية، وينقلون الغذاء والدواء من خلال طرق غير آمنة، بل في بعض الأحيان يتعرّضون للتوقيف والابتزاز والعنف، فقط لأنهم حاولوا إيصال المساعدة.

في وقت باتت المساعدات الإنسانية تخضع لتدخلات مسلحة تحدد من يستحق النجاة، ومن يترك للجوع، فضلاً عن اختفاء قوافل إغاثة، وشاحنات تغير مسارها، ومتطوعون يهددون أو يعتقلون من دون مساءلة.

في ظل هذا الواقع يتحوّل العمل الإنساني من واجب أخلاقي إلى ساحة صراع جديدة، تستخدم فيها الإغاثة كأداة نفوذ، ويترك المدنيون عالقين بين الجوع والسلاح.

تهديد وشكوك

المتطوعة الميدانية بغرف الطوارئ رؤى هيثم قالت إنه "منذ اليوم الأول لعملي في مجال الإغاثة الإنسانية، أدركت أن مفهوم الحياد يكاد يكون غائباً في مناطق النزاع، إذ نخرج لتنفيذ التوزيعات من دون أي حماية قانونية أو أمنية حقيقية. لا نحمل تصاريح معترفاً بها، ولا يوجد تنسيق يضمن سلامتنا، ولا جهة تتحمّل المسؤولية إذا تعرضنا للأذى. ومع ذلك، نتعامل في الطريق كما لو كنا نحمل ما يثير الشك أو التهديد".

وتابعت هيثم، "في نقاط التفتيش، يطلب منا فتح الطرود، وتقديم تفاصيل دقيقة عن المستفيدين، وأسباب اختيار مناطق بعينها من دون غيرها. وأحياناً تمارس علينا ضغوط غير مباشرة لتعديل القوائم أو استبعاد أسر بعينها، بيد أن الاعتراض قد يقود إلى التهديد، والصمت يعني المشاركة في حرمان محتاجين من حقهم".

 

وواصلت "في إحدى المرات، جرى احتجازي ساعات من دون أي مبرر واضح، فقط بدافع الشك. ولم يتواصل معنا أي مُحامٍ، ولم تتدخل أي جهة رسمية أو إنسانية، حيث عدت إلى منزلي وأنا أشعر بفقدان كامل للأمان، لكنني كنت أعلم في الوقت ذاته أن التوقف عن التطوع يعني ترك أسر كاملة بلا غذاء".

وترى المتطوعة الميدانية أن "العمل الإنساني هنا لا يستند إلى منظومة تحميه، بل إلى تضحيات شخصية، إذ نعمل تحت الخوف، وتحت ضغط نفسي مستمر، وبشعور دائم بالذنب. وفي كل مرة نخرج فيها نغامر بحياتنا من دون اعتراف حقيقي بحجم المخاطر، ومن دون أي خطوات جادة لتغيير هذا الواقع".

تدخل مباشر

في السياق ذاته قال سامي الخير، منسق مبادرة إغاثية بالخرطوم، "إدارة العمل الإنساني في ظل الحرب أصبحت مهمة بالغة التعقيد والخطورة، إذ لا نواجه فقط شح الموارد، بل تدخل مباشر من جهات مسلحة تسعى إلى التحكم في مسار المساعدات. فكل شحنة إغاثية وكل عملية توزيع قد تتحول إلى أزمة أمنية".

وأوضح الخير أن "المتطوعين هم الحلقة الأضعف والأكثر تعرضاً للمخاطر. فمعظمهم شباب لا يمتلكون أي تدريب أمني، لكنهم في الواجهة. هم من يجري توقيفهم وتفتيشهم واستجوابهم. وعند وقوع أي انتهاك، لا تحمل المسؤولية للجهة المتدخلة، بل يترك المتطوع وحيداً في مواجهة العواقب. فقد شهدنا حالات انسحاب لمتطوعين بعد تلقي تهديدات مباشرة، كما جرت مصادرة مواد إغاثية أو تغيير وجهتها بالقوة، من دون أي تحقيقات أو مساءلة. والأخطر من ذلك هو غياب إطار قانوني واضح ينظم العمل الإنساني ويحمي القائمين عليه. فالدولة غير قادرة على فرض الحماية، والمنظمات الدولية عاجزة عن ضمان استقلالية عملها".

 

وزاد منسق المبادرة الاغاثية، "تحولت المساعدات من حق إنساني إلى أداة نفوذ. فمن يملك السلاح يحدد من يحصل على الغذاء ومن يحرم منه. ونحن كمنسقين نحاول الموازنة بين حماية المتطوعين وعدم التخلي عن المحتاجين، لكن الواقع المؤلم هو أن المتطوع السوداني اليوم يعمل في واحدة من أخطر المهام غير المعترف بها، من دون ضمانات، ومن دون مساءلة، ومن دون صوت يحميه".

عسكرة الإغاثة

لم تعد المساعدات الإنسانية في السودان تمر عبر مسارات محايدة، بل باتت تخضع لميزان القوة على الأرض. ففي مناطق عديدة، يفرض السلاح شروطه على الإغاثة، من تسلم له، وأين، ومتى، وبأي مقابل، بالتالي فإن هذا التدخل لا يعرض استقلالية العمل الإنساني للخطر فحسب، بل يحول الغذاء والدواء إلى أدوات نفوذ وسيطرة، ويقوض ثقة المجتمعات المحلية في أي جهد إغاثي.

طارق عبدالرحمن، مسؤول سابق في منظمة إنسانية وطنية، يقول "خلال عملي في المجال الإنساني، شهدت تحولاً تدريجاً وخطراً في طبيعة التدخلات المسلحة. ففي البداية كانت محاولات تنسيق غير رسمية، ثم تطورت إلى فرض شروط صريحة على التوزيع، إذ طلب منا في أكثر من مناسبة تسليم المساعدات عبر وسطاء محددين، أو تعديل قوائم المستفيدين بحجة الأمن. وعملياً كان ذلك يعني حرمان فئات كاملة لا تقع ضمن نفوذ الجهة المسيطرة".

 

وأردف عبدالرحمن، "في إحدى العمليات أوقفت قافلة لساعات، ثم أبلغنا بأن دخول المنطقة مشروط بتسليم جزء من الشحنة لتوزيعها لاحقاً بإشرافهم. وعند رفضنا لهذا الشرط جرى تعليق العملية بالكامل، فلم تكن هناك جهة قادرة على التدخل أو ضمان العبور. هذا النوع من الابتزاز يحدث في الخفاء غالباً، لأن الإعلان عنه قد يؤدي إلى إيقاف النشاط الإنساني نهائياً أو تعريض الفرق للخطر".

واستطرد "المشكلة أن غياب المساءلة شجع على توسع هذه الممارسات. فلا توجد آليات تحقيق شفافة، ولا تقارير علنية تشرح أين ذهبت المساعدات التي جرى اعتراضها. ومع مرور الوقت، باتت بعض المجتمعات تنظر إلى الإغاثة باعتبارها جزءاً من الصراع، لا استجابة إنسانية".

وأكد عبدالرحمن أن "ما يحدث هو تآكل ممنهج لمبدأ الحياد. فحين يسمح للسلاح بتحديد من يستحق المساعدة، تتحول الإغاثة إلى امتياز، لا حق. وهذا أخطر ما يواجه العمل الإنساني اليوم في السودان".

وسيلة ضغط

من جانبه أوضح الباحث في العمل الإنساني والقانون الدولي الإنساني بشير أحمد أن "التدخلات المسلحة في العمل الإنساني تمثل انتهاكاً واضحاً للمبادئ الأساسية التي تحكم الإغاثة، وعلى رأسها الحياد والاستقلال وعدم التحيز. فما نشهده في السودان ليس حالات فردية، بل هو نمط متكرر تستخدم فيه المساعدات كوسيلة ضغط وسيطرة".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وذكر أحمد أنه "حين تفرض شروط على التوزيع، أو يُعاد توجيه المساعدات قسراً، فإن الضرر لا يقتصر على المتطوعين أو المنظمات، بل يمتد إلى المدنيين الذين يحرمون من حاجات أساسية. والأخطر أن هذه الممارسات تجري في ظل فراغ قانوني وتنفيذي، حيث لا توجد سلطة قادرة على فرض احترام القانون الدولي الإنساني، ولا آليات فعالة للمحاسبة".

وزاد، "تتحمّل الأطراف المسيطرة مسؤولية تسهيل مرور المساعدات، لا عرقلتها، لكن الواقع أن ضعف الضغط الدولي، وتشتت الاستجابات، سمحا باستمرار هذه الانتهاكات من دون تبعات، إضافة إلى أن اعتماد بعض المنظمات على التفاوض الميداني كحل وحيد، خلق سوابق خطرة تشرعن التدخلات المسلحة بدلاً من كبحها".

ومضى الباحث في العمل الإنساني في القول، "إذا استمر هذا الوضع، فإن العمل الإنساني سيفقد معناه، وستتحول الإغاثة إلى أداة صراع. فالمطلوب ليس فقط حماية المتطوعين، بل استعادة الإطار القانوني والأخلاقي الذي يضمن وصول المساعدات بناءً على الحاجة وحدها، لا على ميزان السلاح".

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير