Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

فلوبير الشاب يكتب "سيرة مواربة لأمه" كامرأة لامبالية

"يوميات مجنون" النص الذي أنجزه "أحمق العائلة" بحسب وصف سارتر مسحوقاً بين أب قاس وموتين

وضع جان بول سارتر غوستاف فلوبير (1821 – 1880) تحت مظلة فرويد (اندبندنت عربية)

ملخص

بحسب جان بول سارتر في كتابه "أحمق العائلة"، فإن غوستاف فلوبير إذ حرم من حنان الأم المفجوعة بابنيها الآخرين، تمكنت تصرفات الأم تجاهه من تحويله إلى موضوع بدلاً من أن يكون ذاتاً، وبهذه الخلفية وضع كتابه "يوميات مجنون"

في كتابه الكبير والرائد، في مجال النقد الأدبي، "أحمق العائلة" الذي كرسه كله لدراسة حياة غوستاف فلوبير وأدبه، يفيدنا جان بول سارتر، بأنه على عكس ما يفعل الباحثون منذ زمن بعيد، لم يجد من الضروري له أن يحدد ملامح أدب فلوبير، وارتباط هذا الأدب بحياته، انطلاقاً من أبعاد طبقية أو تاريخية أو أخلاقية تفسر نزعة هذا الكاتب وأيديولوجيته العلموية الموروثة من العقلانية التحليلية، ولا حتى من انتهازيته وتناقضاته، المتعلقة بأبيه (آشيل كليوفاس)، بل انطلاقاً من أم الكاتب وموقعها من حياته.

فغوستاف فلوبير، كما يخبرنا سارتر، إذ كان في طفولته مطحوناً بين موت شقيقين له، سيظل طوال حياته شاعراً بعبء ذلك الموقف وعلاقة الموقف بأمه، محتاجاً إلى حنان هذه الأم، في وقت كان يشعر فيه بقوة لامبالاة أبيه تجاهه.

وهكذا، بحسب سارتر، إذ حرم فلوبير من حنان الأم المفجوعة بابنيها الآخرين، تمكنت تصرفات الأم تجاهه من تحويله إلى موضوع بدلاً من أن يكون ذاتاً. وبحسب لغة سارتر "صار الطفل دلالة بدلاً من أن يكون دالاً، وصار ينظر إليه ويحدد من الخارج، من خارجه، مما جعله منذ البداية مؤهلاً لتلك الهستيريا التي طبعته لاحقاً، وللأدوار المتعددة التي ستتبع تناقضاته وتحدد غربته الدائمة، وهي غربة سيعود فلوبير ليحملها للشخصيات الأبرز في رواياته، وستحدد تصرفات هذه الشخصيات.

العودة لسنوات مبكرة

ولئن بدا كلام سارتر معقداً بعض الشيء هنا للقارئ غير المتآلف مع التحليل البنيوي أو مع علم النفس التحليلي، الجامع في هذا السياق بين فرويد وميلاني كلاين، فإن في إمكان هذا القارئ في سبيل الوصول إلى تحليل أقل تعقيداً وأكثر أدبية منه علمية، أن يعود لعمل مبكر من أعمال فلوبير، ليعثر فيه على الجذور الحقيقية، في الأقل لنظرة أديب المستقبل، إلى حياته وعواطفه المبكرة.

وهذا العمل هو بالطبع "يوميات مجنون"، ونحن إذا عرفنا أن فلوبير كتب هذا العمل وهو في الـ17، سيكون في وسعنا تلمس مقدار العفوية - وبالتالي، الصدق - فيه، مما يمكن من اعتماده كمدخل حقيقي، ليس فقط لفهم عمل فلوبير وحياته ككل، بل أيضاً لفهم تلك النظرية التي طبعت عمل سارتر من حول فلوبير، من دون أن ننسى هنا أن سارتر كتب "أحمق العائلة" في وقت كان مهموماً بأعمال فرويد نفسه وحياته، مستعداً للانكباب على سيناريو عن حياة فرويد كان من المفروض أن يحوله جون هستون إلى فيلم، فحقق هذا الأخير فيلمه تاركاً سيناريو سارتر جانباً.

ثلثا قرن من التأخير

كتب غوستاف فلوبير "يوميات مجنون" في عام 1838، لكن هذا العمل المبكر لصاحب "مدام بوفاري" لن ينشر للمرة الأولى إلا في عام 1900، أي بعد 20 عاماً من موت صاحبه.

و"يوميات مجنون" مثل معظم الأعمال الأولى للكتاب والفنانين، هو "سيرة ذاتية"، لكنه ليس بالطبع محصلة حياة طويلة، إذ ما الذي كان يمكن أن يكتبه على سبيل السيرة ذلك المراهق الذي كانه فلوبير في ذلك الحين؟ لقد كان، كما أشرنا، في الـ17، وكان كل ما يهمه، على الأرجح، هو أن يرمي على الورق عواطفه وأحاسيسه تجاه أول حب حقيقي عرفه في حياته، وهو حب كان من نصيب امرأة متزوجة تكبره سناً - هي، في عرف سارتر، كما في عرف كثر من الذين كتبوا عن فلوبير لاحقاً، إسقاط لشخصية أمه نفسها، بل لعل من الأفضل القول إن فلوبير كتب ذلك النص على ضوء خيبة أمله إزاء ذلك الغرام.

وإذا كان الباحثون قد ركزوا على ضعف هذا النص من الناحية الأدبية، وعلى تهافت كثير من وقائعه ومشاهده، فإنهم جميعاً، وفي مقدمهم سارتر، أجمعوا على أهميته في مجال الكشف عن روح فلوبير المعذبة والقلقة، والمتأرجحة بين مثالية كانت طاغية عليه، وبين حزن رومانطيقي كان من سماته، وسيظل يسمه حتى نهاية حياته. وهنا في هذا المجال بالتحديد ستربط تلك النزعة المثالية الرومانطيقية في آن معاً، بما سيكون طاغياً في أعمال فلوبير التالية، والخيبة التي ستكون دائماً من نصيب أبطاله الذين لا يصل أي منهم إلى مبتغاه العاطفي أبداً.

بين أسوار خانقة

في هذا النص يبدأ فلوبير بأن يتحدث عن حياته كطفل في المدرسة التي كان "يختنق بين أسوارها" ويزيد من اختناقه سخرية رفاقه في الدراسة واحتقارهم له، مما يجعله غير قادر، كتعويض، إلا على اللجوء إلى أحلام يقظته يعيشها حتى الثمالة. وهذا ما يقوده إلى ذلك الغرام الملتهب الذي، ما أن يبلغ سن المراهقة حتى يستشعره إزاء امرأة حسناء يلمحها ذات يوم عند شاطئ مدينة تروفيل في الغرب الفرنسي.

وهنا يبرع فلوبير، الكاتب الفني، في رسم صورة محددة لحسنائه هذه، وتدعى ماريا، إذ إن لغته تطاوعه، كما تفعل كاميرا سينمائية تستخدم عدسة "الزوم" المقتربة من موضوعها بالتدريج: يصفها لنا، من بعيد جداً أولاً، ثم يقترب منها بالتدريج، وبقدر ما يدفعه حبه لها، أو بالأحرى بقدر ما تدفعه جرأته. فبعد أن يكون وصفه لها برانياً، يقترب نظره أكثر وأكثر، وبعد أن يعانق هذا النظر، واللغة بالتالي، المرأة، تبدأ تفاصيلها الفيزيائية بالتكشف أمام أنظارنا، ثم يحل دور روحها الداخلية بدءاً من اللحظة التي يدنو فيها الفتى من فاتنته، ويكتشف حتى أن أذواقهما الأدبية والفكرية متجانسة.

في هذا الحين يكون الفتى قد تمكن من الدنو، أيضاً، من الحياة العائلية لماريا التي يعلم، ونعلم منذ البداية، أنها متزوجة وسعيدة بزواجها، أما مبادلتها الغرام لغوستاف فسنعرف لاحقاً أنها لم تكن موجودة إلا في مخيلة الفتى.

نزهة في مركب

المهم أن الفتى يتمكن ذات مساء من أن يقوم بنزهة مع ماريا في مركب، وهو يصف لنا تلك النزهة بعبارات شديدة الرومانطيقية والعاطفية، من المؤكد أنها هي اللغة التي أسست لاحقاً لبعض أجمل صفحات "مدام بوفاري"، وبخاصة حين يبدع في وصف خبط الأمواج على جانبي المركب، خبطاً يشبه خبطات قلبه، ويصل إلى القول "لقد كان أمراً يحبب المرء بأن يموت غراماً، كان أمراً له سحر الحلم ومتعة الحقيقة".

غير أن فلوبير نفسه سرعان ما سيخبرنا بأن هذا الوله الذي يعيشه ليس سوى حلم يقظة، ذلك أنه، في حقيقة أمره، لن يجرؤ أبداً على مفاتحة ماريا بحبه. كل ما في الأمر أنه يعيش هذا الحب في داخله في صورة روحية وصوفية. تماماً كما يعيش المرء حبه لأمه، ثم حين يكتشف غوستاف أن هذا كله لم يكن أكثر من حلم يعتصر دواخله، يجرؤ على أن يصارحنا بحقيقة ماريا الجسدية قائلاً: "لقد كانت هنا، خلف هذه الجدران التي كنت التهمها بناظري. كانت هنا، جميلة وعارية، بكل ما يتركه الليل من خفر، بكل ما يخلقه الحب من نعمى، بكل ضروب العفة المرجوة. كانت هنا، وكان هذا الرجل هنا أيضاً، وليس عليه إلا أن يفتح لها ذراعيه. كان كل شيء له، أما أنا فلم يكن لي أي شيء".

وهكذا تحل الغيرة محل كل المشاعر الأخرى، ومع الحيرة والخيبة لدى فتى كان قد جعل من الحب فكرة نقية سماوية، ها كل شيء يسقط الآن أرضاً ويدمره، لذا لا يبقى له سوى الشاطئ، حيث التقاها للمرة الأولى يذهب إليه ويبثه حزنه... ويكتب.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

كاتب آخر والمرأة نفسها

في وقت كتب فيه غوستاف فلوبير (1821 - 1880) هذا النص الأول القصير والساحر، كان الكاتب الشاب مختلفاً إلى حد كبير عن الكاتب الذي سيكونه لاحقاً، حتى وإن كان تعامله مع العواطف وتحليل الشخصيات سيبقى على حاله.

في فترته المبكرة تلك كان فلوبير لا يزال مطبوعاً بتأثيرات قراءته لشاتوبريان وروسو، وهي تأثيرات ستزول كلما اقترب صاحبنا من الواقعية، ومع هذا لن يفوتنا أن نلمح أجزاء كثيرة من ماريا، في معظم أعماله التالية، ولا سيما في "مدام بوفاري" كما أشرنا، ولكن أيضاً في "التربية العاطفية" (من خلال شخصية مدام آرنو). وإذا كانت "مدام بوفاري" و"التربية العاطفية" أشهر عملين لفلوبير، فإنه خلف كذلك كثيراً من الأعمال المهمة الأخرى، ومنها "بوفار وبيكوشيه" و"رحلة إلى مصر" و"سالامبو"، ولا سيما مجموعة مراسلاته التي تعتبر أجمل مراسلات في الأدب الفرنسي في القرن الـ19.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة