ملخص
تبدو أوروبا اليوم، وكأنها في مواجهة جردة حساب مع توجهات الرئيس دونالد ترمب، لا سيما بعد قمة بروكسل وتصريحات رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، فالجميع يتوقعون أن يقوم الرئيس الأميركي بأمور عدة لا تصب في صالح سيرة ومسيرة التحالف الأطلسي.
قبل تنصيب الرئيس الأميركي دونالد ترمب، دعت منظمة تجديد أوروبا، التي أُسست عام 2019، وتمثل تحالفاً من الليبراليين والديمقراطيين، إلى التوحد والدفاع عن المصالح والقيم الأوروبية.
كان منطلق هذه الدعوة هو أن التحالف بين جانبي الأطلسي، الذي دام ثمانية عقود، منذ الانتصار الكبير في الحرب العالمية الثانية على دول المحور، قد جلب كثيراً من الرخاء والأمن للطرفين، وأنه يجب الاعتزاز به.
كانت وجهة نظر القائمين على هذه المنظمة أن الأوروبيين حلفاء رئيسين للولايات المتحدة الأميركية، وأنهم يأملون في أن يكون الأصدقاء الأميركيون مقتنعين بأن العلاقة القوية بين الاتحاد الأوروبي وواشنطن قوية بما يسمح ببقائها لعقود أخرى قائمة.
في الأيام الأولى من يناير (كانون الثاني) الماضي تكلمت رئيسة منظمة "تجديد أوروبا" فاليري هاير قائلة "التحالف عبر الأطلسي قوي وثمين ويجب رعايته لا تقويضه، والحرب التجارية التي لا معنى لها أو النزاعات الدبلوماسية لن تفيدا إلا بكين وموسكو"، على أن تطورات المشهد الأميركي، وبعد أقل من شهر من تنصيب الرئيس ترمب، بدت وكأن حساب الحصاد على مقربة من أن يكون منافياً ومجافياً لحصاد البيدر.
تبدو أوروبا اليوم وكأنها في مواجهة جردة حساب مع توجهات الرئيس ترمب، لا سيما بعد قمة بروكسل وتصريحات رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، فالجميع يتوقعون أن يقوم الرئيس الأميركي بأمور عدة لا تصب في صالح سيرة ومسيرة التحالف الأطلسي، تبدأ من عند تكفيره الذي يقترب من تنفيذ مخططات لامتلاك جزيرة غرينلاند الدنماركية، بحجة أهميتها للأمن القومي، مروراً بالتعريفات الجمركية العالية، التي يتوقع أن يفرضها على عديد من دول الاتحاد، مما يضر بمعدلات النمو الاقتصادي في البلاد، وصولاً إلى النسبة المرتفعة المطلوبة للمساهمة في تمويل "الناتو"، وقد رفعها ترمب من اثنين في المئة من الناتج الإجمالي القومي لكل دولة عضو في الحلف، خلال ولايته الأولى، إلى خمسة في المئة خلال ولايته الثانية.
أما الخوف الأكبر الرابض خلف الباب للأوروبيين، فموصول بسياسات ترمب غير المتوقعة، وبعضها، حكماً، سيتقاطع مع الصراع الروسي - الأوكراني، ذلك أنه بعدما وعد ترمب بأن يوقف الحرب الروسية - الأوكرانية خلال أيامه الأولى، ها هو يفكر ومن جديد بعقلية "رجل الصفقات"، فيعرض على رئيس أوكرانيا فولوديمير زيلينسكي أن يمده بالمواد الطبيعية النادرة الموجودة في بلاده، وغالبها يقع في واقع الأمر في الجزء الشرقي الذي تحتله روسيا، ويقدر بقرابة 12 تريليون دولار أميركي، في مقابل تزويد أوكرانيا بالسلاح اللازم لمواصلة القتال ضد بوتين .
هنا تبدو أوروبا خائفة لأكثر من سبب، فالبداية من عند رئيس أكبر دولة يخلف وعده، ثم هذه الطريقة التي ربما تستجلب غضب بوتين وبقوة عند لحظة من سخونة الرؤوس، مما يدفعه إلى ردود فعل غير محسوبة، هل تجيء سياسات ترمب لتدعو أوروبا الديغولية إلى الاستيقاظ مجدداً؟ وكيف ينبغي على الأوروبيين ترتيب أوراقهم وبسرعة في قادم الأيام؟
أوروبا واستيقاظ الديغولية ثانية
قبل أن تنتهي ولاية ترمب الأولى لاحظ كثر من المنظرين للسياسات الأوروبية تنامي الدور الفرنسي بقيادة إيمانويل ماكرون، الذي بدا أنه رجع صدى لا يتلكأ ولا يتأخر لتوجهات الرئيس الفرنسي الأشهر شارل ديغول في ستينيات القرن الماضي، واعتبر بعض المتابعين في أوروبا أن ماكرون يتخيل نفسه شارل ديغول القرن الـ21، كما يقولون بسخط في الولايات المتحدة الأميركية، مما يؤكد التغيير الأساس تجاه "شريكهم" الخارجي .
وعلى رغم عدم شعبيته في فرنسا، والاحتجاجات الجماهيرية التي واجهها، فقد فعل ماكرون الشيء الأكثر أهمية في حياته كسياسي، فقد أظهر لأوروبا الغربية طريقة للخروج من عبودية الولايات المتحدة الأميركية، وما إذا كانت ستتمكن أوروبا من استخدام هذا الطريق أم لا؟ وهو سؤال مفتوح حتى الآن، لا سيما أن الشعبية المتزايدة لليمين الأوروبي تبعث على هذا الاتجاه.
واعتبر الفرنسيون، بل وربما عموم الأوروبيين في لحظة تاريخية بعينها، أن ديغول هو رجل الساعة الأوروبية في وجه الصلف والغرور الأميركيين.
في السابع من مارس (آذار) عام 1966، أخبر مؤسس الجمهورية الخامسة الولايات المتحدة رسمياً بانسحاب بلاده من الهيكل العسكري لحلف شمال الأطلسي.
في ذلك اليوم، سلم وزير خارجية ديغول كوف دي مورفيل رسالة شخصية موجهة من سيد الإليزيه إلى الرئيس الأميركي، يخبره فيها أن فرنسا تعتقد أن التغييرات التي حدثت منذ عام 1949 في أوروبا وآسيا وبقية العالم، وكذلك تطور وضعها وقواتها المسلحة، لم يعودا يبرران القرارات العسكرية المتخذة أثناء إبرام التحالف.
وفي رسالته هذه أعلن ديغول أن باريس تعتزم العودة إلى ممارسة السيادة الكاملة على أراضيها، مما يعوقه وجود قوات عسكرية أجنبية في فرنسا، واستخدامها مجالها الجوي، كذلك أبلغه ديغول بقرار باريس "عدم وضع قواعدها تحت تصرف الناتو بعد الآن".
خلال زيارته الصين في أبريل (نيسان) 2023، صدرت افتتاحية صحيفة "وول ستريت جورنال" بكلمات تقول: "اختار الرئيس الفرنسي لحظة مروعة للإعلان الديغولي بعد لقائه مع زعيم الحزب الشيوعي الصيني شي جينبينغ، لماذا؟ لأنه بحسب كاتب العمود يضعف ردع العدوان الصيني ويقوض الدعم الأميركي لأوروبا".
هنا يبدو التساؤل المثير للأميركيين "هل هناك رؤساء أوروبيون آخرون جاهزون للتماهي مع ديغول، أي الإعلان رسمياً عن الخروج من ’الناتو‘"؟
يقول بعض الداخل الأميركي إن هذا النوع من الرؤساء، وعلى رغم أنه غير موجود في الوقت الراهن، فإن معظم رؤساء الاتحاد الأوروبي، لم يعودوا يريدون دفع ثمن أمنهم من فقدان السيادة السياسية والاقتصادية، وهذا المنظور أكثر وضوحاً، في وقت يبدأ شبح الجنرال شارل ديغول "شارل الكبير" بالتجوال في أوروبا.
لا أحد من السياسيين الأوروبيين الحاليين مستعد بعد، مثل رئيس فرنسا الأسطوري، للإعلان عن الانسحاب من "الناتو" وإرسال جميع الدولارات على سفن الشحن إلى الولايات المتحدة، لكن هناك ما يكفي من تصريحات ماكرون المزعجة في الوقت الحالي، التي ستؤثر في واشنطن أسوأ من الأساليب القديمة لرئيس الجمهورية الخامسة.
من هذه التصريحات الحديث عن قوة مسلحة أوروبية، نعم قد لا تكون بديلاً بالمطلق عن "الناتو"، لكنها في الأقل خطوة في طريق الاستقلال في المدى الزمني المتوسط.
عن أوروبا وعودة دونالد ترمب
هل تبدو أوروبا اليوم على موعد مع أزمة هيكلية مع الولايات المتحدة الأميركية من جراء توجهات الرئيس ترمب؟
كتب جيمس ديتمر محرر الرأي في مجلة "بوليتيكو" الأميركية في نهاية يناير الماضي يقول "من كان يتصور أننا (كأميركيين) سنجد أنفسنا في ظروف تدفع فرنسا إلى تقديم الدعم العسكري للدنمارك، على أمل ردع التهديدات من رئيس الولايات المتحدة العدواني".
المثير في كلمات السيد ديتمر، هو أنه يبدو كمن يوجه سيلاً من الاتهامات لسيد البيت الأبيض، وكمن يجد أعذاراً للأوروبيين الذين وصفهم بأنهم كان عليهم أن ينضجوا منذ زمن طويل، والآن لم يعد هناك خيار آخر سوى المواجهة مع واشنطن.
واعتبر ديتمر أنه بعد أيام قليلة من بداية ولايته الثانية، التي ستكون بلا شك محطمة للعصر، أعاد ترمب أميركا إلى عصر التهديدات، والقوة الغاشمة، في ظل غياب أي قانون دولي راسخ لمحاولة السيطرة على العدوان بين الدول أو تشجيع الحل من خلال الدبلوماسية.
هل من صحة ما لحديث السيد ديتمر؟
يبدو أن ذلك كذلك، إذ إنه وقبل ثلاثة أعوام فقط أصيب العالم بالذهول إزاء الغزو الروسي الشامل لدولة ذات سيادة مجاورة، ولكن الآن يبدو أن ترمب، زعيم العالم الحر، والرئيس الروسي فلاديمير بوتين يتفقان على الرأي نفسه "القوة تصنع الحق"، والثابت أن أوروبا كانت قد تلقت كثيراً من التحذيرات في شأن ما قد يترتب على ولاية ترمب الثانية، ولكن وسط كثير من الحيرة والقلق والأماني، فشلت في وضع خطة من شأنها أن تقلل من تأثير رجل يبدو أنه يتلذذ باحتمال محاكاة الرئيس الأميركي السابق ويليام ماكينلي الذي رفع من التعريفات الجمركية لتعزيز الصناعات الأميركية، ووسع الأراضي الأميركية فاكتسب السيطرة على هاواي وبورتوريكو وغوام والفيليبين خلال فترة ولايته.
هل على الأوروبيين أن يخشوا من ترمب المحاكي لماكينلي لا سيما أنه جاء على ذكره في خطاب تنصيبه؟
الجواب يرتبط جوهرياً بفكرة عقيدة ترمب التي يتبناها في الداخل والخارج، وهي عقيدة مقطوعة من القماش نفسه الذي كان للرئيس ماكينلي، فما يريد الرئيس ينبغي أن يحصل عليه من دون قيود من الكونغرس أو اعتراضات قانونية، ومن هنا جاء التعليق التعسفي وغير القانوني على الأرجح للمساعدات الخارجية، والتجميد المفاجئ لبرامج المساعدات والقروض الفيدرالية، والفصل الجماعي للموظفين المدنيين، بما في ذلك المفتشون العموميون، ويتلخص الطموح في استبدال الخدمة المدنية المهنية، في الأقل في الرتب العليا، بنظام غنائم موسع بدلاً من ذلك.
في كثير من الأحيان يصور ترمب على أنه منعزل، وهو ليس كذلك، ففي أعماق قلبه كان دائماً من أصحاب المذهب التجاري، وترتبط نزعته التوسعية المفاجئة بطموحه إلى تعزيز القوة الاقتصادية الأميركية، وتتمتع غرينلاند بثروة معدنية هائلة غير مستغلة وتمر 40 في المئة من حركة الحاويات البحرية الأميركية عبر قناة بنما.
هذا التفكير يقودنا إلى الأمر الآخر الذي بدأ الأوروبيون يدركونه، وهو أن الخيارات المتاحة أمامهم صعبة، وسوف يكلف هذا أوروبا التي تعاني نقص السيولة بطريقة أو بأخرى، ويتعين على الاتحاد الأوروبي أن يبدأ في الاعتناء بنفسه، إذ لم تعد أميركا تدفع ثمن دفاعها بالطريقة التي اعتادت عليها من قبل، وسوف تدفعها نزعة ترمب التجارية إلى بذل كل ما في وسعه لضمان زيادة الولايات المتحدة ثرواتها من خلال بيع مزيد من السلع أكثر مما تشتريه من دول أخرى، على أن بعضهم يتساءل في الداخل الأوروبي "هل هذا الوضع موقت ويمكن أن ينتهي بعد انقضاء أربعة أعوام رئاسة ترمب؟".
المفارقة هنا لدى الأوروبيين هي أن التخطيط والتفكير في أن كل شيء سيعود إلى وضعه الطبيعي بعد أربعة أعوام لن يجدي نفعاً، ذلك أن هناك أرضية مشتركة ضئيلة بين المؤسسة الأوروبية والقوى القائمة في واشنطن الآن، فقد رحل منذ فترة طويلة أنصار العلاقات عبر الأطلسي في الإدارة الأولى لترمب أمثال مايك بومبيو وجيمس ماتيس وهربرت ماكماستر.
لقد بدأ عهد ترمب برمزية غير مقبولة، ذلك أنه عوضاً عن الحضور والمشاركة في اجتماع وزراء خارجية حلف الأطلسي لبدء العلاقة عبر الأطلسي على قدم وساق، أجرى وزير الخارجية الأميركي الجديد ماركو روبيو، ببساطة، مكالمة هاتفية، غالب الظن استقبلها الأوروبيون كإشارة إلى زمن الفوقية الإمبريالية الأميركية الجديدة.
هل ما تقدم مجرد تنظيرات سياسية؟ أم واقع حال وقراءات إحصائية تشي بأن هناك بالفعل فجوة كبيرة تتسع يوماً تلو الآخر من جراء التوجهات السياسية للرئيس ترمب؟
استطلاعات الرأي ومخاوف الأوروبيين
لعل الأرقام دائماً أصدق من الخطابات الإنشائية السياسية، ففي منتصف يناير الماضي، أظهر استطلاع للرأي أجري لمصلحة المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية وتقرير أوروبا "أكسفورد"، أن حلفاء الولايات المتحدة في أوروبا هم الأكثر تشاؤماً في شأن النظام العالمي المستقبلي تحت قيادة دونالد ترمب، وأظهر الاستطلاع أن معظم المواطنين في الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة يرون أن إدارة ترمب الثانية تشكل ضرراً للمواطنين الأوروبيين، الذين يمثلون حلفاء مؤكدين لواشنطن منذ ثمانية عقود وحتى الساعة.
من بين الشعوب الأخرى التي ظهر جلياً أنها تتحسب لولاية ترمب الجديدة، يأتي الكوريون الجنوبيون، والرابط بينهم وبين الأوروبيين هو أنهم حلفاء لأميركا، ويعتمدون على الولايات المتحدة في أمنهم، وهذا ما قاله المؤرخ بجامعة "أكسفورد" تيموثي غارتون آش، غير أن عدم القدرة على التنبؤ بتصرفات ترمب في السياسة الخارجية، بخاصة في تعامله مع حلف شمال الأطلسي والحرب في أوكرانيا، يثير بصورة متزايدة المخاوف في مختلف أنحاء أوروبا حول ما إذا كانت الولايات المتحدة ستدعم حلفاءها عبر الأطلسي في حالة نشوب صراع أم لا.
هل المخاوف لدى الأوروبيين من جهة الرئيس الأميركي تمتد إلى داخل دول الاتحاد عينها، أي إن ترمب وإدارته باتا حجر عثرة في طريق وحدة رأي وهدف المواطنين في داخل دول القارة العجوز كما أطلق عليها وزير الخارجية دونالد رامسفيلد ذات مرة؟
عند غارثون أن الخشية أن يكون تأثير ترمب ليس فقط تقسيم الغرب، بل تقسيم أوروبا، وهذا يشكل تحدياً كبيراً لعموم الأوروبيين، وحديث غارثون مؤكد هو انعكاس لبعض مشاهد العلاقات الأوروبية الأميركية، ومنها على سبيل المثال الموقفان الإيطالي والمجري.
الإيطالي يتمثل في العلاقة المتصاعدة بقوة بين ترمب ورئيسة وزراء إيطاليا جورجيا ميلوني التي تبدو قريبة جداً في توجهاتها الشعبوية من الاتجاهات الترمبية ذاتها، وقد كانت زيارتها مقر ترمب في فلوريدا داعياً إلى تخوف كثير من الأوروبيين لجهة شق عصا عضوية إيطاليا في الاتحاد الأوروبي، ومدى إمكانية تماهي موقعها وموضعها في القارة من سياسات الرئيس ترمب.
هنا يتذكر الأوروبيون بنوع خاص، كيف أن إيطاليا، وقبل تفشي جائحة "كوفيد-19"، كادت تصبح كعب أخيل في الجسد الأوروبي مما يمكن بكين من اختراق أوروبا.
أما المجري فليس خافياً على أحد العلاقة المتميزة للغاية بين رئيس وزراء المجر فيكتور أوربان وترمب، فقد أثنى الرئيس الأميركي كثيراً على أوربان، والأخير ساند ولا يزال سياسات ترمب الخارجية والداخلية كافة.
عطفاً على ذلك، فإن ما يزعج الدوائر الأوروبية التقليدية، لا سيما فرنسا وألمانيا وإيطاليا في أوربان، هو علاقته ومواقفه القريبة بصورة أو بأخرى من قيصر الكرملين فلاديمير بوتين، ورفضه الدعم المستمر والمستقر لأوكرانيا.
من هنا تبدو أوروبا بالفعل في حال خوف من سياسات ترمب المقبلة، ماذا عن المتوقع في المدى المنظور من صاحب البيت الأبيض؟
جمارك ترمب ومعدلات النمو الأوروبية
يبدو ترمب وكأنه "سيف ديموقليس" المصلت على رقاب العالم برمته من جراء فرض التعريفات الجمركية المرتفعة، تلك التي يرى أنها تعزز من الوضع الاقتصادي والمالي للولايات المتحدة الأميركية، فيما يرى متخصصو اقتصاد عالميون أن ترمب بذلك يغير ما يعرف بـ"قواعد اللعبة" الاقتصادية العالمية، مما يمكن أن يختصم من قدرات الاقتصاد الأميركي في مرحلة تالية.
في حملته الانتخابية اقترح ترمب فرض تعريفات جمركية تراوح ما بين 10 في المئة و20 في المئة على الواردات من جميع البلدان، مع تخصيص نسبة 60 في المئة للصين، وبمجرد انتخابه غرد ترمب قائلاً إن الاتحاد الأوروبي لا بد أن يشتري مزيداً من النفط والغاز الأميركيين، وإلا فإن التعريفات الجمركية ستكون على طول الطريق.
وفي الأيام الأولى من فبراير (شباط) الجاري هدد بتوسيع نطاق تعريفاته التجارية، مكرراً تحذيره من أن الاتحاد الأوروبي، وربما المملكة المتحدة، سيواجهان رسوماً جمركية، حتى مع اعترافه بأن الأميركيين قد يتحملون بعض العبء الاقتصادي الناجم عن حرب تجارية عالمية ثالثة.
مساء الأحد الثاني من فبراير قال الرئيس الأميركي إن الرسوم الجمركية الجديدة على الاتحاد الأوروبي ستحدث بالتأكيد، مكرراً شكاوى سابقة في شأن العجز التجاري الكبير بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، ورغبته في أن تستورد أوروبا مزيداً من السيارات والمنتجات الزراعية الأميركية.
والثابت أنه إذا كان هناك شيء واحد يعرفه الاتحاد الأوروبي عن دونالد ترمب، فهو أنه يحب الرسوم الجمركية، التي تعتبر بمثابة "الكلمة الأكثر جمالاً في القاموس" بالنسبة إليه.
هل يمكن أن تمثل هذه التعريفات نوعاً من الحرب التجارية المحتملة على الاتحاد الأوروبي؟
نعم هناك قلق عميق بالفعل من هذا التوجه، فقد بلغ حجم التجارة بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة 1.54 تريليون يورو (اليورو يعادل تقريباً 1.04 دولار)، من السلع والخدمات عام 2023، ويصف مسؤولو المفوضية هذه التجارة بأنها "متوازنة"، مشيرين إلى أن الاتحاد الأوروبي يشتري خدمات من الولايات المتحدة أكثر مما يبيع في المقابل لكن ترمب يميل إلى التركيز على التجارة في السلع إذ تعاني الولايات المتحدة عجزاً.
في هذا السياق يبدو أن فرض تعريفات جمركية بنسبة 10 في المئة من شأنه أن يلحق الضرر بالمصدرين الأوروبيين، وبخاصة صناعة السيارات المحاصرة في أوروبا، وإذا نفذ ترمب تهديداته بفرض تعريفات جمركية بنسبة 60 في المئة على السلع الصينية، فسيواجه الاتحاد الأوروبي ضغوطاً سياسية لحمله على اتباع المنهج نفسه، فضلاً عن فائض محتمل من السلع الصينية الرخيصة في الأسواق العالمية، وهو ما من شأنه أن يؤدي إلى انخفاض الأسعار وإلحاق الضرر بأعمال المنتجين الأوروبيين.
هنا اعتبر المدير السابق للمديرية العامة للتجارة في المفوضية الأوروبية إغناسيو غارسيا بيرسو أنه "يتعين على الاتحاد الأوروبي أن يكون مستعداً لجميع الاحتمالات"، وغارسيا، هو أيضاً مفاوض تجاري سابق بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، وزميل في مؤسسة "بروغل" البحثية، لا يعتقد أن الخطوة الأولى لترمب ستكون "شيئاً جذرياً"، مثل فرض تعريفات جمركية تراوح ما بين 10 و20 في المئة على جميع المجالات، بسبب العواقب المدمرة للغاية للاقتصاد الأميركي، ويتوقع متخصصو الاقتصاد أن تؤدي التعريفات الجمركية إلى زيادة أسعار المستهلك الأميركي وتقليص دخل الأسرة وحجم الاقتصاد.
هل يعني ذلك أن هذه تهديدات فقط من ترمب؟ وأنه لن يكون بحال من الأحوال قادراً على تنفيذها بالفعل؟
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
خيارات أوروبا الأخرى
يبدو أن الأوروبيين قد عزموا أمرهم على ألا يستسلموا لأهواء الرئيس الأميركي، ففي الـ20 من يناير الماضي، أعلنت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين عن رؤية متفائلة للاتحاد الأوروبي باعتباره قوة اقتصادية ثقيلة تتفوق على الولايات المتحدة في كثير من الجوانب الرئيسة، مما لا يسمح له بالتسول للحصول على معاملة تفضيلية في مواجهة أجندة "أميركا أولاً" التي يتبناها الرئيس الأميركي.
في أول خطاب سياسي لها منذ تنصيبه، تبنت فون دير لاين الانتقادات المباشرة للرئيس، لكنها أبرزت تناقضات واضحة وصارخة مع أميركا، بخاصة من خلال تأكيد التزام الاتحاد الأوروبي اتفاق باريس للمناخ الذي تتخلى عنه واشنطن.
في خطابها أضافت أن أوروبا لا تزال تتمتع "بأكبر قطاع تجاري في العالم، فضلاً عن متوسط عمر أطول، ومعايير اجتماعية وبيئية أعلى، وتفاوتات أقل من جميع منافسيها". وعلى النقيض من تكتيكات ترمب غير التقليدية، قالت إن "السوق الأوروبية الكبيرة والجذابة" كانت شريكاً يمكن التنبؤ به، وإنه "مع أوروبا فإن ما تتمناه هو ما تحصل عليه. نحن نلعب وفقاً للقواعد، صفقاتنا لا ترتبط بأي شروط خفية".
ويمكن لنا القول إن الذكاء السياسي الأوروبي القديم هو الذي يتفاوض مع ترمب اليوم، فبصورة عامة سعت فون دير لاين إلى إقامة تحالفات بدلاً من المواجهات، بخاصة مع أولئك الذين يعارضهم ترمب، وأكدت أن "أوروبا ستواصل السعي إلى التعاون، ليس فقط مع أصدقائنا الذين يتشاركون معنا الأفكار نفسها منذ فترة طويلة، بل مع أي دولة نشاركها مصالحها".
أما بالنسبة إلى المشكلات العديدة التي تواجهها أوروبا، والتي تراوح ما بين الحرب على عتبة بابها، والانحدار الصناعي وصعود اليمين المتطرف، فقد اختارت فون دير لاين عدم التطرق إليها.
لكن، ومع قرب تنفيذ ترمب تهديداته تجاه الاتحاد الأوروبي، بدت فون دير لاين في كلمتها أمام سفراء الاتحاد الأوروبي في بروكسل بتاريخ الرابع من الشهر الجاري، أشد حسماً وحزماً، وربما للمرة الأولى، تستخدم كلمات قاسية في مواجهة الحليف الذي لم تسمه، وإن كان الجميع يدرك ماهيته، ومن هو، "يجب أن نتخذ قرارات مجردة عن أي عاطفة، أو حنين لعالم ولى، بل بناءً على تقدير ما هو في الواقع مصلحتنا"، في كلمتها اعترفت كذلك بأن البعض قد لا يستهويه هذا الواقع الجديد الأكثر قسوة "والذي يعتمد بصورة كبرى على المنفعة المتبادلة".
هل حديث فون دير لاين هنا يشي بأن التحالف الأميركي - الأوروبي القديم على حد تعبيرها قد ولت أيامه؟
غالب الظن أن فون دير لاين لم ترد إغلاق الباب في مواجهة تحالف قديم، حقق منافع متبادلة للطرفين، لا سيما في ظل الأزمنة الصعبة، كما الحال في زمن الحرب الباردة، تلك التي استمرت أربعة عقود تقريباً، ولهذا أشارت إلى أن على أوروبا الدخول في مفاوضات صعبة مع الشركاء القدامى، أي مع الجانب الآخر من الأطلسي، وأن من المهم الحفاظ على التوازن الصحيح من أجل تجنب حرب تجارية لا تصب في صالح أحد.
واشنطن بين انسلاخ أوروبا ونهاية "الناتو"
ما الذي يتبقى في هذا الحديث المطول؟ الحقيقة الوحيدة المؤكدة هي أن التعريفات الجمركية غير العقلانية التي يمكن للرئيس ترمب أن يفرضها على الأوروبيين، ستكون مقدمة لنفور شعبوي من التحالف مع أميركا في الحال والاستقبال، مما سيدفعها إلى مراجعة مواقفها السياسية من بقية التكتلات العالمية.
البداية هنا ستكون مراجعة أوروبا أوراقها مع روسيا الاتحادية، إذ يتكشف لها يوماً تلو الآخر أنها دفعت أكلافاً عالية وغالية، من جراء اندفاعها وراء العم سام في مواقفه من أوكرانيا، ذلك أنه لا يخشى على العارفين ببواطن الأمور فيها، أنهم انساقوا وراء واشنطن لجهة التمدد بـ"الناتو" إلى حدود روسيا، ومحاولة إدخال أوكرانيا في الحلف مما انعكس سلباً عليهم.
ثانياً، سيراجع الأوروبيون مواقفهم من الصين، وربما يعودون إلى محاولة التماهي مع طريق الحرير الجديد، أي "مبادرة الطريق والحزام"، مما يجعل الأفق التجاري مفتوحاً بصورة كبيرة مع الجيران اللوجيستيين.
هنا يطفو شارل ديغول على السطح، مرة أخرى، من خلال رؤيته الأوراسية، أي التحالف الجغرافي والديموغرافي من المحيط الأطلسي غرباً إلى جبال الأورال شرقاً، ونشوء وارتقاء تحالف أممي جديد.
في هذا السياق ستمد أوروبا أطرافها، ومن جديد، مع دول "البريكس" و"البريكس بلس"، ثم تعود من جديد بسياسات جديدة لتبادل المنفعة مع القارة السمراء، وقد تقيم خططاً للتعامل مع أميركا اللاتينية.
أما الجانب الآخر الذي يمكن أن يتهدد واشنطن، فهو مستقبل حلف "الناتو"، فالشعوب، وليس الجيوش فحسب، تمشي على بطونها، وحال التضييق على الشعوب الأوروبية فلن تكون لتحالفات الجيوش في المدى الزمني المتوسط أهمية كبرى.