Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

سنوات السوريين العجاف... هجرات متواصلة ونزف ديموغرافي

لم يهاجر الناس من أجل تحسين الحياة بل هرباً من واقع قاسٍ ومستقبل غامض وصارت مناطق بأسرها فضاءات فارغة

لم يجد كثير من السوريين وسيلة للعيش سوى بالهرب (مواقع التواصل)

ملخص

لم يجد الهاربون من جحيم سوريا، وتحديداً ما بعد مجازر الساحل في مارس (آذار) الماضي، وحالات العنف والقتل والتغييب والخطف اليومي في حمص وريف حماة نجاةً لهم إلا في الهرب، وإن كان من نافلة القول إن كبار ضباط النظام صاروا في روسيا وإيران ودول أخرى وحتى لبنان، ليتبقى أولئك الذين لم يكونوا يوماً جزءاً من ماكينة الحرب، لكنهم دفعوا ثمن التحرير قتلاً عشوائياً على مداخل منازلهم وفي محالهم وسياراتهم وشوارعهم الضيقة.

بعيد انطلاق شرارة الحرب السورية عام 2011، لم تعد مفاهيم الرحيل والهجرة مجرد خيارات ظرفية في حينها لتظل أمراً عابراً أو سلوكاً فردياً، بل صارت سمة جماعية يستدل عليها بوجود 7 ملايين مهجر خارجياً، ونحو 6 ملايين نازح داخلياً، وعشرات آلاف من مهاجري ما بعد سقوط النظام، فلطالما كانت الهجرة نظرياً وعملياً أوضح صورة تعكسها مرآة اضطراب البنى الشاملة للدولة في كل مرافقها.

الهجرات التاريخية الثلاثة

في عامي 2012 و2013 شهدت سوريا موجة الهجرة الأكبر في تاريخها، كانت محمولة على دوافع تتعلق بالبحث عن النجاة من العاصفة الدائرة قتلاً وقصفاً واعتقالاً، ومن الانهيارات المتعددة في مختلف المناحي الحياتية سياسياً وميدانياً وأمنياً واقتصادياً، لذا يمكن فهمها بصورة واضحة جداً، وبل تلخيصها بأنها كانت هرباً من موتٍ محدق من كل اتجاه.

في عام 2014 تماسك النظام السابق أكثر، استعاد إلى حد واسع السيطرة داخل المدن الرئيسة، واستمر كذلك حتى دخول الروس أواخر عام 2015، لكن ميزان المعركة عاد ليختلف جذرياً بسيطرة "داعش" على أكثر من 70 في المئة من الأراضي السورية، واستخدام النظام وحلفائه أشد صنوف الأسلحة التقليدية فتكاً، وهو ما قاد لموجة هجرة ثانية كبرى استمرت ما بين عامي 2015 و2018.

في عام 2018 عملياً ركنت كل جبهات البلاد وفق اتفاقيات خفض التصعيد ومساري آستانا وسوتشي الدوليين والرعاة الضامنين إقليمياً وعالمياً، ويمكن القول إن الهجرة توقفت مع الهدوء الذي عاشته البلاد في تلك الفترة، لكن لم يكن أحد يتوقع أن تعود سوريا لتشهد موجة هجرة ثالثة كبرى بعيد مطلع عام 2020 والتي استمرت حتى سقوط النظام أواخر عام 2024، تلك الهجرة تنفرد وتختلف عن سابقتيها، لأنها جاءت تحت وطأة ظروف اقتصادية لا تحتمل، فكانت بكل المقاييس هجرة للبحث عن حياة ومعيشة أفضل بل والنجاة من الموت جوعاً.

هذه الهجرة تزامنت مع موجة كورونا القاسية، ومع بدء تطبيق قانون قيصر الأميركي على سوريا واشتداد العقوبات الغربية عموماً، وبذلك باتت حياة ساكني البلد تدور ضمن صراع اقتصادي مفتوح لا نجاة منه إلا بالرحيل. وفي تلك الهجرات الثلاث طغى المكون السني عليها، والذي كان بمساحة معتبرة منه يمثل الحاضنة المناوئة للنظام، وبدرجة أقل مسيحيو سوريا الذين تراجعت أعدادهم بشكل مهول.

الهجرة الرابعة للظفر بالنجاة

أما الهجرة الرابعة فكانت هي المفاجئة، لأنها جاءت مع سقوط نظام البعث، وقد قامت على مخاوف مجتمعية بالمقام الأول، لم تكن هرباً من قنبلة وقذيفة وطائرة، بل من وسم سياسي لأفراد كانوا بحكم الأمر الواقع جزءاً من نظام خسر معركة كبرى، سياسيين وحزبيين وعسكريين ورجال أعمال والأكثر الكثير بينهم مدنيون عاديون.

في هذه الهجرة الأخيرة صار الأمن هشاً، والردع متهاوياً، والقتل والخطف والسبي والتغييب القسري والثأر والانتقام والاستهداف العشوائي وصرف النفوذ واستغلال السلطة ونشوة النصر وإبراز الملامح الطائفية هي عناوين المرحلة المقلقة.

 

هنا لم يهاجر الناس من أجل عمل وأشغال، بل هرباً من واقع قاسٍ، ومحاولة نجاة استباقية من مستقبل رأوا أن لا ضوابط تحكمه، فصارت مناطق بأسرها فضاءات فارغة من نسبة كبيرة من عائلاتها عموماً، وشبابها ورجالها خصوصاً، وهؤلاء بغالبيتهم من الطائفة العلوية، يليهم مسيحيون ودروز بدرجة أقل، وجميعهم شهدوا مجازر من غير اليسير شرح فداحتها.

الخوف المتحول

مع سقوط منظومة حكم بشار الأسد تلاشى معها المركز الثابت الذي كان يوزع المخاوف بكل الأبعاد وفي كل الاتجاهات، ذلك السقوط المركزي فعلياً أطاح بالدولة نفسها لا النظام عينه، على قاعدة أن فكرته مستمرة طالما أن السوريين ما زالوا يدورون في فلك الخوف، كثروا أم قلوا، ساد الفراغ الأمني ضمن تجربة غير مسبوقة على رغم أهوال حرب سابقة.

يقول المهندس عمران صبوح أحد سكان حمص، "مدينتنا مختلطة ديموغرافياً بشكل كبير جداً، اليوم لم نعد نعرف أين هو مركز التوازن لدينا، من يملك قراراً ومن يحجبه، رأينا كيف هاجم البدو أحياءنا، أمراء العشراء نبذت هذا التصرف في المدينة، لكن لم يستجب أحد، تدخل الأمن العام لحمايتنا في خطوة عظيمة، لكن في اليوم التالي خرجت تظاهرات في كل مدن العلويين، بعضها انفرط عقده بهدوء، وأخرى بقوة النار كحمص مثلاً، أليس هذا تيهاً غريباً، أمس يحمينا الأمن واليوم يطلق النار ليفرقنا، الحيرة تجتاحنا، هل نحن أبناء هذا البلد أم مكون هامشي؟، وبالمناسبة من تظاهر في حمص هم من بقي من رجالها وشبابها، البقية كلهم هربوا إلى لبنان ولو لم يكونوا مذنبين قيد أنملة".

يمكن الحديث بعد سماع شهادات كثيرة من ضمن البيئات التي هاجر ويهاجر أهلها حول أن الفراغ القائم حالياً أعاد إنتاج الخوف بشكل بيني مستديم وبخطوط واسعة ومرعبة، بعيداً من الحالة المركزية السيادية التي يتمتع بها أي نظام قائم.

وفي هذه السياق تقول السيدة نجاح عصفور من سكان حمص إن "الخوف ليس في القصف اليوم، ولا بالتفجيرات التي لطالما عصفت أحياءهم خلال الحرب، وإن قرار الهجرة صار متعلقاً بضياع المرجعية، بالخوف من القاضي الذي يمكن أن يصير خصماً في لحظة، من استضعافهم وإهانتهم، والأسوأ أن كل فرد صار يدرك أنه الهدف التالي في عمليات القتل التي لم تعرف طريقها للتوقف".

وتتابع، "أنا أسكن حي الزهراء أكبر أحياء حمص وكل يوم أسأل أين شبابنا، لماذا هاجروا إلى لبنان وغيرها، لماذا يريدون إخافتنا إلى هذا الحد، لماذا لا نكون شريكاً، لماذا يصرون أن يروننا فلولاً لبشار الذي لم نستفد منه بقشة؟".

لبنان: لا خيارات أخرى

لم يجد الهاربون من جحيم سوريا، وتحديداً ما بعد مجازر الساحل في مارس (آذار) الماضي، وحالات العنف والقتل والتغييب والخطف اليومي في حمص وريف حماة نجاةً لهم إلا في الهرب، وإن كان من نافلة القول أن كبار ضباط النظام صاروا في روسيا وإيران ودول أخرى وحتى لبنان، ليتبقى أولئك الذين لم يكونوا يوماً جزءاً من ماكينة الحرب، لكنهم دفعوا ثمن التحرير قتلاً عشوائياً على مداخل منازلهم وفي محالهم وسياراتهم وشوارعهم الضيقة، هؤلاء الذين كثر الحديث عنهم حتى فاض، فتناولتهم كبرى وسائل الإعلام والوكالات الدولية مراراً، اليوم يعيشون جثثاً تتنفس في بلد لا يحظون فيه برعاية أو اهتمام حقيقيين ولا حتى صفة لاجئ.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وبالحديث عن صفة لاجئ التي لم تعط لهم ذكر أحد المصادر الرسمية اللبنانية لـ"اندبندنت عربية" مفضلاً عدم الكشف عن اسمه، طبيعة الموقف من وجهة نظر دولته التي ترى أن إعطاء صفة اللجوء لهم سيحملها أعباء إضافية على الصعيدين الداخلي والخارجي وفق الاتفاقيات المبرمة دولياً في إطار حقوق اللاجئين وحمايتهم.

وأضاف، "هناك قرار غير معلن يسمح لجهات معينة لبنانية بمساعدة اللاجئين الجدد من دون تدخل حكومي، مع توجه لقوات الأمن العام بعدم ترحيلهم على رغم وجودهم غير الشرعي، أو انتهاء مدة سريان إقامتهم الشرعية والمحددة بوقت زمني، وذلك بالتنسيق مع المجلس الإسلامي العلوي في جبل محسن الذي يتولى في هذه الحالات منحهم أوراق تجوال صادرة عنه وتكون نافذة لدى الحواجز خلال تنقلهم، المهم أنه لا نية لترحيلهم الآن وذلك يخضع لحسابات وتوازنات دقيقة وعميقة للغاية على رأسها ملف سلطة دمشق نفسها وموقفها من لبنان وتياراته وأمنه الداخلي".

في الداخل اللبناني

هناك في لبنان ضباط سوريون كبار هاربون، ومن بينهم اللواء بسام الحسن، المستشار الاستراتيجي للأسد حتى لحظة خلعه، وكان يعد واحداً من أقوى ضباط سوريا خلال عقودها الماضية، نفوذاً وسطوة ومالاً وعلاقات، وكذلك هناك رجال أعمال كبار، ونواب برلمانيون، وسياسيون، وأمنيون، وهؤلاء تمكنوا من تأمين حد الرفاهية المناسب لهم، وأحياناً تجاوزوا هذا الحد بكثير، وكلهم مع بعضهم يشكلون الأقلية بين السوريين الجدد هناك، فالغالبية هم من الفقراء المعدمين الذي يتشاركون كل بضعة أفراد وأحياناً عائلات إيجار منزل واحد، لتخفيف الحمل والأعباء، ويوجدون عموماً في المناطق من شمال بيروت وحتى زغرتا، وفي جبل محسن، وبعض قرى سهل عكار، وفي الهرمل والبقاع عامة، وليسوا جميعهم من العلويين، بينهم مسيحيون وسنيون هاربون من الانتقام والقتل والفوضى.

وصلت هاجر يوسف وهي سيدة مسيحية من ريف حمص إلى لبنان، تقول "أريد شراء الأمان فقط، تعليم أولادي، لا أريد أخبار خطف وقتل ولا أن أكون سبية على رغم أن وزارة الداخلية نفت أخيراً وجود مختطفات لكن هل أعد لكم كم مختطفة أنا أعرفها؟ أنا وأسرتي صرناً جميعاً هنا وفوضنا أمرنا لله وكفى".

التبدل السكاني في الداخل

نجم الحسن شاب من مدينة بانياس الساحلية، فقد خمسة من أفراد أسرته على وقع المجزرة الشهيرة هناك، بعدها هرب مع من بقي من أهله نحو لبنان، يؤكد لنا أن قسماً كبيراً من قرى بانياس وجبلة وأحياء حمص العلوية بات يمكن لحظ كم الناس الذين هجروها هرباً، ويعتبر نجم أن "الصراع في سوريا لا يمكن أن يكون بين سني وعلوي ودرزي، بل إن الصراع يكمن في إدارة الموقف والتحكم به، الناس تتغافل أحياناً أن المجازر وقعت بالتزامن مع فصل تعسفي لعشرات آلاف الموظفين العلويين، وراتب الموظف هو المعيل الوحيد لأسرته، إذاً المشكلة هي كما قلت في إدارة الملف".

 

يقول الشاب مريد زيدان ابن حي المهاجرين في حمص، "الآن نسلم على من بقي من الجوار، منذ أشهر لم نعد نسأل أين فلان وفلان، الكل ذهب إلى لبنان". ويضيف: "فجأة أصبحت أحياؤنا وكأنما هي فارغة على رغم وجود الناس، لكن الكثير غادر، هرب، هاجر، لا أدري، لكن السلامة كانت معياراً فوق كل شيء، وهو ما فعله أخي في مايو (أيار) الماضي تقريباً، لم يهدده أحد لكن ثلاثة أيام متتالية حملت خمس جرائم لجيران لنا، رحل وعائلته ببساطة، ليس سعيداً في لبنان، لكنه لن يعود".

لم يخرجوا

مقابل كل أولئك هناك كثيرون من العلويين لم يغادروا أراضيهم، ليس رغبة في التحدي، كما قيل لنا من قبل كثر، بل لأسباب متعددة، منها التمسك بالأرض، والرضا بالقدر، وعدم القدرة على الهجرة، وارتباطات جامعية، وأسباب أخرى.

الأمم المتحدة قدرت عدد اللاجئين الجدد في لبنان بعد مجازر الساحل في مارس بنحو 30 ألف شخص، وفي أبريل (نيسان) قدرت وسائل إعلام لبنانية تعدادهم بنحو 40 ألف شخص، اليوم تقدر جهات خاصة على اطلاع لـ"اندبندنت عربية" أن تعدادهم بالحد الأدنى تجاوز 100 ألف شخص، وقد يكون أكثر بكثير باعتبار وجود أشخاص غير مسجلين نهائياً في المجالس والجمعيات المعنية مع الداخلين تهريباً.

أبناء الثورة في المهاجر

يعزز كل تلك الروايات والأحداث المرتبطة بالفوضى مواقف إضافية توضح أن الضرر قد يشمل الجميع، فسوء المعاملة قد يتعدى الطائفة ويطاول الكل، إذ زار أخيراً الناشط الثوري ابن درعا ليث الزعبي سوريا بعد سنين طويلة فتم إيقافه وتعذيبه بشكل أليم لاعتراضه على شيء من ممارسات السلطة، وقبله في مايو الماضي تعرض أحد ناشطي حمص المعروفين عبد الرحمن الكحيل للتوقيف والتعذيب وكانت تهمته وجوده مع خطيبته في السيارة.

وهناك الكثير من الزائرين لسوريا بعد اغتراب سنين، تحديداً أولئك أولاد الثورة، بعضهم مرت زيارته بسلام، وآخرون ولو من أجل موقف سيارة تعرض لتحقير وشتم وضرب، والحالات باتت كثيرة جداً، وذكرها يحتاج الكثير، لكن هناك محصلةً نهائية بعد استثناء شعب الخيام، تفيد بأن ثائري أوروبا أنفسهم والخليج معهم، لا يريدون العودة، ففي سوريا اليوم شيء غير مفهوم ولا ثابت ولا واضح ولا أرضية له لتشجع الناس على العودة الآمنة الكريمة في بلد فيه مئات آلاف قطع السلاح خارج إطار السلطة الرسمية.

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير