ملخص
قال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف ضمن مقابلة مع هيئة الإذاعة والتلفزيون الإيرانية خلال الـ15 من ديسمبر الجاري إن روسيا لم تخن سوريا، مضيفاً "لم نخن أحداً، لقد حافظنا على علاقاتنا منذ عهد حافظ الأسد وبشار الأسد، والآن وقعت أحداث نعتبرها في معظمها شؤوناً داخلية للجمهورية العربية السورية".
اختتم سقوط نظام بشار الأسد "الربيع العربي" بعد أكثر من عقد من بدايته. لو خسر الأسد موقعه في السلطة مع زين العابدين بن علي وحسني مبارك ومعمر القذافي، لكان ذلك دليلاً على ضعف نظامه، لكنه سقط بعدما ساعدته روسيا إلى جانب إيران وخلافاً لرغبة الحكومات الغربية على البقاء في السلطة، ولا يسع المرء إلا أن ينظر إلى هذا الانهيار المتأخر على أنه دليل على تواطؤ روسيا أو إيران، أو ضعفهما معاً في حماية نظام هبتا لنجدته طوال 10 أعوام ونيف.
حصل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على ما أراد في شأن إذلال حلف شمال الأطلسي (الناتو) وعلى رأسه الجيش الأميركي في أفغانستان، لكن ليس بالمعنى الذي كان يهدد به، عندما أرسل قواته إلى سوريا عام 2015، كان يخشى من تكرار سيناريو أفغانستان السوفياتية حيث غرق الاتحاد السوفياتي في مستنقعها وخسر رجاله، وخسر نفسه في نهاية المطاف.
لكن في سوريا انتهى الأمر بروسيا إلى نسخة طبق الأصل من أفغانستان الأميركية، ففي البداية كان هناك نجاح عسكري سريع نسبياً وقوة ظاهرة للنظام تحت حمايته، تلاه انهيار سريع لجيش النظام لحظة الحسم، والمناطق والمحافظات التي أمضت روسيا وإيران أعواماً لاستعادتها والحفاظ عليها لمصلحة الأسد، إلا أنه خسرها في غضون أيام.
إن أوجه التشابه مع أفغانستان في عهد الرئيس الأميركي جو بايدن، التي اضطر فيها الجيش الأميركي للانسحاب مرغماً والإعلان عن ذلك مسبقاً في الأقل، لا شك أنها تثير استياءً بالغاً لدى الكرملين، فخلال الأعوام الأخيرة، ألهمت صور كابول نكاتاً بذيئة ومقارنات غير لائقة مع أميركا، بل وأسوأ من ذلك، تحركاً نحو خوض حرب ضد أوكرانيا، وعزز الفشل الأميركي العلني في أفغانستان نظرة القيادة الروسية إلى ضعف أميركا وقلة تصميمها، إذ إنها تفضل إجلاء حلفائها بدلاً من القتال دفاعاً عنهم ولأجلهم. والآن، يدرك الكرملين أن الإدارة الأميركية بقيادة دونالد ترمب تراقب فشلها في الردع وتستخلص العبر، وبالمثل فإن الحكومات التي تحالفت مع النسخة الروسية من التعددية القطبية، فضلاً عن بقية الغالبية العالمية، تراقب الوضع من كثب.
لافروف: روسيا لم تخن سوريا
دون مقدمات ولا اتهامات واضحة وعلنية، أعلن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف ضمن مقابلة مع هيئة الإذاعة والتلفزيون الإيرانية خلال الـ15 من ديسمبر (كانون الأول) الجاري، أن روسيا لم تخن سوريا وما حدث هناك شأن داخلي للجمهورية السورية، وفي تعليقه على تقارير تؤكد تخلي روسيا عن نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد مما أدى إلى سقوطه قبل عام، ومزاعم وسائل الإعلام الغربية بأن موسكو تخلت عن شركائها، أكد لافروف قائلاً "ليعطوا مثالاً على ما يزعمون بأن روسيا تخلت عن أحد، إن كان بلداً أو فرداً".
وأضاف وزير الخارجية الروسي "لم نخن أحداً، لقد حافظنا على علاقاتنا منذ عهد حافظ الأسد وبشار الأسد. والآن، وقعت أحداث نعتبرها في معظمها شؤوناً داخلية للجمهورية العربية السورية".
وأكد لافروف أنه لم تُنسق أية مساعٍ أو خطوات مع روسيا قبل هرب الأسد، ونفى صحة تصريحات تحدثت عن تنسيق مسبق بين الطرفين خلال الأيام الأخيرة من حكمه، قائلاً "كانت تربطنا علاقة وثيقة ببشار الأسد، وقدمنا العون لحكومته عام 2015 عندما كانت دمشق محاصرة عملياً ومهددة بالسقوط. أنشأنا وجوداً عسكرياً هناك تمثل في قواعد جوية وبحرية، وعملنا بجد للقضاء على بؤر الإرهاب، وتعاوننا مع دول أخرى في المجتمع الدولي، ولا سيما إيران وتركيا".
وقال الوزير الروسي إنه "عندما بدأت الأحداث في سوريا قبل عام، لم تكن لدينا أية وحدات قتالية هناك، كانت لدينا قاعدتان فحسب، قاعدة جوية وأخرى بحرية، كانت سرعة السيطرة على الأراضي غير متوقعة، ولم تكن هناك مقاومة تذكر".
علاقات مستقرة مع الشرع
ومع ذلك تابع لافروف "تتمتع موسكو حالياً بعلاقات سلسة ومستقرة مع السلطات السورية الجديدة"، دون أن يوضح كيف ومتى بدأت هذه العلاقة السلسة والمستقرة، موضحاً "الآن نحن على اتصال مع السلطات الجديدة، وزار الرئيس السوري أحمد الشرع روسيا والتقيت وزير الخارجية الجديد ثلاث مرات وزارتنا وفود حكومية من سوريا، بما في ذلك لمناقشة آفاق الاتفاقات المبرمة في شأن القضايا التجارية والاقتصادية".
وعن العلاقات مع السلطات الجديدة في سوريا، أكد لافروف ضمن مقابلته مع "هيئة الإذاعة والتلفزيون الإيرانية" أن موسكو تتمتع بعلاقات "مستقرة" مع دمشق.
ومطلع العام الحالي، ذكر وزير الدفاع السوري مرهف أبو قصرة أن دمشق منفتحة على استمرار الوجود العسكري الروسي في البلاد.
وبعد زيارته موسكو خلال أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، أكد الرئيس السوري أحمد الشرع عمق العلاقات التاريخية التي تربط البلدين، مشيراً إلى أن دمشق تحترم "كل ما مضى من اتفاقات" وتحاول أن تعيد وتعرف بصورة جديدة طبيعة هذه العلاقات، على أن يكون هناك استقلال للحالة السورية والسيادة الوطنية.
سبب سقوط الأسد وهربه
وأكد الوزير الروسي أن الأسد "لم ينسق أية مقاربات مع روسيا قبل فراره من البلاد خلال الثامن من ديسمبر 2024، لأنه كانت هناك سرعة غير متوقعة في السيطرة على الأراضي، ولم تكن هناك مقاومة تذكر.
ولفت لافروف إلى أن الاتفاقات التي جرى التوصل إليها قبل سقوط نظام الأسد في إطار المسار السياسي في شأن سوريا، بينها مؤتمر الحوار الوطني السوري في سوتشي، لم تنفذ بالكامل، مؤكداً أن عدداً من الفرص ضاعت في ما يخص المصالحة الوطنية ودعوة جميع القوى السياسية والعرقية والدينية إلى الحوار.
وفي شأن قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، قال لافروف إن الولايات المتحدة تحتفظ بمنطقة نفوذ شمال شرقي سوريا تخضع لسيطرة "قسد"، ويدفعون بجميع الوسائل منذ عهد النظام المخلوع "نحو تعزيز النزعة الانفصالية هناك".
وأكد أن عملية دعم النزعة الانفصالية مستمرة، وروسيا تعتقد أن ذلك "قنبلة موقوتة أخرى" تهدد مستقبل سوريا، مشدداً على ضرورة بدء حوار وطني شامل، "وهو ما كان مفقوداً في سوريا طوال فترة حكم بشار الأسد".
ولفت إلى وجود مشكلة كردية في سوريا كانت محط اهتمام مستمر على مدى الـ15 عاماً الماضية، لافتاً إلى أن أطرافاً كثيرة تحاول اللعب بهذه الورقة خدمة لمصالحها الخاصة، وأضاف أن موسكو أكدت خلال جميع الاتصالات مع السلطات الجديدة في سوريا ضرورة الحفاظ على وحدة الدولة السورية، مؤكداً أن ذلك "يتطلب حواراً وطنياً شاملاً، يضم العلويين والسنة والدروز وجميع المجموعات العرقية والطائفية والإثنية".
وقائع ملتبسة
كشفت مصادر في الكرملين لوكالة "بلومبيرغ" الإخبارية عن تفاصيل جديدة تخص الترتيبات المتعلقة بمغادرة الرئيس السوري السابق بشار الأسد بلاده، تزامناً مع تقدم المعارضة السورية نحو دمشق، بترتيب من روسيا عبر قاعدة جوية روسية.
ووفق المصادر ذاتها، أقنعت موسكو بشار الأسد بمغادرة البلاد بعد تأكدها من خسارته أمام ''هيئة تحرير الشام". وبحسب مصادر وكالة "بلومبيرغ"، فإن هرب بشار الأسد من سوريا دُبِّر من قبل الاستخبارات الروسية بعدما أقنعه عملاؤها بأنه خسر المعركة، وعرضوا على الأسد ممراً آمناً إذا وافق على المغادرة "فوراً"، وقاموا بنقله سراً إلى القاعدة الجوية الروسية في حميميم ومن هناك إلى روسيا، وخلال رحلة الأسد إلى موسكو فُصل جهاز الإرسال والاستقبال الخاص بالطائرة لتجنب رصدها، وفقاً لمصادر الوكالة.
وقال ثلاثة مصادر مطلعة على أحداث الساعات الأخيرة التي عاشها النظام السوري السابق في دمشق، رفضوا الكشف عن هويتهم، لـ"بلومبيرغ"، إن الكرملين بدأ التفاوض مع القيادة السورية الجديدة للإبقاء على القوات الروسية في ميناء طرطوس البحري وقاعدة حميميم الجوية، وإن روسيا "أقرب إلى التوصل إلى اتفاق"، وأشارت الوكالة إلى أن وزارة الدفاع الروسية "تعتقد" أنها توصلت إلى تفاهم غير رسمي مع القيادة السورية الجديدة يسمح ببقاء القوات الروسية داخل قواعدها العسكرية.
وصرح نائب وزير الخارجية الروسي السابق، ميخائيل بوغدانوف بأن موسكو أقامت اتصالات مع "هيئة تحرير الشام" (المصنفة كجماعة إرهابية ومحظورة في روسيا)، وهي إحدى القوى الرئيسة التي أطاحت نظام بشار الأسد، وأضاف أن اجتماعات مع ممثلي الهيئة عقدت داخل أحد فنادق دمشق، دون أن يذكر تاريخ عقد هذه الاجتماعات، وما إذا كانت قبل سقوط الأسد أم بعده.
من جانبها، أفادت صحيفة "تلغراف" البريطانية بأن بشار الأسد غادر دمشق دون أن يُعلم أياً من مستشاريه بذلك "خوفاً من الخيانة"، وقالت وزارة الخارجية الروسية لشبكة "أن بي سي نيوز" الإخبارية الأميركية إن "أمن الأسد داخل روسيا يظهر أن الأخيرة تتصرف كما هو مطلوب في مثل هذا الموقف الاستثنائي".
وقال عسكريون روس لـ"بلومبيرغ" إن سبب مساعدة روسيا للأسد على الفرار "كان قائماً على مخاوف في شأن قواعدها العسكرية في المنطقة، وهي القواعد الوحيدة خارج البلاد".
وأفاد تقرير لموقع "بيزنس إنسايدر" بأن موسكو سحبت سفنها الحربية من القاعدة البحرية الروسية في طرطوس على الساحل السوري بعد فرار الأسد، بينما لم يسحب الجيش الروسي.
أما بخصوص الساعات الأخيرة التي قضاها في دمشق، فقد تحدثت تقارير إعلامية نقلاً عن القيادات العسكرية والأمنية التي لا تزال داخل الأراضي السورية، عن أن بشار الأسد رفض إلقاء خطاب التنحي عن السلطة بعد تسارع الأحداث، فغادر أفراد قيادات الجيش والأفرع الأمنية من ضباط ومسؤولين من دمشق إلى منازلهم في القرى، خوفاً من عمليات تنفيذ اغتيالات.
وطالب الأسد خلال تلك الليلة من حراسه الشخصيين إحضار ابنه الثاني كريم الذي كان يرمز له بالرقم (35) من المنزل إلى القصر الرئاسي، فيما كانت زوجته أسماء عادت من روسيا قبل يومين برفقته، وكان ابنه الأكبر حافظ وابنته زين في روسيا منذ أشهر. وخلال الـ10 ليلاً، وصلت قوة روسية خاصة القصر الجمهوري وكانت مهمتها إخراج الأسد وعائلته إلى روسيا، متجهين بداية إلى قاعدة حميميم، حيث بقيت الطائرة لوقت قصير هناك قبل أن تغادر إلى موسكو، وتكفلت هذه القوة وفق المصادر بنقل ممتلكات الأسد الخاصة، وكل مقتنياته الثمينة وما أراد إخراجه من وثائق مهمة معه، قبيل عملية الهرب.
تواطؤ يشبه الخيانة
ربما من الصحيح القول إن موسكو لم تخن نظام الأسد بالمعنى التقليدي، خصوصاً أن لا بينات ولا وقائع ثابتة ومؤكدة بهذا الخصوص، لكن الأصح أن روسيا قطعت دعم الأسد ونظامه في لحظة حاسمة، وقدمت اللجوء للزعيم المخلوع عندما أصبح من الواضح أن نظامه سقط خلال ديسمبر 2024 جراء هجوم للمعارضة، وأن الكرملين الذي كان منشغلاً بالحرب في أوكرانيا لم يتدخل لإنقاذ الأسد من السقوط، بل اكتفى بأن وفر له ولعائلته ممراً إنسانياً ومنحه حق اللجوء الإنساني وليس السياسي في موسكو.
فمنْح اللجوء للأسد ولعائلته لأسباب إنسانية وليست سياسية يُعد بادرة تجاه السلطات الجديدة في سوريا، فاللجوء السياسي هو في جزء منه أداة للمواجهة والضغط واتهام غير مباشر بالقمع، وموسكو قررت أن تترك الباب مفتوحاً لأن الأسد لا يلعب أي دور سياسي حالياً، أو لا يسمح له الكرملين بذلك.
ويعد الانهيار المفاجئ لنظام الأسد في سوريا المتحالف تاريخياً مع روسيا دليلاً واضحاً على تركيز فلاديمير بوتين الشديد، أو بالأحرى المفرط، على أوكرانيا، والذي يتجاوز أي معيار سياسي عقلاني، فهو مستعد في سبيل ذلك للتضحية بكل شيء حرفياً بما في ذلك نجاحاته السابقة، وعلى رغم أن قادة النظام الروسي يحاولون باستمرار تصوير أنفسهم كواقعيين باردين فإن الواقعية السياسية في الكرملين نُحِّيت منذ زمن طويل لدعم المصالح الجيوسياسة، وهذه المصالح بدورها أقصتها السياسة تجاه أوكرانيا.
فقدت موسكو بسقوط الأسد أعظم إنجاز عسكري سياسي لها خلال العقود الأخيرة، فقدت روسيا قصة نجاحها الوحيدة في التوسع بالقوة وراء البحار، لقد عادت مرة أخرى دولة إقليمية تكافح في مكان ما داخل حدائقها الخلفية، بعيداً من التيار العالمي السائد داخل حدودها السابقة، ولا يبدو أن أحداً في الكرملين يكترث، الوحيدون القلقون والحزانى هم المدونون العسكريون المهووسون بتقسيم العالم ومجد الأسلحة الروسية، ومع ذلك بنيت حملات دعائية فخمة مكتملة بالحفلات الموسيقية والاستعراضات، حول الحفاظ على هيبة روسيا كقوة عظمى وإنقاذ الحكومة التي كانت تاريخياً موالية لموسكو ومسيحيي الشرق، ووقف الثورات الملونة وتدمير جميع إرهابيي العالم بالأسلحة الروسية، بما في ذلك الأسلحة الخاصة التي جمعت للذبح في مكان واحد، اتضح أن هناك أصدقاء يمكن التخلي عنهم وآخرين لا يمكن التخلي عنهم، فأين الخط الفاصل بينهما الآن؟
انصب وينصب تركيز بوتين على أوكرانيا لدرجة أن خسارته لنجاحه العسكري والسياسي الوحيد بعيداً من حدوده تبدو غير ذي بال بالنسبة إليه، لقد طغى الصراع الأوكراني ذو المنشأ المحلي على كل شيء آخر وامتد إلى أبعاد عالمية، ولم تعد سوريا ذات أهمية ولا شيء يهم لأن كل شيء بما في ذلك مصير روسيا نفسها، يحسم في الدونباس وقرب محطة زابوروجيا للطاقة النووية.
يلتزم المتحدثون الرسميون الصمت حيال ما جرى ويجري في سوريا بما في ذلك أحداث الساحل السوري الدموية والهجوم على السويداء وأهلها، مدركين أن كل هذا يقع ضمن اختصاص رؤسائهم، ونتيجة لذلك يبقى حدث عالمي هام كثيراً ما كانت روسيا متورطة فيه بعمق دون إجابة، وبينما قدمت إيران تفسيرها الخاص للأحداث فإن صمت روسيا المتردد، كما كانت الحال يوم تمرد بريغوجين، يوحي بعدم الشفافية وقلة الاستعداد وكثير من التردد.
تحميل الجيش السوري مسؤولية سقوط الأسد
في ذات اليوم الذي لجأ فيه الأسد إلى موسكو، بدأت وسائل الإعلام الروسية الترويج لفكرة أن خيانة أو تقاعس الجيش السوري وعدم رغبته بالقتال هي التي فاقت أي أسباب أخرى لسقوط النظام.
واعتبر الكاتب الصحافي المقرب من الكرملين ألكسندر نازاروف أن "روسيا لم تكن تمتلك القوة الكافية لتعويض غياب دعم بشار الأسد من قبل إيران و’حزب الله‘"، مضيفاً "أعتقد أن خيانة أو تقاعس الجيش السوري وعدم رغبته في القتال هي التي فاقت أي أسباب أخرى لسقوط نظامه".
وأوضح نازاروف "الكل يعلم أنه منذ عام 2015 كانت روسيا مسؤولة عن الشق الجوي من الحرب، بينما لعب شركاء سوريا الآخرون الدور الرئيس على الأرض، لذا فمن الواضح أن الاتهامات الموجهة إلى روسيا بخيانة الأسد ليست في الاتجاه الصحيح، وأن أهمية سوريا بالنسبة إلى موسكو وواشنطن أقل بألف مرة من أهمية ما يحدث في أوكرانيا، وسوريا أقل بكثير من أن توضع في الاعتبار مقابل أوكرانيا، ونتيجة الحرب بين روسيا والغرب عموماً ستكون نهاية أو موت الجانب الخاسر، وهو ما لن يتقرر في سوريا وإنما في أوكرانيا أو أوروبا، وعلى هذه الخلفية من الممكن إغفال أهمية العامل السوري".
وتابع نازاروف "علاوة على ذلك، فإن التأكيد أن روسيا قد ترغب في تجميد نشاطها داخل أوكرانيا على طول خط المواجهة الراهن مقابل سوريا، هو أمر مثير للضحك".
وفي السياق ذاته، اعتبر نازارزف أن روسيا "تتقدم الآن بنجاح في حين تعاني أوكرانيا الإحباط وهي على وشك الانهيار في مجالي الطاقة والاقتصاد، واقتراح تجميد خط المواجهة لا يأتي من روسيا بل من الغرب الذي يقترح التجميد لأن أوكرانيا أصبحت على حافة الهزيمة، في حين تحتاج روسيا إلى منطقة آمنة وعازلة في أوروبا الشرقية، وليس تجميد خط المواجهة، وأوكرانيا بالذات لا تهم روسيا".
وتساءل الصحافي "هل من المنطقي أن تستبدل روسيا رحيل الأسد برحيل فلوديمير زيلينسكي المناسب لروسيا؟ بمعنى هل تتخلى موسكو عن أصل مفيد لها في سوريا من أجل الحصول على خسارة في أوكرانيا؟ إنه العبث المطلق بعينه".
أنقرة فوجئت بسقوط الأسد
ويرى مراقبون روس أن موسكو ربما تعرضت لـ"الخداع" من قبل أنقرة، على اعتبار أن الثانية لم تلتزم بمسار أستانا ودعمت المعارضة التي أسقطت نظام الأسد المدعوم من موسكو، لكن نازاروف اعتبر أن "تركيا نفسها لم تكن تتوقع مثل هذه النتائج في سوريا، فعلى رغم أن بعضها يصب في مصلحة أنقرة، لكنها تلقت ضربة شديدة تتجلى في تزايد فرص الأكراد في إنشاء دولتهم ضمن سياق انهيار سوريا، وهو ما تؤكده التصريحات التركية شبه اليومية حول ضرورة الحفاظ على وحدة سوريا والاستعداد للمشاركة في قمع الأكراد".
واستطرد "أتصور أن كرة النار في الشرق الأوسط بدأت في التدحرج وإعادة رسم حدود الدول تتم على قدم وساق، وليس هناك ما يضمن أن تركيا ستستفيد جراء ذلك، كما أنه وعلى رغم الوجود التركي الكبير في سوريا فلا أعتقد أن أنقرة هي من وضعت خطة إسقاط النظام السوري وقادتها من وراء الكواليس".
واستبعد نازاروف أن تكون تركيا من قامت بإقناع قادة جيش النظام السوري بعدم القتال، فـ"هذه المهمة أقرب إلى انفجارات الهواتف في أيدي عناصر "حزب الله"، ومقتل الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي ومقتل إسماعيل هنية، وأظن أن وكالات الاستخبارات الإسرائيلية والأميركية والبريطانية ربما لعبت دوراً رائداً في سوريا، لكن من الصعب الحصول على تأكيدات بهذا الصدد".
تكرار السيناريو السوري في إيران
وحذر نازاروف من إمكانية تكرار السيناريو السوري في إيران، مستشهداً بخطاب لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، قال فيه إن "تحرير" الشعب الإيراني أقرب مما يتصور كثر، مضيفاً "أعتقد أن إيران تستعد لتكرار السيناريو السوري لكن مع بعض التغييرات، بمعنى أن التركيز سينصب على إسقاط النظام من الداخل، وليس على عدوان عسكري واسع النطاق".
وتابع الصحافي قوله "أرى أن إسرائيل ستحاول تدمير قيادة البلاد، وبعد ذلك، وفقاً لخطة إسرائيل والولايات المتحدة، كما أتصورها، من المتوقع حدوث انتفاضة شعبية تحت قيادة عملاء غربيين، مع احتمال نشوب حرب أهلية ومزيد من تفكك الدولة، وقصف إيران سيأتي بعد، وليس قبل، الإطاحة بالنظام كما هي الحال في سوريا".
وحول احتمال انسحاب القوات الروسية عقب سقوط نظام الأسد، يقول نازاروف "ليس لدي أية معلومات عن خلفية تحركات الجيش الروسي في سوريا وعن مستقبل القواعد العسكرية الروسية على الأراضي السورية، ومع ذلك أعتقد أن القواعد الروسية في سوريا خلال هذه المرحلة تشكل عبئاً ونقطة ضعف بالنسبة إلى روسيا أكثر من كونها رصيداً مفيداً، وفي حال نشوب حرب مع حلف الناتو بعد هزيمة أوكرانيا، فإن هذه القواعد ستصبح على الفور أهدافاً يصعب الدفاع عنها ويمكن أن تدفع هيئة الأركان العامة إلى تحويل الموارد إلى مسرح غير مهم للعمليات".
وكشف نازاروف عن أن "روسيا لا تمتلك أسطولاً قادراً على مواجهة أسطول الناتو في البحر الأبيض المتوسط، وهو ما قد تكون هذه القواعد موجودة من أجله، وأنها كانت محاولة للتعويض - بصورة أو بأخرى - عن الموارد التي أنفقتها روسيا على سوريا أكثر من كونها أحد أغراض الوجود في سوريا، وأتصور أن روسيا ليس لديها أي سبب للبقاء في سوريا حالياً".
واستدرك الصحافي قائلاً "بطبيعة الحال، في المستقبل وبعد الحرب في أوكرانيا ستكون هذه القواعد مفيدة لدعم الحلفاء المحتملين في الشرق الأوسط وأفريقيا، ولكن يجب أولاً كسب الحرب وإحلال السلام، لذلك فلا مشكلة في التخلي الآن عن هذه القواعد، وإذا فازت روسيا في الحرب مع الغرب فلن تكون هناك مشكلات في إيجاد مكان لقواعدها داخل المنطقة، أما إذا خسرت فلن تحتاج إليها على أية حال".
سوريا الجديدة لا تشبه نفسها
وحول إمكانية تحول سوريا إلى دولة إسلامية، قال نازاروف "سوريا بعد استقلالها كانت دولة مصطنعة، لم يكن وجودها ممكناً إلا تحت سلطة حديدية لنظام قمعي، والآن لم تعد الدولة السورية موجودة، والدولة الجديدة حال نشأتها لن تستمر في ممارسة تقاليد الدولة السابقة، ومن حيث جذرية التغييرات يمكن مقارنة الوضع الراهن بتحول بيزنطة إلى الإمبراطورية العثمانية، أو تحول الإمارات العربية في الأندلس إلى المملكة الإسبانية، لا يهم أن السوريين السنة عاشوا في سوريا من قبل، المهم أن المكون الديني والعرقي الرئيس الرائد تغير وانقطع التقليد".
وأشار المتحدث إلى أن "سوريا الناشئة الآن هي دولة جديدة ذات حدود جديدة، وتخضع في كامل التسلسل الهرمي ونظام العلاقات بين المجموعات العرقية والطائفية لعملية إعادة هيكلة، فقد ألغي كل شيء بما في ذلك الحدود، وقدرة الذين وصلوا إلى السلطة في سوريا على الاتفاق مع الأقليات وقدرتهم أو رغبتهم في الإبقاء على الحدود القديمة في ظل عدوان الجيران هي ما سيحدد ما إذا كانت ستُشكل إمارة دمشق السنية استناداً إلى حدود الاستيطان السني، أو ما إذا كانت الدولة السورية الجديدة ستكون قادرة على الاقتراب من حدود الدولة القديمة".
واعتبر نازاروف أن "اتحاداً فيدرالياً يتمتع بصلاحيات واسعة من الحكم الذاتي هو الشكل الأكثر ملاءمة للوضع الحالي في سوريا، وهذا ما كانت موسكو تنصح به الأسد لفترة طويلة بلا جدوى، وربما كان عناده هو السبب وراء عدم إمكانية إنقاذ البلاد والنظام".
وأضاف الصحافي "بالنظر إلى ماضي ’هيئة تحرير الشام‘ لا أؤمن حقاً بإمكانية إنشاء نظام علماني بما يتضمنه ذلك من معجزات التسامح تجاه الأقليات الأخرى، على رغم أنني سأكون سعيداً إذا كنت مخطئاً، على رغم أن بعض تصريحات الحكومة الجديدة يمكن تفسيرها بصورة إيجابية، كذلك فإن الدمار الذي لحق بالبلاد لا يسمح لنا بالتفاؤل، ونظراً إلى الأزمة الاقتصادية العالمية الوشيكة فإن الحياة ستصبح أسوأ وسوء الأوضاع المعيشية يشجع التطرف لدى كل من الحكومة والمعارضة مما يؤدي إلى تحفيز المعارضة، وفي هذا الصدد أخشى أن احتمالات إحياء ’داعش‘ ممكنة جداً".
وتابع نازاروف "بالمناسبة، فإن تغيير الحدود بدءاً من سوريا لا سيما إذا نجح الغرب في تدمير إيران وتقطيع أوصالها سيؤثر في جميع دول المنطقة، وكلها مع استثناءات نادرة هي دول مصطنعة ستنهار في الأزمات مثل بيت كارتوني".
واستبعد الكاتب الذي هو على صلة مباشرة بالكرملين قيام موسكو بتسليم الأسد، لأن هذا الأمر "لا يتوافق مع مكانة القوة العظمى التي تدعيها روسيا"، وقال "اسمحوا لي أن أذكركم بأن روسيا هي الدولة الوحيدة في العالم التي تجرأت على منح اللجوء لإدوارد سنودن (عميل الاستخبارات الأميركية السابق)، وبالنسبة إلى منح اللجوء لا توجد دولة في العالم أكثر موثوقية وأماناً من روسيا".
تضحيات بلا انتصارات
أرواح الروس الذين قتلوا في سوريا فُقدت إلى الأبد والأموال التي فُقدت لا يمكن استردادها، ولكن هل يعني الاستسلام واعتبار أن كل ذلك كان عبثاً؟ لدى الخبراء آراء متباينة حول هذه المسألة.
أولاً، أصبحت سوريا ميداناً لتدريب عدد كبير من العسكريين الروس، فخلال أغسطس (آب) 2018 لخصت وزارة الدفاع الروسية النتائج، إذ اكتسب 63012 فرداً، بينهم 25738 ضابطاً و434 جنرالاً، خبرة قتالية في الجمهورية العربية السورية، علاوة على ذلك لم تقتصر الزيارات إلى سوريا على القوات الجوية فحسب، كما ذكرت وزارة الدفاع ضمن بيان لها.
ثانياً، جميع قادة المناطق العسكرية وجيوش الأسلحة المشتركة وجيوش القوات الجوية والدفاع الجوي وقادة الفرق، إضافة إلى 95 في المئة من قادة ألوية وأفواج الأسلحة المشتركة، مروا عبر المجموعة في سوريا مع فرق مقراتهم.
يقول عالم السياسة والمؤرخ سيرغي ماركيدونوف "تذكروا لماذا تدخلنا في أحداث سوريا"، ويضيف روبرت أف. كينيدي جونيور وهو وزير الصحة والخدمات الإنسانية الحالي في إدارة ترمب، لصحيفة "بوليتيكو" خلال عام 2016 "للتدخل في إمدادات خط أنابيب الغاز القطري إلى أوروبا".
خلال عام 2024، بات من المستحيل تقريباً نقل كميات كبيرة من الغاز عبر خطوط الأنابيب من روسيا إلى أوروبا، فهل يعني هذا أن علينا أن نرضى بإنجاز المهام في سوريا، وأن نتخلص من هذا العبء وننسى الأمر برمته؟ يرى ماركيدونوف خلاف ذلك، فالمهم أن لا يفسر خصومنا ما يحدث على أنه هزيمة لروسيا.
ويضيف ماركيدونوف "كان الأسد حليفنا وتحت حمايتنا والآن رحل، وحقيقة أن إيران لم تنجح خصوصاً في منع "عهد جديد"، وأن صديقنا ورفيقنا السوري سقط لا تغير كثيراً، لقد خسرت روسيا هذه المعركة وهذا بالضبط ما يفسره خصومنا (من أوكرانيا إلى الملتحين)، إضافة إلى منافسين يتخفون ببراعة في زي شركاء، صباح الثامن من ديسمبر الكئيب في سوريا، ولا بأس لو فسروه بهذه الطريقة، فهم ليسوا منظرين أكاديميين، بل يضعون خططاً للمستقبل".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتشير الصحافية أناستاسيا كاشيفاروفا إلى أن جميع الأحداث الجارية تعد دليلاً على الضعف والإذلال أمام الولايات المتحدة، وتقول "إنه لأمر مخز ما حدث ويحدث في سوريا، ولكن في سياق روسيا، نرى كيف استُغللنا، ومع ذلك ما زلنا نمدح أنفسنا ونذلها في وسائل الإعلام أمام ترمب، إنه أمر مخز".
بدوره، يذكر أليكسي أنتونوف أن تحديد هوية المعارضة السورية والولايات المتحدة قد يكون خطأً، ويقول "إن تحول سوريا إلى دولة موالية لأميركا هو بلا شك فرضية رائعة، لكن المواجهة الروسية الأميركية ليست هي ما يقلقنا، فهناك أيضاً تركيا والأكراد وإيران والدروز والعلويون، والجيش السوري الذي سئم من الأسد والعراق و’حزب الله‘ وإسرائيل، هل نحن حقاً في حاجة إلى إنفاق الأموال على كل هذا القتال؟ ولأي غرض؟".
لكن سيرغي ماركيدونوف يقدم إجابة بسيطة عن سؤال "لماذا؟"
تحتاج روسيا إلى الشرق الأوسط لأسباب عديدة أهمها الأمن الداخلي، وأن الأمة الإسلامية الروسية الكبيرة تعيد النظر في الأحداث الجارية داخل هذه المنطقة، وتبني هويتها من خلال مقارنة نفسها بالتطورات في سوريا والعراق ومصر وفلسطين، ولا تقل أهمية جوارنا القريب (القوقاز وآسيا الوسطى)، فالتدخل التركي داخل هذه المناطق بالغ الأهمية، وتشعر أنقرة بهذا النفوذ المتزايد، علاوة على ذلك يبدي الغرب اهتماماً كبيراً بتعزيز التنافس مع تركيا، ومع ذلك وحتى من دون أي تدخل غربي تشعر النخبة التركية بنشوة النجاح (ليبيا وناغورنو كاراباخ، والآن سوريا).
التعويض عن النكسة في سوريا
الآن وبعد الانهيار في سوريا، لم يبق أمام روسيا سوى الانتصار في حربها على ذوي القربى، لذا من غير المرجح أن يحقق انكفاؤها من سوريا راحة شرق أوسطية للكرملين.
ثمة مشكلة أخرى تتمثل في أن صورة انتصار روسيا في أوكرانيا لا تزال ضبابية، لدرجة أن حتى النجاح المحدود والمقتصر على نطاق ضيق يمكن تقديمه على أنه انتصار طال انتظاره وشامل، لكن هذا لا ينطبق إلا على الجمهور المحلي، ولن تقتنع غالبية دول العالم بهذا الأمر بسهولة كما يقتنع به الشعب الروسي، لا سيما بعد خسارة دمشق، وسيتعين إثبات القدرة على الصمود بعيداً من الحدود مرة أخرى.
لقد ارتبط التدخل العسكري الروسي في سوريا بأوكرانيا منذ البداية، وقدم "الربيع العربي" في روسيا على أنه امتداد لثورة ميدان كييف، وبروفة لتغيير النظام في روسيا، ويعد وقف "الربيع العربي" عسكرياً إجراء مضاداً لهذا السيناريو خلال مرحلة لاحقة.
وكثيراً ما بدت لقاءات بوتين مع الأسد، النحيل القامة والذي يلوح بسيفه ويبدو بلا مشاعر، باردة. أما علاقات بوتين مع عدد من القادة الغربيين، حتى مع أردوغان الذي استنجد بالناتو يوم أسقط المقاتلة الروسية، فكانت أكثر دفئاً، لم يكن الأمر يتعلق بمساعدة صديق شخصي، بل كان شأناً جيوسياسياً بحتاً، محاولة لوقف موجة تغيير الأنظمة بدفع الغرب وبمساعدته، ومنع سوريا من أن تصبح مثل ليبيا.
في تعليقه على هرب الرئيس الأوكراني الموالي لموسكو فيكتور يانوكوفيتش، صرح بوتين مراراً وتكراراً بأنهم أرادوا قتله، وأن الغرب كان سيقبل بذلك، حاول الزعيم الروسي، الذي كان يتأرجح باستمرار بين الاستياء والرغبة في استمالة الغرب في علاقاته معه، تطبيق هذه الأفكار على حياته، بدا مصير القذافي ويانوكوفيتش وكأنه طريقة أكثر خيانة وانعداماً للمبادئ لإنهاء المواجهة مع الغرب من الاتحاد السوفياتي، بل إن الدفاع عن الأسد أثار تلميحاً إلى التكفير عن الذنب لدى القيادة الروسية، التي سلمت ليبيا في عهد الرئيس دميتري ميدفيديف لأعدائها المشتركين.
وهذا جزئياً ما يفسر تأخر وصول المساعدات الروسية إلى سوريا، إذ لم تصل إلا خلال عام 2015 بعد خسارة أوكرانيا، وبعدما أظهر الأسد إرادة المقاومة والدموية التي افتقر إليها يانوكوفيتش، مما أثار استياء موسكو.
من خلال إرسال القوات إلى سوريا، كان بوتين يسعى إلى تحقيق ثلاثة أهداف، الخروج من العزلة التي أعقبت ضم شبه جزيرة القرم وتحقيق مكانة عالمية مرغوبة، والعودة إلى الشرق الأوسط حيث فقدت موسكو نفوذها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، ووضع روسيا على الخريطة العالمية كقوة قادرة على وقف تغيير النظام ودعم حليف في أي مكان في العالم.
علاوة على ذلك، بتدخلها في سوريا، حاولت روسيا تصوير نفسها بدورها التقليدي كحامية للمسيحيين المشرقيين، وهو دور تخلت عنه حكومات أوروبية أخرى، مكتفية بشعار حماية المدنيين دون تمييز طائفي. بعد عودته إلى الكرملين عام 2012، بدأ بوتين بتسويق روسيا محلياً ودولياً باعتبارها آخر معاقل القيم المسيحية في أوروبا، وكان دور المدافع عن المسيحيين ضد الأصوليين يروق له كثيراً، حتى إن هذا الدور حظي باعتراف محدود من البابا فرنسيس.
دفع دعم روسيا للأسد إلى تقارب غير مسبوق لموسكو مع إيران، وأدى إلى اشتباكات دورية مع تركيا شملت عقوبات تجارية وأحداثاً كادت تشعل فتيل الحرب، مثل اغتيال سفير أو إسقاط طائرة عسكرية روسية بصاروخ تركي. ومع ذلك وخلافاً لتوقعات عديدة، لم يفض التدخل في سوريا إلى جانب الأسد إلى صراع مع دول المنطقة المؤيدة لمناوئي الأسد.
تذبذبت العلاقات مع تركيا بين الصعود والهبوط، وبدا أن العلاقات مع دول الخليج تؤكد فرضية احترام القوة في الشرق، والآن وبعد خسارة رهان سوريا، سيتعين على موسكو اختبار مدى عدم احترام الضعف هناك.
بنت موسكو العلاقات مع الجنوب العالمي حتى عام 2022 إلى حد كبير على نجاح روسيا في سوريا، ولا سيما على قدرة موسكو على الدفاع عن نظام صديق، لكن أول بسط ناجح للقوة خارج حدودها منذ نهاية الحقبة السوفياتية لم يمر مرور الكرام في دول الجنوب العالمي، فقد بدت روسيا باستثناء عدد قليل من القطاعات العسكرية والطاقة والنووية، غير مقنعة كمستثمر أو مصدر للصناعات التحويلية والتكنولوجيا، ومع ذلك قدمت حجة قوية كمصدر للأمن سواءً بصورة رسمية من خلال مشاركة قواتها المسلحة، أو بصورة غير رسمية من خلال شركاتها العسكرية الخاصة.
لهذا السبب تحديداً، يعد سقوط نظام الأسد أمراً بالغ الحساسية بالنسبة إلى موسكو، فقد كان تصدير الأمن والقوة إلى حلفائها من بين السلع الروسية القليلة التي كانت مطلوبة في الشرق الأوسط بل وفي أفريقيا أيضاً، علاوة على ذلك اعتمدت هذه الصادرات اعتماداً كبيراً على القواعد الروسية في سوريا التي بات مصيرها معلقاً الآن، وكذلك الحال بالنسبة إلى اللوجيستيات المتعلقة بمشاريع موسكو المستقبلية داخل أفريقيا.
تبدو قائمة أسباب الهزيمة العسكرية للجيش السوري منطقية، فقد عجزت روسيا عن تزويد الأسد بفائض الدعم العسكري الذي كانت تحظى به سابقاً، والذي استنزف بالكامل في الحرب ضد أوكرانيا، واستغلت القوات السورية المناهضة للأسد في محافظة إدلب فترة عدم التصعيد لإعادة التسلح والتدريب، بما في ذلك تعلم استخدام الطائرات المسيرة.
لكن من الواضح أن الجيش السوري، في معظم الحالات، لم يخسر المعركة، بل رفض الاعتراف بالهزيمة، بعبارة أخرى، لم تكن أسباب الهزيمة عسكرية، بل سياسية، ولعل هذا ما يفسر عدم استعجال إيران إرسال قوات برية لمساندة حليفها، إذ لم يكن لديها الوقت أو العزيمة الكافية لذلك، فبإمكانك القتال إلى جانب حليفك، لكن لا يمكنك القتال نيابة عنه.
أبرزت الأحداث في سوريا المشكلة الرئيسة في العلاقات بين روسيا ودول الجنوب العالمي، فمساهمات روسيا تقتصر تقريباً على الأمن، وحتى هذا المورد التصديري غير كافٍ، وقد بات واضحاً على سبيل المثال أن روسيا لا تستطيع الوجود بفعالية على جبهتين.
لكن الأهم من ذلك، اتضح جلياً أن روسيا قادرة على إعادة الأراضي إلى السيطرة العسكرية والسياسية لنظام صديق، لكنها عاجزة عن بث الحياة والتنمية فيها، ففي المناطق التي استعادتها إيران وروسيا لم يحدث ما يفرح السكان المحليين تحت سيطرة دمشق، ولم يغير ترميم المباني الحكومية والعامة فضلاً عن المعسكرات العسكرية شيئاً من واقع حياة ملايين الأشخاص الذين كانوا يعيشون على حافة كارثة إنسانية تحت ضغط قوات أمنية فاسدة ذات نفوذ مطلق.
لم تتمكن سوريا من الخروج من الانهيار الاقتصادي الذي وقعت فيه مع اندلاع الحرب الأهلية، وإن لم يكن ذلك بسبب إرادة الحكومة وحدها، فقد انخفض نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي من نحو 3000 دولار إلى أقل من 1000 دولار خلال الأعوام الأولى من الحرب، وتذبذب حول هذا المستوى ثم انخفض إلى 500 دولار بعد جائحة كوفيد-19، وكان النمو الاقتصادي مماثلاً ممثلاً في انهيار بأكثر من 50 في المئة خلال الأعوام الأولى من الحرب الأهلية، تلتها أعوام من النمو الهش، ثم تراجع بفعل أعوام من الانكماش المماثل، ثم انكماش كارثي آخر بعد عام 2020.
لم تفشل روسيا وإيران فقط في أن تكونا محركين للنمو الاقتصادي لحليفهما، بل فشلتا أيضاً في جذب مستثمرين آخرين بمن فيهم مستثمرون من الغالبية العالمية، فلم يتدفق المستثمرون من دول الخليج والهند والصين إلى سوريا تحت الضمانات الأمنية الروسية والإيرانية.
وسيكشف الزمن ما إذا كانت روسيا ستتمكن من التوصل إلى اتفاق مع السلطات الجديدة والحفاظ على نفوذها داخل المنطقة، أو حتى التفاوض مع أي طرف. خلال الوقت الراهن، يعتمد الموقف تجاه سوريا على المنظور المختار، فمن الناحية الاقتصادية قد يكون التخلي عن الجمهورية العربية مبرراً، لكن من الناحية الاستراتيجية قد تؤدي هذه التغييرات إلى عدد من المشكلات الجديدة في المستقبل.