Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"بانتظار إسماعيل" مسرحية المغيبين قسرا في سجون الأسد

المخرج غزوان قهوجي اقتبس نص العراقي فلاح شاكر مسقطاً الحرب العراقية على واقع بلاده

مشهد من مسرحية "بانتظار اسماعيل" السورية (ملف المسرحية)

ملخص

في عرض "بانتظار إسماعيل" يحيلنا العنوان منذ البداية إلى مسرحية "في انتظار غودو" لصموئيل بيكيت (1906-1989)، لكن العرض السوري لا يذهب مذهب مسرح اللامعقول، بقدر ما يلعب مع الذاكرة الشخصية السورية.

لعلها المرة الأولى التي يتمكن فيها المسرح السوري من تسمية الأشياء بمسمياتها، ففي عرض "بانتظار إسماعيل" يحيلنا العنوان منذ البداية إلى مسرحية "في انتظار غودو" لصموئيل بيكيت (1906-1989)، لكن العرض السوري لا يذهب مذهب مسرح اللا معقول، بقدر ما يلعب مع الذاكرة الشخصية السورية.

تنتظر الأم حبيبة (ربى طعمة)، ابنها المغيب قسراً منذ سنوات في سجون النظام البائد، لكنّ كل محاولات طبيبها (محمد أيتوني) تفشل في تقمص شخصية الابن الغائب (ساطع يسين). لعبة أعدّها وأخرجها الفنان غزوان قهوجي عن نص "الجنة تفتح أبوابها متأخرة" للكاتب العراقي فلاح شاكر، محاولاً توليف النص الأصلي مع أشعار كل من أنس الدغيم وحذيفة العرجي عن المغيبين قسراً في سجون الأسد.

"خونة... كلكم خونة"، يردد إسماعيل في أول جملة من حواره. يبزغ الشاب غاضباً من على يسار الخشبة مردداً عبارات إثر أخرى، فيما نشاهد الأم (تم تعويضها عن شخصية الزوجة في النص الأصلي) تقف صامتة في منتصف الخشبة (مسرح الحمراء) مصغيةً إلى كلام من يدّعي بأنه ولدها العائد من الأسر.

في البداية تحجم الأم عن الاستجابة لعبارات الشاب، لكن الأخير يصر على استدعاء أحداث من الماضي الجميل، معبّراً عن استغرابه من تغيير ملامح البيت الذي تربّى وكبر بين جنباته، فالجدران كالحة وحديقة المنزل التي كانت تزخر بشجيرات الياسمين والنارنج والكباد الدمشقي، استحالت إلى حقل من خضار الفجل والبقدونس والفلفل. كل شيء قد تغير بعد 12 عاماً من غياب الابن عن بيته، لكن الأم لا تفتأ تردد على مسامعه: "أنتَ لم تعد ابني، أنا لا أعرفك".

ذاكرة الشخصيات

 

يمضي العرض بعدها في استدراج ذاكرة شخصياته، فمع تكرار الشاب لمحاولات إقناع المرأة بأنه ابنها العائد من الأسر، تتناهى أصداء الماضي في بيت كانت تمارس الأسرة فيه عاداتها اليومية. التجهز للذهاب إلى المدرسة والصباح والمطر وأغاني فيروز عبر إذاعة دمشق.

في ما مضى كانت الأم تلجأ إلى الكتابة لتدوين هذه اليوميات، لكن اليوم صار ذلك أضغاث أوهام، فالكتابة أمست على جدران السجون أمضى من كلمات كانت المرأة تخطها في ما مضى على بياض الورق. لقد فرّقت الأسلاك الشائكة وأبراج المراقبة بين الأم ووحيدها. هكذا يصبح الانتظار لسنوات نوعاً من التمرين على غياب أشد مرارة، وكل الصور التي تخيلها إسماعيل في السجن عن لقائه الأول بوالدته تمسي لا قيمة لها أمام إصرار الأم على إنكاره، فحتى عباراتها بلهجتها الشامية المحببة من قبيل: "الله يرضى عليك" و"تُقبرني" لم يعد بإمكان الأم المكلومة قولها لولدها، أو من يدّعي طوال الوقت بأنه ابنها العائد من موته المؤجل.

بالتوازي يحاول الشاب استحضار أحداث رهيبة من رحلته. معاركه مع قوات النظام وتعرض غوطة دمشق لضربة بالسلاح الكيماوي، الطرق المفروشة بجثث الأطفال والنساء والشيوخ. البيوت التي نامت فيها عائلات بأكملها نومتها الأخيرة. عبارة (ضربونا بالكيماوي) سوف تقابلها عبارة "جرعة أخيرة من العلاج الكيماوي" التي لم تزل الأم تتلقاها بعد إصابتها هي الأخرى بالسرطان كمداً وقهراً على اختفاء ولدها. فجأة نكتشف أن الشاب ما هو سوى (خطّاب) الطبيب المشرف نفسياً على علاج المرأة الأربعينية، وأن جرعات الدواء قد أطاحت بشطر من ذاكرتها، وهنا يظهر طيف الابن الحقيقي مرتدياً لباس المجاهدين (عباءة وجعبة رصاص)، فيختفي الطبيب والمشرف النفسي، ويبدأ حوار من نوع آخر تتضافر فيه قصة النبي إسماعيل مع والده إبراهيم، وكيف افتداه هذا الأخير بـ "ذبحٍ عظيم".

الأب الشاعر

قصة الأب (عبود الشامي) الذي كان يطمح أن يصير شاعراً، تهدينا هي الأُخرى إلى حكاية فرعية من العرض (الفرقة السورية للفنون المسرحية)، فمدرّس اللغة العربية يترك التدريس بعد اختفاء ولده ليعمل في بيع الحطب، فلقد تلقى الوالد صندوقاً من البرتقال وساعة حائط ومبلغاً زهيداً من المال. هدايا كان النظام البائد معتاداً على وهبها لأسر الضحايا الذين يقضون في المعارك الحربية مع قواته.

من هنا تتواشج القصة مع قصائد شعرية حاول المخرج تدجينها في أتون اللعبة المسرحية، لكن ذلك أضعف من لعبة استدعاء الذاكرة البعيدة للأم، لينقلنا إلى ما يشبه مرافعات شعرية من قبيل: "شرف الإنسان يا ولدي في رفعةِ الرأس، لا في فتلة الشنبِ، الشآم تأبى ووجهكَ كالشآمِ صبي، لا تقطع الخيط بين الخمر والعنبِ". أبيات هذه القصائد شوشت على التصاعد الدرامي لأحداث العرض، وأحالته إلى نوع من المسرح الاحتفالي، في الوقت الذي كان من الممكن استمرار تدفق القصة المؤثرة بين الأم وولدها الغائب.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ويبدو خيار غزوان قهوجي هو التوجه إلى شرائح واسعة من الجمهور عبر خطاب فني مباشر، بدلاً من التعويل على حكاية النص الأصلي الذي يروي حكاية مقاتل عراقي عاد من الأسر بعد سنوات طويلة، وتكون المفاجأة أن زوجته لا تتعرف إليه، وتصر على إنكار معرفتها به، فلقد أرادته معافى من آثار الحرب وذكرياتها، إلا أنه خيّب أملها.

طبعاً لا تبتعد النسخة السوية من النص عن ذلك، لكن مخرجها يحاول طوال فترة العرض "60 دقيقة" على دمج مشاهد تسجيلية من المعاناة السورية، كسقوط النظام وتبييض معتقلاته، ومنها مشهد دخول الثوار إلى سجن صيدنايا العسكري، وإطلاق سراح معتقلي الرأي، وفي هذا المشهد نشاهد أم إسماعيل تسأل المعتقلين المحررين عن ابنها، فيرد الجميع بأنهم جميعهم اسمهم إسماعيل، وصولاً إلى لحظة وصول قوات "ردع العدوان" إلى دمشق في الثامن من ديسمبر (كانون الأول) 2024.

واعتمد مخرج "بانتظار إسماعيل" في ديكوره (محمد حسين مصطفى) على منصات متحركة حاكى من خلالها أماكن ومناظر عديدة: (البيت، المستشفى، المعتقل)، التي كانت الإضاءة (أسامة إسماعيل برو) تحاول مواكبة تغيير مواقع قطع الديكور، في الوقت الذي عوّلت على منابع جانبية للضوء مع مشهديات بصرية جسّدت بدورها جانباً من معارك التحرير وخريطة سورية.

أسهم أيضاً تصميم المكياج وتنفيذه (منوّر عقاد) في إضفاء مسحة واقعية على شخصيات العرض، فالأم الشاحبة المحافظة في زيها والمجاميع الذين يرتدون العباءات البيضاء (تصميم الأزياء آلاء القصار) كلها عناصر لعبت في تقديم معالم البيئة. ترافق ذلك مع مختارات موسيقية صوفية (رضوان عبد الكريم) تواشجت هي الأخرى مع أصوات أجراس الكنائس. أجواء لم تخلُ من تصميم جُمل حركية سريعة رغبة من المخرج في خلق إيقاعية لحركة ممثليه، لكنها جاءت في بعض المواضع نافلة عن الحاجة وغير منسجمة مع البناء الدرامي للعرض.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة