Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هل يستعيد ماكرون إرث ديغول سعيا نحو الاستقلال الدفاعي الأوروبي؟

مواقف إدارة ترمب حيال الحرب في أوكرانيا وحجم المشاركة في الحلف الأطلسي حتّمت إعادة الحسابات

يرى مراقبون أن أحداً لا يسعى فعلياً إلى الانفصال عن المظلة الأميركية، وفي مقدمهم فرنسا، لأن الولايات المتحدة باتت الوجهة التي تتجه إليها الدول لرفع مستوى ونوعية تسلحها (رويترز)

ملخص

تقف فرنسا اليوم على مفترق طرق بين وعد بالاستقلال الاستراتيجي المستلهم من إرث ديغول، وبين الاعتماد المستمر على الحماية الأميركية، ويبقى مستقبل دفاعها معلقاً على قرارات سياسية ومالية لا تزال غامضة.

في ظل تداعيات نشر استراتيجية الأمن القومي الأميركية الجديدة التي تعطي الأولوية لشؤون الأميركيتين وتبرز ما وصفته باريس بـ"تراجع" أوروبا، دعا وزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو، أول من أمس الأربعاء، القارة الأوروبية إلى تسريع خطواتها نحو "الاستقلال الاستراتيجي".

وقال بارو أمام الجمعية الوطنية الفرنسية، إن نشر "استراتيجية الأمن القومي" الأميركية، يشكل "لحظة توضيح وحقيقة" تدعو القارة الأوروبية إلى الثبات على المسار وتسريع خطواتها نحو "السيادة الدفاعية"، مؤكداً أن فرنسا كانت على حق منذ عام 2017 في الدعوة إلى استقلال أمني واستراتيجي لأوروبا، وأضاف الوزير أن "شعوب أوروبا ترفض الاستسلام في الحروب، سواء العسكرية أو التجارية"، مشيراً إلى "نقاط التوتر مع واشنطن في شأن الحرب في أوكرانيا والرسوم الجمركية التي فرضتها إدارة ترمب".

وشدد بارو على أن "الأوروبيين يسعون إلى أن تصبح قارتهم قوة ديمقراطية مستقلة لا يُسمح لأحد باتخاذ القرارات نيابة عنها"، داعياً القادة إلى "أن يكونوا عند حسن ظن شعوبهم".

ماكرون والحنين إلى الديغولية: قراءة في أسباب اندفاع باريس نحو سيادة استراتيجية أوروبية

أما في شأن الأسباب التي دفعت وزير الخارجية الفرنسي إلى الدعوة لتسريع الانتقال نحو "الاستقلال الاستراتيجي" الأوروبي، يتساءل الباحث السياسي طارق وهبي، "ماذا تبقى لأوروبا في الموقف الأميركي من الحرب على أوكرانيا؟ واضح جلياً أن أميركا ترمب تتخلى عن أوروبا وتتجه لتلبية طلبات روسيا، وزيادةً يطالب ترمب أوروبا رفع مشاركتها في ’الناتو‘".

وتابع وهبي أن "كل ذلك يدفع إلى التأكيد أن أوروبا بحاجة إلى سيادة استراتيجية مبنية على تطوير الشق العسكري والأمني لكن المشكلة تكمن في الإمكانات المادية والوقت".

في هذا الخصوص يؤكد طارق وهبي أن "الرئيس الفرنسي السابق شارل ديغول كان جنرالاً، مما يعني أنه يعي جيداً الشق العسكري والاستراتيجي، وكان رجل التحرير لفرنسا بعد الاحتلال النازي ورجل الدستور الجديد الذي أكد على الدور الريادي لفرنسا في الأمن والسلام بالعالم، وخصوصاً كرسي فرنسا في مجلس الأمن".

وأضاف أن "كل ذلك بدأ يتراجع مع الخيارات العسكرية للرؤساء الفرنسيين الذين تعاقبوا وبالتحديد الديغولي جاك شيراك الذي ألغى التجنيد الإجباري ونقل الجيش الفرنسي إلى الاحتراف بمعنى خفض الكثير والعمل على العمل بموازنة ليست بكبيرة".

واعتبر أن "الاستراتيجية الأميركية تعمل كالعادة بمبدأ تفضيل الأمن القومي الأميركي على أي أمن مشترك، وهذا سيقلل التعاون العسكري الفرنسي الأميركي، وذلك سيصب بالتوجه الفرنسي لإيجاد كل المتطلبات للوصول إلى استراتيجية فرنسية وممكن أوروبية أكثر سيادةً للقارة الأوروبية".

وعن سؤال ما إذا كانت فرنسا تحاول لعب دور "الوسيط المستقل" بين الولايات المتحدة وروسيا كما فعل ديغول، يفيد طارق وهبي بأن "رؤساء فرنسيين، أولهم نيكولا ساركوزي، الذي حاول عندما اندلعت أزمة جورجيا، وجابه يوم ذاك المزاجية البوتينية التي هددته حتى بتدمير فرنسا، ثم شاركت روسيا في مسار النورماندي في حقبة الرئيس فرانسوا هولاند مع بدء التذمر الروسي من عدم التزام أوكرانيا ببنود اتفاقيتَي مينسك 1 و2، وأتى الرئيس ماكرون الذي حاول جاهداً منع اندلاع الحرب على أوكرانيا لكنه عجز عن ذلك وأصبح من أوائل المناهضين لتلك الحرب ووقف مع كييف ودعمها، وذهب بعيداً بالدعوة إلى إنشاء جيش أوروبي والعمل على الاستقلالية الدفاعية والأمنية الأوروبية".

 

"لحظة حقيقة لأوروبا"

وعن كيف تفسّر فرنسا اعتبار الاستراتيجية الأمنية الأميركية الجديدة "لحظة حقيقة لأوروبا"، يقول طارق وهبي إن "اللحظة الحقيقية مقصود فيها أنه حان الوقت لتطوير القدرات العسكرية والأمنية والتعلّم من خبرة ’يوروبول‘ في عالم الشرطة والاستخبارات، ولا يجب أن ننسى أن التدريبات المشتركة الأميركية والأوروبية في بعض دول أفريقيا أثبتت أن الاعتماد على القوات الأميركية هو فقد للمظلة الأمنية الأوروبية والابتعاد عن التشاركية الدفاعية في داخل حلف ’الناتو‘".

واستفساراً عما تريد فرنسا إثباته عندما تقول إن هذه الاستراتيجية تؤكد أنها كانت على حق منذ 2017، يرى وهبي، "أن تكون على حق لا يعني أن تكون قادراً على الإجابة بالوقت المناسب وبالبرامج الهادفة، كل ما تفكر به فرنسا هو التشارك في برامج التسلح والتصنيع العسكري ووضع كل الإمكانات المادية لإنتاج أسلحة ترفع من الميزان الاستراتيجي الذي تخلخله أميركا".
وحول مدى قدرة فرنسا على الابتعاد عن المظلة الأمنية الأميركية في ظل التحديات الراهنة، يؤكد الباحث السياسي أن "أحداً لا يسعى فعلياً إلى الانفصال عن المظلة الأميركية، وفي مقدمهم فرنسا، لأن الولايات المتحدة باتت الوجهة التي تتجه إليها الدول لرفع مستوى ونوعية تسلحها".

ويضيف أن "الديغولية قامت على مبدأ السيادة العسكرية والقتالية الفرنسية، إلا أن هذا المبدأ تشتت مع سلسلة قرارات رئاسية فرنسية لاحقة أضعفت تلك العقيدة".

 

فرنسا و"الروح الديغولية"

وعما إذا كان الموقف الفرنسي الحالي يشبه موقف الجنرال ديغول من واشنطن عام 1966، يوضح وهبي أن "المقارنة ليست مطابقة، إذ كان ديغول شرساً في الدفاع عن الحماية العسكرية والاستخباراتية لفرنسا، بما في ذلك حماية الملكية الفكرية، التي تراجعت برأيه بعدما فرّط بها بعض المسؤولين تحت شعارات الانفتاح والعولمة".
ويشير وهبي إلى أن "عام 1966 ليس عام 2026، فستة عقود غيّرت طبيعة الحرب وتحولاتها"، لافتاً إلى أن "ظهور الذكاء الاصطناعي اليوم يعكس أن أي تساهل قد يطوّق المنتج الفكري والعسكري على مختلف المستويات، مما يجعل التحديات الحالية أكثر تعقيداً مما واجهه ديغول في زمنه".
واعتبر أن "الرئيس ماكرون يسعى إلى الظهور بمظهر الرئيس الديغولي، لكنه ورث عن الرؤساء السابقين منظومة الخطط العسكرية الخماسية التي تستند إلى فكرة ’فرنسا المستقلة عسكرياً‘ بفضل امتلاكها السلاح النووي ومقعدها الدائم في مجلس الأمن"، غير أن هذه المعطيات، كما يقول وهبي، لا تجعل من ماكرون ديغولاً جديداً، على رغم دفعه نحو إنشاء "عمود أوروبي" داخل الاتحاد يُعنى بالأمن والدفاع.

ومع ذلك، يوضح الباحث أن "توجّه ماكرون نحو تعزيز الاستقلالية الدفاعية والهجومية لفرنسا يجعله أقرب إلى الروح الديغولية، لأن قراراته تعكس مقاربة تؤمن بالسيادة العسكرية".

وعن سؤال هل تستعيد فرنسا خطاب ديغول أم تعيد تفسيره وفق مصالح العصر؟ يعتبر وهبي أن "فرنسا، في الحالتين، لا تمتلك الإجابة الكاملة، لأنها غير قادرة بمفردها داخل الاتحاد الأوروبي على بناء منظومات عسكرية مستقلة، لذلك، تعتمد باريس على إرثها الديغولي، وعلى الكاريزما التي ارتبطت بشخصية الجنرال ديغول وأسلوبه السياسي الجريء، وبخاصة بعد مواقفه الشهيرة من التدخلات الدولية".

وخلاصة القول يرى وهبي أن "فرنسا اليوم تستحضر الخطاب الديغولي بقدر ما تعيد تفسيره بما يخدم مصالحها الحديثة، في عالم تبدلت فيه قواعد القوة وأولويات الأمن بصورة جذرية مقارنة بعهد ديغول".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

أسباب الدعوة الفرنسية إلى مواجهة مواقف ترمب

في سياق متصل يوضح الباحث في الشأن الأوروبي محمد رجائي بركات أن "دعوة وزير الخارجية الفرنسي إلى ضرورة مواجهة مواقف الرئيس الأميركي دونالد ترمب في شأن الحرب في أوكرانيا، تعود إلى جملة من الأسباب التي أثارت قلقاً واسعاً في أوروبا، فقد أبدى ترمب استعداداً للتخلي عن تقديم الدعم لأوكرانيا في معركتها الهادفة إلى صد القوات الروسية واستعادة سيادتها على كامل أراضيها، مما اعتُبر تحولاً استراتيجياً خطراً يهدد الأمن الأوروبي".

ويشير بركات إلى أن "تصريحات ترمب حول حلف شمال الأطلسي زادت من حدة المخاوف، إذ شكّك في جدوى الحلف وأعلن أنه غير مستعد للدفاع عن أي دولة أوروبية لا ترفع إنفاقها العسكري إلى نسبة خمسة في المئة من ناتجها الداخلي الإجمالي".

هذه المواقف، في اعتقاده، أحدثت فجوة في الثقة بين دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، وامتد أثرها إلى العلاقة بين القادة الأوروبيين وإدارة ترمب التي وجدت نفسها أمام تداعيات هذه التصريحات.

ويفيد بركات بأن "وزير الخارجية الفرنسي ومعه عدد متزايد من المسؤولين الأوروبيين يدعون اليوم إلى تعزيز القدرات العسكرية للقارة، والاعتماد بصورة أكبر على الذات، ضماناً لحماية الأراضي الأوروبية وتقليل الارتهان للتقلبات السياسية في واشنطن".
ويشير إلى أن "الاستراتيجية الأمنية الأميركية الجديدة تمثل لحظة حقيقة بالنسبة إلى الدول الأوروبية، لكنها لحظة جاءت متأخرة، إذ كان على هذه الدول أن تدرك خطورة اعتمادها الكامل على واشنطن منذ وقت سابق".

ويضيف الباحث في الشأن الأوروبي أن "السؤال اليوم هو: هل سيكون بإمكان الدول الأوروبية التخلي عن الحماية الأميركية ضمن إطار حلف شمال الأطلسي، وبناء قدراتها العسكرية بصورة مستقلة؟".

ويلفت بركات إلى أن هذا المسار طويل ومعقد، بسبب عدم توفر الإمكانات المالية، وبسبب تباين المواقف بين الدول الأعضاء في الاتحاد، وسيستمر الاعتماد على القوة الأميركية لفترة طويلة من أجل حماية الأراضي الأوروبية.

وذكّر المتحدث ذاته بأن "الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون كان يدعو منذ عام 2017 إلى تعزيز الاستقلالية الدفاعية الأوروبية والابتعاد عن الاعتماد الكامل على الحماية العسكرية الأميركية، لضمان حماية فعّالة لأراضي الاتحاد الأوروبي، وقامت فرنسا بمحاولات عدة لدعم فكرة زيادة القدرات العسكرية الأوروبية وتشكيل قوة عسكرية ضمن الاتحاد القاري، لكنها لم تحقق النجاح المرجو، إذ اصطدمت بمحدودية الإرادة السياسية والتنسيق بين الدول الأعضاء، وعدم توفر الإمكانات المالية".

 

بين الاعتماد على الحماية الأميركية وتعزيز القدرات الذاتية

ونوّه بركات إلى أن "الاستراتيجية الأميركية الأخيرة تؤكد ضرورة إعادة النظر في الأمن الأوروبي، وتعكس تحدياً كبيراً أمام القادة الأوروبيين الذين يسعون اليوم إلى إيجاد توازن بين الاعتماد على واشنطن وتعزيز قدراتهم الذاتية".

ومع ذلك يؤكد بركات أن "الرئيس ماكرون حاول منذ حملاته الانتخابية التطرق إلى مستقبل أوروبا وضرورة تعزيز قدراتها العسكرية بصورة أكبر، لتقليل الاعتماد على الحماية الأميركية، إلا أن أي خطوة في هذا الاتجاه تتطلب موافقة بالإجماع من جميع دول الاتحاد الأوروبي البالغ عددها 27 دولة، مما يجعل تحقيق الاستقلالية الدفاعية الأوروبية بصورة كاملة أمراً معقداً".

وزاد أن "أوروبا تسعى اليوم إلى إعادة النظر في أفكار الرئيس ديغول الذي دعا إلى استقلال فرنسا عسكرياً، لكن هذه الأفكار تُعاد صياغتها بطريقة تتماشى مع الواقع العالمي الحالي، وتراعي التوازن بين الاعتماد على الحماية الأميركية وتعزيز القدرات الذاتية للدول الأوروبية".
ورأى بركات أن "الاستراتيجية الأميركية الجديدة، إلى جانب التقارير والتصريحات الصادرة عن واشنطن، وخصوصاً عن الرئيس ترمب، تدفع المسؤولين الفرنسيين والأوروبيين إلى الاعتقاد بأن الوقت حان لتبنّي الأفكار التي كان قد طرحها ديغول في مجال اعتماد فرنسا على نفسها في حماية أمنها، وكرّس مبدأ الاستقلال العسكري عن دول الحلف الأطلسي، وعمل على تطوير قدرات نووية دفاعية لضمان حماية فرنسا في حال نشوب حرب".

ويشير إلى أن "التطورات الحالية تعيد إحياء تلك الرؤية الديغولية، إذ تتجه باريس وعدد من العواصم الأوروبية نحو استعادة جزء من الاستقلالية الاستراتيجية، في ظل شعور متزايد بأن المواقف الأميركية، وبخاصة في عهد ترمب، لا تمنح أوروبا الثقة ولا تضمن لها مظلة حماية ثابتة".

ويضيف أن "فرنسا كانت تطمح بلعب دور الوسيط المستقل في الحرب الأوكرانية والمشاركة في المفاوضات مع الولايات المتحدة وروسيا، إلا أنها لم تنجح في ذلك، ولن تنجح، لأنها ودول الاتحاد الأوروبي فقدت جزءاً كبيراً من صدقيتها ومن وزنها الجيوسياسي أمام الولايات المتحدة".

ويعتبر محمد رجائي بركات أن "طريقة تعامل ترمب مع القادة الأوروبيين خلال لقاءاته معهم، إضافة إلى الانتقادات المباشرة التي وجّهها لدولهم ولعدد من رؤسائهم، تعكس بوضوح مدى تراجع المكانة الأوروبية في نظر واشنطن، وهو ما يدفع الأوروبيين اليوم إلى إعادة تقييم قدراتهم الدفاعية والبحث عن تموضع جديد أكثر استقلالية وواقعية"، مضيفاً أن "الاستراتيجية الأمنية الأميركية الجديدة تمثل لحظة حقيقة بالنسبة إلى الدول الأوروبية، لكنها لحظة جاءت متأخرة، إذ كان على هذه الدول أن تدرك خطورة اعتمادها الكامل على واشنطن منذ وقت سابق".

وقال إن "السؤال اليوم هو: هل سيكون بإمكان الدول الأوروبية التخلي عن الحماية الأميركية ضمن إطار حلف شمال الأطلسي، وبناء قدراتها العسكرية بصورة مستقلة؟".

وأجاب بأن "هذا المسار طويل ومعقد، حتى لو توفرت الإمكانات المالية، لأن الاعتماد على القوة الأميركية سيستمر لفترة طويلة في حماية الأراضي الأوروبية".

ختاماً، تقف فرنسا اليوم على مفترق طرق بين وعد بالاستقلال الاستراتيجي المستلهم من إرث ديغول، والاعتماد المستمر على الحماية الأميركية، ويبقى مستقبل دفاعها معلقاً على قرارات سياسية ومالية لا تزال غامضة، فيما يبقى السؤال هل ستتمكن القارة من بناء استقلاليتها الدفاعية دون الاعتماد على الولايات المتحدة، أم أن الواقع المالي والسياسي سيجعلها أسيرة المظلة الأميركية لعقود مقبلة؟ الجواب قد يحدد شكل أوروبا في القرن الـ21، بين سيادة معلنة وواقع مرهون بالآخر.

اقرأ المزيد

المزيد من تحلیل