Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

في سوريا: قطاع صحي تائه بين نظامين

ورثت السلطات الجديدة عن الأسد منظومة متهالكة ومتهاوية وعلى وشك الانهيار

حذرت تقارير دولية من إمكانية تعرض ملايين السكان للمخاطر الناجمة عن التيه الواقع بالقطاع الصحي (اندبندنت عربية)

ملخص

صار البحث عن أجهزة تشخيص إشعاعي أقرب لمعجزة، سواء أكان من نوع الرنين المغناطيسي أو الطبقي المحوري، يكاد يكون معظم الأجهزة في القطاع العام معطلة، ربما جميعها، كان النظام السابق يحاول العمل على تغطية أماكن محددة في مدن رئيسة بالرعاية الصحية الممكنة تاركاً دونها مساحات شاسعة بلا غطاء طبي.

مر عام كامل على سقوط النظام السوري السابق، رفع الناس خلال هذا العام سقف آمالهم عالياً قدر المستطاع كمن يطلب معجزةً تحقق كل أمنياته دفعة واحدة، لكن الواقع على الأرض كان أقسى وأكثر مرارة وصلابة.

كل قطاعات الدولة بدت بعد السقوط كيف أن التهالك نهشها على مر سني الحرب، وكان قطاع الصحة على رأسها بوصفها انعكاساً مباشراً لواقع حربي وسياسي مضطرب، حتى باتت مرافقه ومستشفياته تواجه اليوم أزمة غير مسبوقة، نقص فادح في الكوادر البشرية (أطباء – ممرضين – فنيين – أخصائيين – عمال)، وأقسام مغلقة، ومستشفيات معطلة، ومستوصفات خرجت عن الخدمة، ونقص حاد في الأدوية، وفوقها صرف آلاف العاملين في القطاع الصحي على أسس غير سليمة أو منهجية أو مهنية يغلب عليها الطابع المناطقي – الانتقامي، كل ذلك دفع المرضى ثمنه مضاعفاً، وفي سوريا بعد كل تلك الحرب من خرج معافى في جسده لا شك أنه لم يخرج معافى في سلامته النفسية.

إرث مشبع بالإنهاك

ورثت السلطات الجديدة عن نظام البعث منظومة صحية متهالكة ومتهاوية وعلى وشك الانهيار، وأكدت تقارير دولية أخيراً محذرةً من إمكانية تعرض ملايين السكان للمخاطر الناجمة عن التيه الواقع في القطاع الصحي. كان ذلك بعد أن تعرض كثير من المستشفيات والملحقات الطبية الفرعية للقصف الممنهج أريافاً ومدناً ضمن الحرب التي نسفت البنى التحتية.

صار البحث عن أجهزة تشخيص إشعاعي أقرب لمعجزة، سواء كان من نوع الرنين المغناطيسي أو الطبقي المحوري، يكاد يكون معظم الأجهزة في القطاع العام معطلة، ربما جميعها، كان النظام السابق يحاول العمل على تغطية أماكن محددة في مدن رئيسة بالرعاية الصحية الممكنة تاركاً دونها مساحات شاسعة بلا غطاء طبي.

 

أطباء سوريون تحدثوا لـ "اندبندنت عربية" عن أن تراكم مشكلات المستشفيات وعدم تدعيمها وقصف المتبقي منها وتجيير المواد الأولية المرتبطة بالصناعة الدوائية لمصلحة المخدرات خلال الحرب خلق فجوة طبية كبيرة لا يمكن إصلاحها بإجراء أو اثنين ولا بعشرة قرارات، "السلطة الجديدة ورثت عجزاً مالياً فادحاً، هياكل مستشفيات، كوادر مفقودة، نظام إداري مرتبك ومتشعب ومتخبط، كذلك الاستعانة بالموارد الأساسية المتاحة بغية تجييرها لحسابات منفعية شخصية سلطوية".

وفي هذا السياق يرى الطبيب حسن تقلا أن "السلطة السورية الجديدة منذ استلمت الحكم وحتى الآن هي لم تبدأ من الصفر، بل من ما هو دون الصفر بكثير، من معالجة حال انهيار كاملة تمتزج فيها المصائب القديمة بالتحديات الجديدة، ما يجعل أمر إصلاح القطاع الصحي عملاً يتطلب مجهوداً خرافياً يحتاج قفزاً سريعاً فوق عقبات البيروقراطية والتخطيط البطيء وانتظار الدعم الخارجي"، موضحاً أن حلول التعافي المبكر تبدأ من الداخل أولاً وقبل كل شيء "ولكنّ تلك القرارات لم تتخذ حتّى الآن".

نزف الانتقام

مع وصول "هيئة تحرير الشام" إلى حكم سوريا سارعت باتخاذ عشرات القرارات الفورية أو المتتالية وكان قسم كبير منها يتعلق بالفصل التعسفي لعشرات آلاف العاملين والموظفين في قطاعات مختلفة، وفي أحيان ثانية جرى تطبيق ضغط إضافي عبر نقل العاملين من أقصى غرب سوريا إلى شرقها في محاولة لدفعهم لتقديم استقالاتهم طواعية، بحسب موظفين طاولتهم تلك القرارات.

حظي قطاع الصحة بنصيبه من تلك العملية عبر فصل آلاف العاملين فيه على أسس يقول المتضررون منها إنها طائفية وتحمل روح الثأر والانتقام بعد إقصائهم لمصلحة القادمين من إدلب مع حملة التحرير، فيما بررت السلطات قراراتها بأنها نوع من محاربة الفساد وإعادة الهيكلة، لكنها عملياً أسفرت عن ضربة قاصمة لما بقي من ظهر الجسد الصحي.

 

التقديرات المحلية في سوريا تشير إلى أن من ربع إلى نحو ثلث العاملين في المجال الصحي في الأقل جرى طردهم أو لم تجدد عقودهم، هذه الأرقام مبنية على مراجعة مع الواقع الإداري في مستشفيات ومستوصفات ونقاط طبية كثيرة واستناداً لرصد تظاهرات المفصولين ومعلومات من داخل الوزارة. تلك الإجراءات تركت أعباء ثقيلة للغاية على من بقي في عمله، وهذا بالضرورة لا يعني أن كل الأقليات جرى طردها، ولكن الأقليات هي التي اقتصر الطرد عليها فعلياً.

الكرامة المهنية

في ظل كل تلك الأجواء الضبابية المقلقة في القطاع الصحي تبرز تلك القضايا المتعلقة بالأطباء والعاملين أنفسهم والذين يجدون أنفسهم على الدوام في مواجهة معضلة مستمرة تتراوح بين ضرورات أداء الواجب المهني من جهة والضغوط الأهلية والشعبية من جهة ثانية، تلك الضغوطات التي عرضت حياة بعضهم للخطر في أحيانٍ كثيرة ضمن سلسلة أحداث متصلة – منفصلة تعرض فيها أطباء كثر للشتم أو الضرب والاعتداء البدني والجسدي وأحياناً باستخدام السلاح كما شاهد السوريون ذلك في مقاطع مصورة جرى تداولها غير مرة، وضمناً ما حصل في مجازر السويداء خلال يوليو (تموز) الماضي والإعدامات الميدانية التي لقيها بعض أفراد الفريق الطبي العامل هناك ومن بينهم المسعفون الميدانيون.

"قد تكون أحداث السويداء مفهومة بطبيعتها، ولكن ماذا عن سواها، عن أحداث المناطق الآمنة؟"، يتساءل الطبيب مصعب زكي من دمشق، مضيفاً "أنا شخصياً تعرضت للمدافعة الجسدية والاعتداء الصارخ بسلاح ناري في حرم المستشفى الذي أعمل به لأني لم أتمكن من إنقاذ حياة شخص وصل إلينا مفارقاً الحياة تقريباً، فعلنا كل ما نستطيع لإنعاشه لكن قدره كان أسرع، نواجه كثيراً من هذه الحوادث في الآونة الأخيرة، وفي الحرب عموماً، ثمة الكثير من الناس الذين لا يفهمون أننا أدوات علمية سخرها الله للمساعدة لا لإحياء أرواح فارقت أبدانها، نعم نحن حلقة ضعيفة، خائفة، قلقة، وجائعة أيضاً، هذا عدا عن كل ما نسمعه من اعتقالات تطاول أطباء زملاء من وسط عياداتهم من دون معرفة السبب".

يوسف اسم مستعار لطبيب يعمل في أحد مستشفيات حمص ويستذكر حادثةً وقعت قبل نحو شهرين حين حاصرت مجموعة عشائرية مستشفى حي كرم اللوز مطالبةً بطرد الأطباء العلويين منه، "المستشفى يقع في حي علوي، ويقدم خدماته للجميع، حينها تدخل الأمن العام وطرد أولئك المسلحين الملثمين بالقوة، نعم هذا جزء مما نعانيه، كانت ساعات عصيبة نتخيل فيها كل لحظة كيف سنصير جثثاً هامدة بين ثانية وأخرى، ودعنا بعضنا، صحيح أن الحادثة انقضت على خير، لكن الكثير من الأطباء اليوم يعيدون تقييم مساراتهم المهنية نحو الهجرة أو العمل الخاص فقط".

 

وفي الإطار يرى الممرض حسن أحمد العامل في أحد مستشفيات طرطوس أن "الضغوط تتراكم وتتزايد يومياً في ظل سقف التوقعات المرتفع دائماً لدى الأهالي بخلاص المريض مما هو به، وهو ما يضع الجسد الطبي في حال قاسية عليهم خلالها اتخاذ قرارات مصيرية وحاسمة وآنية يقف في وجهها نقص الكوادر والمعدات والأجهزة والأدوية ما يحمل معه إمكانية زيادة الخطأ البشري، كأن تكون هناك عملية إسعافية مستعجلة ولكن لا يوجد طبيب أو فني تخدير!، وهي حال تتكرر في ظل ندرة هذا الاختصاص اليوم في سوريا رفقة الطب الشرعي واختصاصات أخرى".

وحول الحماية التي يجب أن يلقاها الصحيون فيرى المحامي عز الدين علي أن "القانون بطبعه جاف وصارم ويعمل وفق قواعد قانونية ثابتة لا تراعي في جوهرها الظروف التي تمر ومرت بها البلاد خلال الأعوام الماضية فحجبت الحماية القانونية للطبيب جزئياً وجعلته يتحول لمتهم في قضايا كثيرة تحمل جوانب تقصيرية محتملة، لكن الطبيب ومعاونيه فعلياً لا ذنب لهم فيها، فما يبدو أنه تقصير في إنعاش مريض هو ليس تقصيراً بشرياً مباشراً من قبل الطاقم المسعف بل تقصير مرتبط بغياب الكوادر اللازمة وذات التخصص المباشر، وهو ما قد يعرضهم لملاحقة قانونية أو إدارية أو مسلكية".

لماذا لم يعودوا؟

خلال عقدٍ ونصف العقد من عمر الحرب السورية نزفت سوريا الكمّ الكبير من كوادرها الطبية حتّى باتت بعض التخصصات أكثر من نادرة، بل وعلى وشك الاندثار (طب شرعي – تخدير – نفسي وغيرهم)، ومع سقوط النظام أواخر عام 2024 كانت هناك توقعات عريضة بعودة جماعية لأولئك الأطباء والأخصائيين إلا أن ذلك لم يحصل فعلياً.

معظم أولئك الأطباء فضلوا البقاء في الخارج بعد أن بنوا مسارات حياةٍ مهنية مستقلة وحققوا نجاحات علمية واسعة وملحوظة إلى جانب العنصر المتعلق بالأمان الشخصي والمالي والمستقبلي، ما ترك بلدهم في حالة فجوة كبيرة بين الكفاءات المتبقية والتي تبذل جهداً كبيراً، وبين الكفاءات التي هاجرت وتركت الحمل على من بقي. يتركز وجود هذه الكوادر في الدول الأوروبية أولاً ثم الأميركية والخليجية ثانياً.

 

نيرمين عودة طبيبة متخصصة بالجراحة الجلدية، هاجرت إلى الإمارات عام 2014، اليوم هي عضو مجلس إدارة في مستشفى مرموق في دبي، تتقاضى عدة آلاف دولارات شهرياً، تعيش حياةً تحبها ولطالما سعت إليها، كما تعبّر، ولا ترغب بالعودة إلى سوريا، معتبرةً أن سوريا لن يكون بمقدورها أن تضيف لها شيئاً من جديد، كما لم تفعل من قبل، "البنية التحتية مدمرة، سنكون تحت رحمة قوانين غائبة وتهديدات حياتية مرتبطة بالمهنة وخارج المهنة، ما نراه ونسمعه ونقرأ عنه من اختطاف وقتل وجرائم يجعلك تفكر ألف مرّة قبل أن تقرر العودة للاستقرار، أنا حتى الآن لم آت لزيارة سوريا بعد التحرير، موقفي ليس سياسياً بالطبع فأنا هربت من حكم بشار أساساً، لكن موقفي ينبع من حزن مرتبط ببلدي التي لا تزال تغرق في الوحول ولا تزال هي نفسها لا ترغب في تشجيعنا على العودة، أي مهاجر كمثل أي مستثمر لن يستطيع العودة قبل تحقيق عاملي الاستقرار، الأمني والاقتصادي".

كذلك وضمن نفس الأسباب يتفق مع نيرمين الكثير من الأطباء السوريين المتناثرين في بقاع الأرض والذين تواصلت معهم "اندبندنت عربية"، جميعهم في صورة ملحمية حزينة مشبعة بالأنين يجمعون أن ما كان سابقاً من حياتهم مرحلة وانتهت، والحنين وحده لا يكفي للعودة، فعلياً قالوا الكثير عن الواقع السوري، واشتركوا جميعاً بأن العودة قد تكون قائمةً يوماً ما حين ترتكز بلادهم على أرضية ثابتة.

المتضرر الأكبر

في ظل كل تلك المشكلات ضمن القطاع الصحي يبرز المريض ليكون الأضعف بين الجميع، أولئك الذين يعانون أمراضاً شديدة بين السرطان والمشكلات العصبية وصولاً لأمراض السكري والقلب والضغط والكلى وغسيلها، هؤلاء لا يعرفون أين يذهبون بأمراضهم وإلى أين ولا كيف سيعثرون على سرير فارغ أو دواء مطلوب لمرض مزمن.

المستشفيات العامة على قلتها تقدم علاجات مجانية في حالات متنوعة وبعضها يكون خطراً، لكن ذلك قد يتطلب الانتظار على قائمة دور تصل لأشهر كحالات تركيب الصمامات القلبية، ما يضاعف الأخطار على الحياة، خصوصاً بعد أن صارت تكاليف عمليات كتلك، المرتبطة مثلاً بالقلب والشرايين قد تكلف عشرات ملايين الليرات السورية.

كذلك تكلف الخمسيني محسن نور خلال نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي حين دفع أكثر من سبعة آلاف دولار مقابل ثلاث عمليات شرايين في مستشفى خاص مرفقةً بأجور الاستقصاء الطبي – التقني باهظة الأجور، وهي التي غير موجودة بصورة عامة لدى المستشفيات الحكومية لناحية التجهيزات والمعدات.

تلك التداعيات اليوم لم تعد تحمل انعكاساً فردياً على شخص بعينه، بل على مجتمع بأكمله اعتاد لأعوام طويلة من عمره على طبابة مجانية، ومجمل ذلك أدى لزيادة في معدل الوفيات بين الفئات الأكثر هشاشة وكذلك الريفية مع تفاقم في تبعات الأمراض المزمنة ليصير الأمر كله وكأنه صورة تنعكس في مرآة معلنةً فشلاً كاملاً في منظومة النظام الصحي، يزيد في فشلها غياب أهم ما يلزم من أدوية.

مبانٍ بلا أرواح

زارت "اندبندنت عربية" نحو عشرة مستشفيات خاصة في مناطق متفرقة، بدت جميعها خاوية على عروشها، يحضر فيها موظف أو أكثر في قسم الاستقبال، ممرض أو اثنين، طبيب مناوب بغض النظر عن تخصصه، وأطباء متعاقدون تحت الطلب حين تصل حالة إلى المستشفى، وتلك الحالة قد يكون الفارق بين حياتها وموتها لحظة، وكذلك لا تملك أجهزة التصوير الحديث في أغلبها، في حين تظهر مستشفيات ومراكز خاصة أخرى باتت متخصصة في امتلاك تلك الأدوات وتقديم خدماتها للمرضى مقابل أجور تكبر على السوريين، تحديداً على صعيد الأجهزة المتعلقة بالمسح بالموجات "الرنين المغناطيسي"، وهو الإجراء المتقدم والضروري لمعظم العمليات الحيوية.

 

أما في المستشفيات الحكومية فتبدو الحركة أكثر نشاطاً، مع وجود كوادر أكثر وأكبر لكن يغلب عليها طابع الأطباء المقيمين "تحت الدراسة" خلال التخصص، وتعاني نقصاً حاداً في التجهيزات الحديثة والجراحية وأجهزة التصوير، إضافة إلى سوء العقامة ومشكلات التشخيص.

مع بداية ديسمبر (كانون الأول) الجاري عانى الشاب سمير تميم من خرّاج جلدي فخذي ظاهر، كانت القصة طبية بسيطة جداً، ومرتبطة بفتح مشرطي صغير في الجلد، إلى حد ما كان يمكن أن يفعلها بنفسه في المنزل لكنه خشي من التبعات المتعلقة بضرورة التعقيم الفوري وخلافه، ليقرر مراجعة مستشفى حكومي. ويقول، "حين دخلت سألت عن قسم الجلدية أو الجراحة الجلدية ففوجئت بأنه لا يوجد لديهم، شرحت لهم عن حالتي، فحولوني إلى قسم الجراحة العامة، ومن هناك جرى تحويلي لقسم العظمية، ولست أدري في الحالين ارتباط هذين الاختصاصين بانتفاخ جلدي ظاهر من نوع الحبوب المنتفخة والمؤلمة، وفي نهاية المطاف طلب مني طبيب العظمية الجلوس في إحدى غرف الإسعاف، وقال لي: سأنتهي من الحالات الأخرى وأراك، دخلت الغرفة وإذ بالسرير ممتلئ بالدماء والقيوح وتغيب عن الغرفة أدنى درجات ومعايير النظافة والعقامة فخرجت مسرعاً". وأضاف "بعد ذلك ذهبت إلى مستشفى خاص تكفل بعملية الوخز المشرطي لإخراج الألم المعملي، لم تستغرق العملية دقيقة، لكنها كلفت نحو مئة دولار ببساطة".

وعود كثيرة ولا خطط حقيقية

منذ استلمت السلطات الجديدة الحكم تعهدت مبكراً عبر كثير من التصريحات بإعادة بناء المنظومة الصحية بمختلف قطاعاتها، ولكن مع انقضاء عامٍ على ذلك لم يحصل شيء من تلك الوعود، أو في الأقل معظمها، ولعل ذلك يرجع لضعف في التخطيط والتنسيق وغياب خطط واضحة واستراتيجية معقولة قابلة للتنفيذ والتطبيق على الأرض.

يتساءل الطبيب السوري عمرو حسان المقيم في لبنان عن جدية وعود السلطة نفسها إذا ما قورنت بمعرفتها المسبقة بضعف التمويل وتشتت الكوادر وعدم القدرة على وضع خطط استراتيجية طويلة الأمد وأخرى تكتيكية قصيرة الأجل لإصلاح ما أمكن في القطاع الصحي، "لم يتوقف تدهور الواقع الصحي، هناك مسافة شاسعة بين الوعود والواقع، فهل السلطات جادة فعلياً في إعادة البناء وها قد مرّ عام؟".

ليست الصحة وحدها

لا ينطبق ذلك الانهيار على مؤسسات القطاع الصحي وحده، بل يتعداه نحو الإعلام والثقافة والتعليم والقضاء والشؤون الاجتماعية والأمن والحالة الفصائلية وغيرهم من القطاعات الأساسية في حياة المواطنين.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

في التعليم مناوشات أيديولوجية على المناهج وحذف تواريخ وتكريس رؤى جديدة وكتابة "رواية المنتصر" مع نقص فادح هو الآخر في الكوادر التعليمية، القضاء في نفس المركب، الإعلام لا يبالي بتكريس الخطاب الطائفي وخطاب الكراهية، العوائل والعشائر والمحظيون يحكمون من جديد مفاصل معقدة من البلد على قاعدة الولاء لا الكفاءة، الانتقام لا الرحمة، الفصل التعسفي وقطع الأرزاق، الاتهامات الجاهزة والمعلبة سلفاً، ووزارات بواجهات ترتدي لباساً رسمياً ومن خلفها كما بقية المؤسسات شيوخ تحكم.

يقول صحافي سوري طلب عدم الكشف عن اسمه، "تدخل اليوم وزارة أو مؤسسة أو محكمة أو مستشفى حتى فلا تدري ماذا تقول للذي أمامك، مرحبا أستاذ، مرحبا دكتور، مرحبا سيادتك، أم السلام عليكم يا شيخ؟، ويبدو أنه الأضمن أن تخاطبه بالشيخ لأنه غالباً سيكون شيخاً، ولن يكون من أبناء محافظتك بالتأكيد، إن اصطلحنا مجازاً أن الرؤية الثورية كانت ترى قبل التحرير أن طائفة حكمت بلداً، فمعارضو السلطة اليوم يرون أن مدينة (إدلب) تحكم بلداً".

تفكيك المسؤوليات

ضمن محاولة تفكيك المسؤوليات اليوم ومعرفة المسبب الحقيقي لهذا الانهيار المستمر في واقع القطاعات الحيوية التي تمثل عصب المجتمع السوري وعلى رأسها الصحي يجب النظر إلى الأمر على مرحلتين، الأولى ترتبط بالنظام السابق وما تركه خلفه من بنى تحتية مهترئة، ومن تجيير الصناعة الدوائية لمصلحة إنتاج المخدرات، وغياب التركيز عن الرعاية الشاملة وحصرها في مناطق محددة ضمن الحد الأدنى الممكن لئلا يتلاشى القطاع تماماً ما قاد في نهاية المطاف لانتصار القطاع الخاص على الدولة نفسها وجيوب مواطنيها، وعلى رغم ذلك فقد ترك خلفه بعض المرافق المحدودة.

المرحلة الثانية ترتبط بالسلطة الحالية التي ورثت بصورة تامة منظومة متهالكة ومنهكة ومستنزفة بشرياً وموارد وبنيةً، ولكنها في الوقت ذاته لم تفلح في وضع خطة إسعافية علاجية طارئة لإصلاح القطاع وتأمين الموارد اللازمة لإتمام ما يمكن ترميمه.

إلى جانب هاتين المرحلتين لعبت العقوبات الدولية دوراً كبيراً في نقص الأدوية والمعدات مع سوء التعامل مع العقوبات نفسها عبر ضعف التخطيط وسبل الإدارة المثلى بما توافر، ليكون الداخل معززاً لعقوبات الخارج لا مقاوماً لها، ولربما الأهم هو الواقع العسكري والأمني الذي كان يعصف بالبلد مدمراً بناه الطبية ومهجراً كفاءاته، وبذلك تصبح المشكلة مركبة بين نظامين سابق وحالي وعقوبات دولية وانعدام استقرار أمني واقتصادي داخلي يتطلب معه مقاربة شاملة ووضع خطط فعلية للنهوض بالقطاع الصحي من جديد والذي كان يوماً ما من الأقل كلفة على صعيد العالم العربي، ومن بين الأفضل صحياً لجودة ومهارة العاملين فيه والذين بزغ نجم الكثير منهم في دول المهجر.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات