ملخص
يطفو الجانب العدلي والقانوني لملف جثث الحرب في الخرطوم بوصفه أحد أكثر الملفات حساسية وتعقيداً، إذ يتقاطع فيه الواجب الإنساني العاجل مع مقتضيات العدالة وحقوق الضحايا.
لم تنته أحد فصول مأساة الحرب السودانية في العاصمة الخرطوم عند توقف إطلاق النار، فهناك فصل أخير، ثقيل الظل، يبدأ حين يعود الأحياء لمواجهة ما خلفته المعارك في الأزقة والساحات والبيوت، موت دفن على عجل، وذاكرة لم تُمنح وقتها الكامل للحداد.
في الخرطوم، حيث دفعت الحرب السكان إلى دفن أحبتهم في الميادين والمدارس والمساجد وحتى داخل المنازل، تعود اليوم أسئلة الكرامة والعدالة والحق في الوداع اللائق إلى الواجهة، مع بدء السلطات المحلية إجراءات منظمة لنقل المقابر الاضطرارية إلى المدافن العامة.
القرار، الذي تشرف عليه لجان أمنية وطبية وعدلية متخصصة، لا يُقرأ فقط بوصفه إجراء إدارياً أو صحياً، بل باعتباره خطوة إنسانية عميقة الدلالة، فإعادة دفن الضحايا في مقابر مخصصة، وفق إجراءات قانونية وطب شرعي، تعني إعادة الاعتبار لمن غُيبوا قسراً عن طقوس الموت الطبيعية، وتمنح ذويهم فرصة ولو متأخرة، لكنها ضرورية، للوداع.
وتمثل هذه العملية جزءاً من تفكيك آثار الحرب النفسية والاجتماعية، وتهيئة المجال لعودة السكان وإعادة الإعمار على أسس أقل هشاشة.
هذا المشهد ليس جديداً على الذاكرة الإنسانية، ففي البوسنة والهرسك، وبعد مجزرة سربرنيتسا عام 1995، أُجبرت آلاف العائلات على دفن ضحاياها في مقابر جماعية واضطرارية تحت وقع الخوف واستمرار النزاع، وبعد انتهاء الحرب انطلقت واحدة من أكبر عمليات إعادة نبش ونقل الرفات في العالم، قادتها فرق الطب الشرعي الدولية لإعادة دفن الضحايا في مقبرة "بوتوتشاري التذكارية"، لم تكن العملية تقنية وحسب، بل كانت مساراً طويلاً لإحقاق الحقيقة وترميم الكرامة ومساعدة المجتمع على مواجهة ماضيه المؤلم من دون إنكاره.
في الخرطوم اليوم، تتقاطع التجربة السودانية مع تلك السوابق العالمية في جوهرها الإنساني، الاعتراف بأن للضحايا حقاً لا يسقط بالتقادم، وأن التعامل مع الموتى هو مرآة لاحترام الأحياء لأنفسهم ومستقبلهم.
وعلى رغم قسوة المشهد وتجدد أحزان الفقد، وبعض الجدل الحقوقي الذي يحيط بنقل الرفات من مواقع الدفن العشوائية، تظل هذه الخطوة أساسية على طريق التعافي المجتمعي، وبداية صامتة تمهد لاستعادة حقوق الضحايا، ولو بعد حين.
دور محوري
في مشهد إنساني بالغ الحساسية، تمضي ولاية الخرطوم في نقل الرفات إلى المقابر المعتمدة، كمحاولة لإعادة الاعتبار لكرامة الموتى وتخفيف وطأة الذاكرة القاسية عن الأحياء.
العملية، التي تنفذها جهات رسمية بالتعاون مع متطوعين ولجان مجتمعية، لا تُدار كإجراء إداري وحسب، بل كمسار إنساني وقانوني دقيق، يخضع لإشراف طبي وعدلي صارم.
أوضح المدير التنفيذي لمحلية الخرطوم عبدالمنعم البشير، لوكالة السودان للأنباء (سونا)، أن الحملة تستهدف إزالة جميع المدافن الاضطرارية التي نشأت خلال الحرب، مؤكداً استيفاء الإجراءات القانونية كاملة قبل الشروع في نبش أي قبر.
ووفق ما أعلنه، تتم كل خطوة بالتنسيق مع لجنة نقل الرفات على مستوى الولاية، وبحضور ذوي المتوفين الذين أمكن الاستدلال على مواقع دفنهم، وأشار إلى إشراك لجان الخدمات والتسيير والمجتمع المحلي في الأحياء، باعتبارهم شهوداً على المكان والذاكرة، وضماناً للشفافية واحترام الخصوصية الإنسانية.
وتعمل لجنة أمن محلية الخرطوم على تنفيذ الحملة وفق جدول زمني محدد يشمل جميع وحدات المحلية، بهدف إنهاء ظاهرة القبور الاضطرارية بالكامل.
وفي موازاة ذلك، كشف مصدر رسمي بوزارة الصحة بولاية الخرطوم أن هيئة الطب العدلي تمكّنت، منذ أبريل (نيسان) 2024، من جمع ونقل نحو 15 ألف جثة من الأحياء والمدارس ومواقع الدفن الموقتة، مؤكداً أن الولاية تتجه لإعلان خلوها من أي جثامين مدفونة خارج المقابر بحلول منتصف عام 2026.
وأشار المصدر إلى أن هذه المدافن الاضطرارية كانت نتيجة مباشرة لإجبار المدنيين، خلال سيطرة قوات "الدعم السريع" على بعض المحليات، على دفن موتاهم داخل الأحياء.
اتخذت الحملة بعداً عملياً متسارعاً منذ مارس (آذار) الماضي، وامتدت إلى محلية الخرطوم بحري، حيث انطلقت أعمال جمع ونقل الرفات من استاد شمبات، بحضور المدير التنفيذي للمحلية عبدالرحمن أحمد عبدالرحمن، وبمشاركة الدفاع المدني ومنظمة الهلال الأحمر السوداني، وبالتنسيق مع لجان التسيير والخدمات في المنطقة.
وأوضح عبدالرحمن أن "الهدف الأساس للحملة يتجاوز المعالجة الصحية إلى تخفيف العبء النفسي عن الأسر، وتنظيم المشهد الإنساني داخل العاصمة، وتخضع العملية لإشراف (اللجنة العليا لجمع رفات المتوفين أثناء الحرب)، وتسير وفق منهجية دقيقة من أربع مراحل: حصر مواقع الدفن، والتواصل مع العائلات، ونبش القبور تحت إشراف الطب العدلي، ثم إعادة الدفن والتوثيق الكامل".
وفي قلب هذه العملية، تضطلع اللجان المحلية بدور محوري في الإخطار والحصر والتنسيق، لتتحول المهمة من عمل تقني شاق إلى جهد جماعي لاستعادة كرامة المدينة وبرء ذاكرتها الجريحة.
الفقد مرتان
تعيش مئات العائلات تجربة إنسانية قاسية حيث وجدت نفسها مجبرة على وداع أحبتها مرتين: الأولى جاءت تحت دويّ القصف والرصاص الحي، حين تحولت ساحات المنازل وباحات المدارس وأفنية المساجد وحتى الميادين العامة إلى مقابر اضطرارية، لأن الوصول إلى المدافن الرسمية كان آنذاك مغامرة قد تنتهي هي الأخرى بالموت.
أما المرة الثانية، فتأتي اليوم أكثر هدوءاً في ظاهرها، لكنها أشد وقعاً على القلوب، إذ تعيد فتح جراح لم تندمل بعد.
في حي جبرة جنوب الخرطوم، أحد الأحياء التي شهدت اشتباكات عنيفة مع اندلاع الحرب، يقف عبدالعال طه شاهداً على هذا الألم المركب. خلال الأيام الأولى للمعارك، ومع استحالة الخروج من الحي، اضطر طه إلى دفن بعض أفراد أسرته أمام منزلهم بعدما قضوا في قصف جوي مباغت.
لم يكن هناك وقت للبكاء أو طقوس وداع، كان الهدف الوحيد هو النجاة بمن تبقى من الأحياء.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
اليوم، وبعد عودته من القاهرة مع تحسن نسبي في الوضع الأمني، وجد نفسه واقفاً من جديد أمام القبور ذاتها، يراقب استخراج الرفات لنقله إلى مقبرة عامة، يقول مقربون منه إن المشهد أعاد إليه لحظة الفقد الأولى بكل تفاصيلها، كأن الحرب لم تنتهِ بعد.
ولا تختلف قصة طه كثيراً عن قصص عشرات الأسر التي دفنت موتاها على عجل، ثم غادرت الخرطوم تحت ضغط الخوف والنزوح، بعضهم عاد، وآخرون يتابعون ما يجري من خارج البلاد، من بينهم آمنة الكنان، المقيمة حالياً في السعودية، التي فقدت زوجها وأخاها في حي المعمورة. تروي الكنان أن الأسرة كانت تستعد لمغادرة المدينة حين دهم مسلحون من قوات "الدعم السريع" منزلهم، مطالبين بالمال والذهب، وعندما حاول زوجها وأخوها حماية النساء داخل المنزل، أُرديا قتيلين في الحال ودُفنا لاحقاً في مقبرة اضطرارية لأن الخروج بالجثامين كان مستحيلاً.
تقول الكنان إن إعلان إعادة دفن زوجها وأخيها ضمن حملة رسمية منظمة أعاد إليها شيئاً من الإحساس بالإنصاف، لكنه في الوقت نفسه فتح باب الحزن من جديد، وأردفت "نعرف أن ما يجري تكريم لهما، لكن الألم يعود كأنه حدث بالأمس".
وهكذا، تتحول عملية إعادة الدفن في الخرطوم إلى مرآة تعكس آثار الحرب الممتدة، حيث لا تنتهي المأساة عند فقدان الأحبة، بل تستمر في تفاصيل الذاكرة، وتكشف عن أن طريق التعافي لا يمر فقط عبر إعادة الإعمار، بل عبر الاعتراف الكامل بثقل الفقد الإنساني، ومنح الضحايا وأسرهم حق الوداع اللائق، ولو جاء متأخراً.
جدل حقوقي
يطفو الجانب العدلي والقانوني لملف جثث الحرب في الخرطوم بوصفه أحد أكثر الملفات حساسية وتعقيداً، إذ يتقاطع فيه الواجب الإنساني العاجل مع مقتضيات العدالة وحقوق الضحايا، فالجثامين التي بقيت لفترات طويلة في الطرقات والمنازل والمناطق المدنية، ثم دُفنت اضطرارياً تحت وطأة القتال، لم تكن مجرد ضحايا حرب، بل حوامل محتملة لأدلة قد تكون حاسمة في أي مسار للعدالة الانتقالية مستقبلاً.
على المستوى الدولي، تنص اتفاقات جنيف لعام 1949، لا سيما الاتفاق الأول، على وجوب احترام الموتى في النزاعات المسلحة، وضمان جمعهم وتحديد هوياتهم ودفنهم بكرامة، مع اتخاذ التدابير اللازمة لتوثيقهم ومنع ضياع الأدلة.
ويؤكد البروتوكول الإضافي الأول لعام 1977 على حق العائلات في معرفة مصير أقاربهم، هذه المبادئ تشكل مرجعية قانونية واضحة لأي إجراء يتعلق بنبش القبور أو نقل الرفات، وتُلزم السلطات باتباع معايير دقيقة توازن بين الضرورة الصحية والحقوق القانونية.
في السياق السوداني، يستند العمل العدلي إلى قانون الإجراءات الجنائية لعام 1991، الذي يضع مسؤولية حفظ الأدلة والتحقيق في أسباب الوفاة على عاتق السلطات المختصة، إضافة إلى القوانين المنظمة لعمل الطب العدلي، غير أن تطبيق هذه النصوص في ظل واقع ما بعد الحرب يثير مخاوف واسعة، خصوصاً مع غياب الإشراف الدولي المتخصص في بعض مراحل العملية، كما يشير عاملون إنسانيون.
يؤكد مدير هيئة الطب العدلي بولاية الخرطوم هشام زين العابدين أن الفرق الميدانية باشرت نقل ودفن الجثامين منذ استعادة الجيش السيطرة على مناطق واسعة من الولاية، مع توثيق الجثامين وترقيمها، ودفن مجهولي الهوية في مقابر مخصصة، لكنه يقر بتحديات جسيمة، أبرزها تخريب وحدات فحص الحمض النووي (DNA)، ونقص أكياس الجثامين، مما يحد من القدرة على حفظ الأدلة بالمعايير المثلى.
في هذا السياق، يرى الصحافي محمد الأمين، أن "الاستعجال في طيّ هذا الملف مفهوم إنسانياً، لكنه يحمل خطراً يتمثل في إغلاق نافذة الحقيقة مبكراً، وحرمان الضحايا من حقهم في مساءلة من تسببوا في موتهم".
في المقابل، يذهب المحامي والناشط الحقوقي عبدالله النور إلى أن "القانون لا يمنع إعادة الدفن، لكنه يشترط التوثيق الصارم، وأخذ العينات، وحفظ السجلات، حتى لا تتحول المعالجة الإنسانية إلى عائق أمام العدالة الانتقالية".
بين هذين الرأيين، تقف الخرطوم على مفترق طرق، إما أن تُدار عملية إعادة الدفن بوصفها خطوة متكاملة تحترم القانون الدولي والوطني معاً، أو أن تُختزل في إجراء إسعافي قد يداوي جرح الحاضر، لكنه يترك ندبة عميقة في ذاكرة العدالة المقبلة.
مسار تشاركي
تتشكل عملية نقل القبور الاضطرارية وإعادة دفن رفات ضحايا الحرب في الخرطوم في جوهرها كفعل مجتمعي عميق يختبر مدى قدرة السكان على ترميم نسيجهم الاجتماعي بعد ما يقارب ثلاثة أعوام من بدء الحرب وما بثته من رعب وتفكك، ففي مدينة أنهكتها الحرب، كان للمجتمع المحلي دور محوري في تحويل هذه العملية من مهمة رسمية ثقيلة إلى مسار تشاركي يوازن بين الكرامة الإنسانية والحساسية الاجتماعية.
في هذا السياق، يؤكد عضو لجان المقاومة بحي البراري مصطفى القوني، أن "اللجان المحلية اضطلعت بدور استباقي بالغ الأهمية تمثل في حصر مواقع القبور الاضطرارية في عدد من الأحياء تمهيداً لوصول فرق الطب العدلي والدفاع المدني"، مشيراً إلى "أن هذه الجهود لم تكن مجرد عمل تنظيمي، بل نتاج ثقة متبادلة بين الأهالي واللجان، ومعرفة دقيقة بالجغرافيا الاجتماعية للحي، وبالقصص المختبئة خلف كل قبر. وقد انطلقت الحملة فعلياً في مناطق أخرى مجاورة على الضفة الأخرى من النيل في الخرطوم بحري، وسط مشاركة مجتمعية لافتة أسهمت في تسهيل حركة الفرق المختصة وتقليل الاحتكاكات".
وفي منطقة شمبات، يروي متطوعون أن الأهالي بادروا بفتح منازلهم وساحاتهم أمام الفرق، وقدموا شهاداتهم حول توقيت الدفن وظروفه، وساعدوا في إرشاد العائلات إلى مواقع القبور التي طُمست معالمها بفعل الزمن أو القصف.
هذا التفاعل لم يقتصر على الدعم اللوجيستي، بل شمل حضوراً وجدانياً، حيث شارك الجيران في لحظات الوداع الصامتة، ووفروا غطاء اجتماعياً خفف من قسوة المشهد على أسر الضحايا.
أما الأثر الاجتماعي لهذه العملية فيتجاوز نقل الرفات إلى إعادة ترتيب العلاقة بين الأهالي وذاكرتهم الجماعية، فإزالة القبور من قلب الأحياء تسهم في تخفيف العبء النفسي اليومي، خصوصاً على الأطفال والنساء، وتفتح المجال أمام استعادة الإحساس بالحياة الطبيعية.
وفي الوقت ذاته، أعادت العملية إحياء قيم التكافل والتضامن، بعدما أعادت الحرب تعريف الخوف والعزلة، ومع ذلك لم تخلُ التجربة من توترات، إذ عبر بعض الأهالي عن خشيتهم من نبش القبور من دون ضمانات كافية، أو من طيّ صفحة الألم قبل الاعتراف الكامل به، لكن حضور المجتمع المحلي في قلب العملية شكّل صمام أمان اجتماعي، وخلق مساحة للحوار بين الذاكرة والضرورة، لتتحول إعادة الدفن من مجرد نهاية مؤلمة إلى فعل اجتماعي يعيد وصل ما انقطع، ويمنح المدينة فرصة نادرة للتعافي الجماعي، خطوة بخطوة، من تحت ركام الحرب.