Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الإذاعة السودانية "صوت عاجز" في زمن الحرب

تعرضت ومؤسسات قريبة منها لاعتداءات مباشرة وتحويلها والمواقع المجاورة إلى مقار عسكرية

مصادر إعلامية تشير إلى إغلاق نحو 10 إذاعات في ولاية الخرطوم (غيتي)

ملخص

لم تكن الإذاعة مجرد وسيلة إعلام، بل أداة سياسية بامتياز، ففي معظم الانقلابات العسكرية التي شهدها السودان، كانت السيطرة على الإذاعة القومية مقدمة لإعلان السيطرة على الدولة، إذ يذاع البيان الأول بوصفه لحظة تأسيس للسلطة الجديدة.

منذ اندلاع الحرب في السودان خلال أبريل (نيسان) عام 2023، وجدت الإذاعة السودانية نفسها في قلب واحدة من أعقد لحظات وجودها منذ تأسيسها، بوصفها ركناً من أركان الاتصال الجماهيري في بلد ظل الراديو فيه، لعقود طويلة، الوسيلة الأكثر حضوراً في أزمنة الاضطراب.

مع الساعات الأولى للاشتباكات، انقطع الصوت الذي اعتاد السودانيون الإصغاء إليه عند المنعطفات الحاسمة، بعدما تعرض مقر الهيئة القومية للإذاعة والتلفزيون في أم درمان لأضرار مباشرة عطلت الاستوديوهات وأجهزة الإرسال والبنية التقنية المرتبطة بها، وترافق ذلك مع سيطرة قوات "الدعم السريع" على المبنى في الأيام الأولى للحرب، واستمرار وجودها فيه نحو عام كامل، مما شل العمل الطبيعي للمؤسسة وأخرجها قسراً من دورها التقليدي.

هذا التوقف لم يكن حادثة معزولة، بل جزءاً من انهيار أوسع ضرب المشهد الإذاعي في البلاد. تقارير نقابية ومصادر إعلامية تشير إلى إغلاق نحو 10 إذاعات في ولاية الخرطوم، وتوقف عشرات المحطات في ولايات أخرى بفعل القتال والنهب، إلى جانب اقتحام مقار وإذاعات محلية، على شارع النيل، وسرقة معداتها وتدمير أصولها. وفي ظل تبادل القصف وإطلاق النار في محيط مبان إعلامية وأمنية، تحولت بيئة العمل الإذاعي إلى فضاء خطر، حتى من دون تسجيل قصف مباشر ومركز على أبراج البث نفسها.

صمت ثقيل

سردت عواطف عمر، قصة تعلق والدها بالراديو، وفقدانه مع الحرب. ذكرت أنها لم تكن تبحث عن وسيلة ترفيه لوالدها حين قررت إرسال جهاز راديو إليه، بل عن خيط رفيع يربطه بالعالم. والدها، الذي رفض مغادرة بلدته على رغم اشتعال الحرب من حولها، ظل لأعوام يثق في الراديو وحده، منذ أيام كان الصوت القادم من الأثير أكثر صدقاً من الورق وأقرب من الشاشة. استغنى طوعاً عن التلفاز والهاتف الذكي، وبقي وفياً لذلك الجهاز الصغير الذي يرافق صباحاته ولياليه، قبل أن يبتلعه الفقد مع الأيام الأولى للحرب.

من مقر إقامتها خارج السودان، رتبت عواطف إرسال راديو جديد، مدفوعة بإلحاح والدها وحاجته المتزايدة إلى معرفة ما يجري. "كان الراديو بالنسبة إليه أكثر من أداة لمعرفة الأخبار، كان بديلاً عن الغياب، ورفيقاً يخفف ثقل العزلة في بلدة انقطعت عنها الكهرباء والاتصالات، وتقلصت فيها مصادر المعرفة إلى الهمس والإشاعات. حين وصله الجهاز، انتظر أن يعود الصوت الذي اعتاد عليه، ذلك الصوت الذي كان يعلن الفجر ويشرح القرارات ويمنح للأحداث معنى".

 

وتابعت "لكن الصوت لم يعد كما كان، المحطات مشوشة، تتقطع الجمل قبل اكتمالها، وتغيب الأسماء وسط ضجيج معدني لا يفهم منه سوى أن شيئاً ما يمنع من الوصول. حاول تغيير الاتجاهات، ورفع الهوائي، وتبديل البطاريات، والبحث عن ترددات قديمة حفظها عن ظهر قلب. كل المحاولات فشلت، وبقي الصوت متكسراً، كأنه ينسحب عمداً قبل أن يسمع".

وقالت عمر إن أسرتها بذلت جهوداً أخرى بسؤال أقربائهم الذين ما زالوا يتنقلون بين القرى، ليؤكدوا لهم أن العطل ليس تقنياً، بل تشويشاً مقصوداً فرضته الحرب "لم تكن المشكلة في الراديو، بل في الغياب المتعمد للصوت. هنا تحولت خيبة الأمل إلى صمت أثقل، إذ غابت الإذاعة التي اعتاد والدي أن يثق بها، تلك التي كثيراً ما كانت الوسيلة الأقرب له، والأقدر على الاستمرار حين تسقط بقية الوسائط".

أداة سياسية

منذ انطلاق بثها الأول في مطلع أربعينيات القرن الماضي، ارتبطت الإذاعة السودانية بالسلطة والشارع في آن واحد، بوصفها الوسيط الأوسع انتشاراً والأكثر قدرة على النفاذ إلى حياة الناس في بلد مترامي الأطراف ومتعدد البيئات. تأسست الإذاعة في الأول من مايو (أيار) عام 1940 في سياق الحرب العالمية الثانية، وكان الغرض منها الدعاية لمعسكر الحلفاء، بتمويل من موازنة الدعاية البريطانية ووزارة المستعمرات. انطلق أول بث من غرفة صغيرة لا تتجاوز مساحتها 12 متراً مربعاً في حي البوستة بأم درمان القديمة، على الموجة المتوسطة، قبل إدخال الموجة القصيرة عام 1943، ثم توسيع نطاق البث في 1954 ليغطي معظم أنحاء السودان وخارجه، وصولاً إلى الانتقال إلى مبانيها الحالية عام 1957، مع تأسيس مكتبة إذاعية مبكرة شكلت نواة للذاكرة السمعية الوطنية.

على امتداد هذه العقود، تشكل المشهد الإذاعي في السودان عبر مسارات متداخلة، جمعت بين الإذاعة القومية المركزية، وإذاعات الولايات، ثم الإذاعات الخاصة والمستقلة، إلى جانب محطات تبث من خارج البلاد مستهدفة الداخل السوداني. يضم السودان إذاعة قومية رئيسة هي إذاعة السودان من أم درمان، تتبع لها شبكات وبرامج تغطي الشأن الوطني، إلى جانب أكثر من 30 إذاعة ولائية تختلف في قدراتها الفنية وانتظام بثها تبعاً للاستقرار الأمني والتمويل. كما يقدر عدد الإذاعات الخاصة والمستقلة بنحو 20 محطة، تتنوع بين الترفيهي والإخباري، إضافة إلى إذاعات خارجية مثل "دبنقا" و"تمازج" و"مرايا"، التي لعبت أدواراً مؤثرة في الفترات الانتقالية والأزمات.

 

تاريخياً، لم تكن الإذاعة مجرد وسيلة إعلام، بل أداة سياسية بامتياز، ففي معظم الانقلابات العسكرية التي شهدها السودان، كانت السيطرة على الإذاعة القومية مقدمة لإعلان السيطرة على الدولة، إذ يذاع البيان الأول بوصفه لحظة تأسيس للسلطة الجديدة. وفي فترات الحروب والتوترات، من الحرب الأهلية في جنوب السودان إلى دارفور وجنوب كردفان، تضاعفت أهمية الإذاعة كوسيلة لنقل الرواية الرسمية، وأحياناً كمنفذ وحيد للأخبار في المناطق النائية، مع ما رافق ذلك من تسييس أضعف ثقة قطاعات من الجمهور.

في الحرب الحالية، عاد هذا الدور التاريخي في سياق أكثر تعقيداً. مع انقطاع الإنترنت والكهرباء، استعادت الموجات القصيرة وأف إم مركزيتها كمصدر للمعلومات. لعبت الإذاعة القومية دوراً في بث البيانات والتوجيهات الرسمية، قبل أن تتوقف باستهدافها، بينما برزت الإذاعات المستقلة كمساحة لنقل أصوات المدنيين وتوثيق الانتهاكات وبث الرسائل الإنسانية.

مرمى النيران

في الساعات الأولى من الحرب تحول مبنى الهيئة القومية للإذاعة والتلفزيون في أم درمان إلى هدف مباشر للصراع المسلح، ففي تمام الرابعة والربع من مساء يوم اندلاع القتال، أعلن سيطرة قوات "الدعم السريع" على مبنى الإذاعة والتلفزيون، وهو تطور لم يكن عسكرياً فقط، بل حمل دلالة نفسية وسياسية عميقة، إذ وضعت الإذاعة والعاملون فيها في مرمى النيران المباشرة.

طوال ما يقارب 11 شهراً، ظل المبنى مسيطراً عليه من "الدعم السريع" وتدور داخله وحوله اشتباكات متقطعة، قبل أن يستعيده الجيش في مارس (آذار) عام 2024. خلال تلك الفترة، توقفت الإذاعة عن البث المنتظم، وتعرضت الاستوديوهات ومحطات الإرسال لأضرار متفاوتة، كما نهبت معدات، وكسرت خزائن مالية داخل الهيئة، بينها خزنة التلفزيون وفرع المؤسسة التعاونية. وحذرت نقابة الصحافيين السودانيين مراراً من أن تحويل المقر إلى ثكنة عسكرية يهدد أرشيفاً نادراً يضم مكتبات صوتية ومرئية، تمثل ذاكرة السودان الحديثة.

الانتهاكات لم تقتصر على المباني، بل طاولت العاملين أنفسهم. من أبرز الحالات اعتقال المذيع في الإذاعة السودانية نادر شلكاوي على يد قوات "الدعم السريع" في الـ30 من مايو (أيار) عام 2023 بمنطقة الجموعية في أم درمان، واحتجازه ثلاثة أيام في معسكر بمنطقة صالحة، بعد اتهامه بمراقبة تحركات القوات والتواصل مع الجيش. شلكاوي أفاد بفقدان أدواته الصحافية وشهادته الأكاديمية، وتعرضه لتهديدات ومشكلات صحية، في تجربة تلخص هشاشة وضع الإذاعيين خلال الحرب.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

كما تعرضت إذاعات ومؤسسات قريبة من القطاع الإذاعي لاعتداءات مباشرة، منها اقتحام استوديوهات "إذاعة هلا 96" في شارع النيل، وتحويلها والمواقع المجاورة إلى مقار عسكرية، إضافة إلى نهب معدات تسجيل صوتي لعدد من الصحافيين العاملين في الإنتاج الإذاعي. ووفق نقابة الصحافيين السودانيين، دمرت أو تعطلت نحو 90 في المئة من البنية التحتية الإعلامية، ونزح نحو ألف صحافي، بينهم عشرات من كوادر الإذاعة.

في مؤشر حرية الصحافة العالمي لعام 2025 الصادر عن "مراسلون بلا حدود"، حل السودان في المرتبة 156 من أصل 180 دولة، متراجعاً عن العام 2024، في انعكاس مباشر لتصاعد القتل والاعتقال والنهب. وتؤكد لجنة حماية الصحافيين مقتل ما لا يقل عن 14 صحافياً منذ بدء الحرب، مع عشرات حالات الاعتقال والاختفاء القسري. في هذا السياق، تبدو الإذاعة السودانية، مبنى وكوادر، واحدة من أكثر مؤسسات الدولة استهدافاً.

اختلالات عميقة

مع استعادة الجيش السيطرة على الإذاعة، لم تعد كما كانت عليه قبل الحرب، فقد ترك الصراع والقصف آثاراً عميقة على المباني والمكتبات الصوتية والمرئية، التي تضم إرثاً تاريخياً يمتد لنحو قرن.

عودة الإذاعة السودانية لاحقاً لم تأت دفعة واحدة، بل عبر مسار متدرج وحذر. بدأت بمحاولات بث جزئي من مواقع بديلة خارج مناطق الاشتباك، ثم انتقلت إلى تشغيل محدود من مدن أكثر أمناً مثل بورتسودان، مستندة إلى إمكانات تقنية موقتة وفرق عمل تقلصت بفعل النزوح والانقطاع القسري، غير أن هذه العودة ظلت أقرب إلى إثبات الوجود منها إلى استعادة الدور التاريخي، إذ لا تزال الموجات تعاني ضعف التغطية والتشويش وعدم استقرار الجودة، مع فقدان أجزاء من الأرشيف، وتفكك شبكات الاتصال والإنترنت التي يعتمد عليها نقل البث داخلياً وخارجياً، إضافة إلى تهديدات أمنية غير مباشرة، شملت هجمات بطائرات مسيرة وانفجارات في محيط مدن يفترض أنها آمنة نسبياً.

 يربط إعلاميون استعادة قوة الإذاعة، التي بدأت فقدانها منذ أن بدأت عسكرة الأجهزة الإعلامية بمشاركة حراستها بين الأمن والجيش و"الدعم السريع"، بمزيج من الضمانات الأمنية والقانونية، وإعادة تأهيل البنية التحتية، والدعم المحلي والدولي، وتطوير نماذج تشغيل مرنة مثل التعاونيات الإعلامية والبث الرقمي. كما يطرح إنشاء منصات إذاعية سودانية خارج البلاد كخيار لإعادة الصوت الوطني، وإعادة صياغة الرواية السودانية للعالم.

بعد كل ما مرت به الإذاعة السودانية من أحداث، أصبحت حاضرة من حيث الشكل، لكنها مثقلة بغياب الأثر في كثير من الأحيان، تعمل تحت سقف الإمكان، وتبث وسط اختلالات عميقة، في وقت كانت فيه الحاجة إلى صوت ثابت وموثوق أشد ما تكون، لتغدو واحدة من أبرز ضحايا الحرب الشاملة على مؤسسات الدولة والمجتمع المدني في السودان.

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير