ملخص
تدفع التوقعات بأن إدارة ترمب ستكون أكثر تساهلاً مع عمليات الاندماج الضخمة نحو تضخم حجم الصفقات إلى مستويات قياسية، فقد تضمن عرض "باراماونت" لـ"وارنر" تمويلاً بقيمة 54 مليار دولار من "بنك أوف أميركا" و"سيتي غروب" وشركة الاستثمار "أبولو"
عاد عصر الصفقات العملاقة إلى الواجهة، وكذلك عاد شغف "وول ستريت" بالاقتراض الضخم، بعدما أتاحت طفرة الإقراض من البنوك وبعض صناديق الائتمان الخاصة تنفيذ سلسلة من الصفقات المثقلة بالديون، من بينها العرض العدائي الذي تقدمت به "باراماونت" للاستحواذ على "وارنر براذرز"، وصفقة الاستحواذ بالاقتراض على شركة الألعاب "إلكترونيك آرتس" في وقت سابق من هذا العام، وغيرها من العمليات الممولة بالدين.
وبحسب بيانات "ديلوجيك"، فقد سجلت صفقات الاندماج والاستحواذ الكبرى (تبلغ قيمتها 10 مليارات دولار أو أكثر) رقماً قياسياً هذا العام، وتشكل الديون الجزء الأكبر من كلف هذه الصفقات، مما يعني توزيعات ضخمة للمساهمين، لكنه يعني أيضاً أخطاراً إضافية لحملة السندات في وقت تظهر فيه أسواق الائتمان علامات على "تفاؤل مفرط".
ومع تنوع أدوات التمويل المتاحة، أصبح أمام المشترين المحتملين خيارات أوسع من أي وقت مضى عبر أسواق السندات والقروض المشتركة والائتمان الخاص، وقال مدير معلومات الصفقات في مجموعة بورصة لندن ماثيو تول، لـ"وول ستريت جورنال"، إن "هذه الرهانات الكبيرة والجريئة أصبحت أكثر جاذبية، والناس مستعدون لخوضها لأن التمويل متاح".
أيضاً، تدفع التوقعات بأن إدارة ترمب ستكون أكثر تساهلاً مع عمليات الاندماج الضخمة نحو تضخم حجم الصفقات إلى مستويات قياسية، فقد تضمن عرض "باراماونت" لـ"وارنر" تمويلاً بقيمة 54 مليار دولار من "بنك أوف أميركا" و"سيتي غروب" وشركة الاستثمار "أبولو"، أما عرض "نتفليكس"، فبلغ حجمه 59 مليار دولار، بدعم من بنوك "ويلز فارغو" و"بي أن بي باريبا" و"إتش أس بي سي".
توقعات بارتفاع عبء الدين إذا استمرت العروض
وقد أدت الإفصاحات المتعلقة بعمليات التمويل هذه إلى موجة تداول مكثفة في سندات "وارنر"، إذ جرى تداول نحو 450 مليون دولار، أول من أمس الإثنين، عقب إعلان "باراماونت" عرضها العدائي رسمياً.
وانخفضت أسعار سندات الشركة بنحو خمسة في المئة خلال ديسمبر (كانون الأول) الجاري، خصوصاً أن عرض "باراماونت" تضمن اعتماداً أكبر على الديون مما توقعه المحللون، وفقاً لمديري صناديق يمتلكون هذه السندات.
ومن المتوقع أن يرتفع عبء الدين إذا استمرت حرب العروض، ويثير ذلك قلقاً خاصاً لأن الاقتراض المفرط لعب دوراً كبيراً في مشكلات "وارنر" المالية السابقة، بحسب مديري الصناديق، فقد تشكلت الشركة عام 2022 عندما فصلت "أي تي أند تي" وحدة "وارنر ميديا" لدمجها مع "ديسكفري"، وهي صفقة حملت الشركة الناتجة ديوناً بنحو 50 مليار دولار، وعملت "وارنر" منذ ذلك الحين على خفض ديونها عبر تقليص الكلف وتوجيه التدفقات النقدية نحو سداد الالتزامات.
والآن، قد يؤدي اندماج مع باراماونت إلى إثقال موازنتها مجدداً، لكن مسؤولي "باراماونت" قالوا خلال اتصال للإعلان عن العرض العدائي إنهم يعتزمون تحويل الكيان المدمج "وارنر-باراماونت" إلى شركة ذات تصنيف ائتماني استثماري خلال عامين عبر تحقيق مليارات الدولارات من وفورات الكلفة.
ومع ذلك يشير مستثمرو الديون إلى أن الصفقات نادراً ما تجري وفق الخطط، خصوصاً في ما يتعلق بحجم وفورات الكلف المتوقعة.
وقال مدير في وكالة "أس أند بي غلوبال" المتخصص في تقييم شركات الإعلام والترفيه جواد حسين، للصحيفة "بالنظر إلى الماضي، لم تكن صفقات الاستحواذ في قطاع الإعلام جيدة للغاية"، وكانت "أس أند بي" تتوقع رفع تصنيف "وارنر" عند إعلان صفقة الاندماج مع "ديسكفري"، لكنها اضطرت إلى خفضه لاحقاً بعد فشل الشركة المدمجة في تحقيق التوقعات، ومن المؤكد أن صفقات الاستحواذ هذه ستضيف إلى جبل الديون الذي أصبح بالفعل كبيراً بما يكفي ليجعل بعض مستثمري السندات يشعرون بالقلق.
"وول ستريت" تتجاهل مخاوف فقاعة الذكاء الاصطناعي
في سياق قريب الصلة، سجلت سوق الأسهم الأميركية أرقاماً قياسية عدة هذا العام، متجاوزة تأثير الرسوم الجمركية ومؤشرات على تراجع إنفاق المستهلكين الأميركيين، وتعافت من هبوطها الأخير بصورة كبيرة بفضل الزخم الذي تولده تقنيات الذكاء الاصطناعي.
فقد قفزت أسعار أسهم بعض شركات الذكاء الاصطناعي بصورة حادة خلال فترة زمنية قصيرة، فيما تنفق شركات التكنولوجيا مليارات الدولارات لبناء مراكز بيانات ومصانع رقائق لدعم هذا النمو السريع.
وعلى رغم أن المستثمرين والمحللين يرون أسباباً منطقية تبرر هذا التفاؤل، الذي دفع مؤشر "ستاندرد أند بورز 500" إلى الارتفاع بنحو 50 في المئة خلال العامين الماضيين، فإن البعض يحذر من أن التقييمات الحالية لا تزال قائمة على رهانات كبيرة حول المستقبل.
وقد واجهت سوق الأسهم لحظة مشابهة قبل 29 عاماً، عندما حذر ألان غرينسبان الاقتصادي الأميركي الذي شغل منصب رئيس مجلس المحافظين للنظام الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي الأميركي) في الولايات المتحدة في الفترة من 1987 إلى 2006 من "الوفرة غير العقلانية" التي غذّت فقاعة الإنترنت.
ففي ذلك الوقت، كان المؤشر قد ارتفع بأكثر من 60 في المئة خلال العامين اللذين سبقا خطابه، واليوم، يعود صناع السياسات لقرع جرس الإنذار.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وقال محافظ بنك إنجلترا (البنك المركزي البريطاني) أندرو بيلي، في خطاب حديث "وفق بعض المقاييس، فإن تقييمات الأسهم في الولايات المتحدة تقترب من مستويات لم نشهدها منذ فقاعة الدوت كوم".
ومع ذلك، حين أصدر غرينسبان تحذيره، كانت فقاعة الإنترنت قد بدأت للتو بالانتفاخ، فقد ارتفع المؤشر بعد ذلك بما يزيد على 100 في المئة، قبل أن يبلغ الذروة في مارس (آذار) 2000، لينهار لاحقاً خلال العامين التاليين، فاقداً نصف قيمته، ويعود إلى المستوى الذي كان عليه تقريباً عند إطلاق التحذير.
واليوم، يخشى بعض المستثمرين أن تكون السوق في وضع يشبه عام 1999، قبيل الانهيار، لكن كثيرين يعتقدون أننا أقرب إلى عام 1996، وأن الخروج من السوق الآن قد يعني التفريط بمكاسب كبيرة مقبلة.
وقال رئيس استراتيجيات الاستثمار العالمي في بنك "ويلز فاغو" بول كريستوفر، لصحيفة "نيويورك تايمز" "الوضع غير مؤكد لكنه لا يزال مبكراً، نحن بالتأكيد لسنا في 1999".
الذكاء الاصطناعي مقابل الدوت كوم
ويرى متعاملون ومحللون وجود اختلافات جوهرية بين الحماسة الحالية تجاه الذكاء الاصطناعي وفقاعة التكنولوجيا قبل 25 عاماً.
وإحدى طرق المقارنة هي النظر إلى مكرر الربحية (ناتج قسمة سعر السهم على أرباح الشركة وكلما ارتفع الرقم، ارتفعت درجة الرهان على المستقبل)، ومكرر الربحية الحالي للمؤشر أعلى من المعتاد، إذ بلغ متوسطه خلال العقد المنصرم نحو 22، لكنه الآن يقارب 27، مقترباً من مستوى 29 الذي سجله قبيل انفجار فقاعة "الدوت كوم".
وقال رئيس الأسهم العالمية في "آر بي سي كابيتال ماركتس" جيمس ماسيريو، للصحيفة "من الصعب على الأسهم تحقيق أداء جيد عند بلوغ هذه التقييمات".
لكن الفارق الأهم هو أن الشركات التي تقود الارتفاع اليوم تحقق أرباحاً ضخمة بالفعل.
في التسعينيات وبداية الألفية، كانت كثير من الشركات التي رفعت السوق بالكاد تربح، إن كانت تربح أصلاً، مما أدى إلى مكررات ربحية خيالية.
وكانت "سيسكو سيستمز" أكبر شركة في مؤشر "ستاندرد أند بورز" عندما انفجرت الفقاعة في مارس 2000، وكانت قد وصلت إلى مكرر ربحية تجاوز 200، ما يعني أن المستثمر سيحتاج قرنين لاستعادة أمواله إن ظلت الأرباح كما هي.
ويعكس المكرر المرتفع رهان المستثمرين على نمو ضخم في المستقبل، ولكن هذا النمو لم يتحقق لـ"سيسكو"، إذ ارتفعت أرباحها من 15 سنتاً للسهم في 1996 إلى 36 سنتاً في 2000، وهو نمو لا يقارن بالقفزة الهائلة في سعر سهمها، واليوم، تبلغ قيمتها السوقية نحو 300 مليار دولار، أقل مما كانت عليه قبل 25 عاماً.
ليست مجرد أوهام وردية
أما "إنفيديا" وهي أكبر شركة في مؤشر "ستاندرد أند بورز" حالياً، وأول شركة تصل قيمتها إلى 5 تريليونات دولار فقد غازلت هي الأخرى مع تقييمات مرتفعة للغاية. فقد بلغ مكرر ربحيتها ذروته في 2023 عند أكثر من 200 خلال موجة الحماسة الأولى للذكاء الاصطناعي بعد إطلاق "تشات جي بي تي"، لكنه تراجع اليوم إلى نحو 45، بل إلى 25 إذا احتُسب بناءً على الأرباح المتوقعة، وقال أليكس ألتمن من "باركليز"، إن قدرة "إنفيديا" على تلبية توقعات الأرباح الباهظة كانت مذهلة".
وقد ارتفع سهمها نحو 1000 في المئة خلال ثلاث سنوات، لكن أرباحها ارتفعت بسرعة أكبر، مما يجعل سهمها اليوم أرخص نسبياً مما كان عليه قبل ثلاث سنوات.
وعلى رغم ذلك، يبقى الطريق غير خالٍ من الأخطار، وقال ماسيريو "هناك دائماً من يقول إن هذه المرة مختلفة، لكن الحقيقة أن الجليد أكثر سماكة تحت أسهم 2025 مقارنة ببداية الألفية".
وعادة ما تبدأ الفقاعات بأفكار منطقية، لكنها تنفصل عن الواقع تدريجاً، حتى بعد الانهيار، يبقى الأساس صحيحاً فالإنترنت لم يختف بعد فقاعة 2000.
وعلى رغم تراجع القلق بشأن الشركات الكبرى، فإن المخاوف تتعلق بالشركات غير المربحة التي تحصل على تمويل ضخم، والشركات التي تقترض بكثافة لتمويل مشاريع الذكاء الاصطناعي، إضافة إلى تركّز السوق في عدد قليل من الشركات العملاقة.
هذه المخاوف أسهمت في موجة بيع الشهر الماضي، دفعت المستثمرين للخروج من الأسهم الكبرى في الذكاء الاصطناعي باتجاه قطاعات أخرى.
فقد خسرت "أوراكل" ثلث قيمتها بعد إعلانها أنها ستعتمد على الاقتراض لتمويل توسعها في الذكاء الاصطناعي، إذ اقترضت 18 مليار دولار في سبتمبر (أيلول) الماضي، ويتوقع محللون أن يتضخم دينها من 100 مليار دولار إلى 300 مليار بحلول 2030، في حال لم تتحقق توقعات الطلب على الذكاء الاصطناعي.
أما "كور ويف"، شركة الحوسبة السحابية المتخصصة في الذكاء الاصطناعي، فانخفض سهمها 42 في المئة منذ أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، وتعتمد الشركة على عقود ضخمة مع "إنفيديا" و "مايكروسوفت"، لكنها ليست مربحة بعد، وتحمل مستويات عالية من الديون.
وقال ماسيريو "هناك أخطار نظامية بسبب التشابك بين هذه الشركات، والاعتماد الكبير على الاقتراض، لن تكون كلها رابحة، وبعضها سيخسر، والسؤال كيف ستنعكس خسائره على شركات أخرى؟".
وتوجد مخاوف أيضاً من ضغوط تنافسية جديدة، ومن احتمال ارتفاع التضخم العام المقبل، مما قد يدفع الاحتياطي الفيدرالي لإبقاء الفائدة مرتفعة، إضافة إلى تأخيرات محتملة في بناء البنية التحتية اللازمة لتشغيل تقنيات الذكاء الاصطناعي، وخصوصاً تأمين الطاقة.
وبالتالي فإن توقيت انفجار الفقاعة (إن حدث) يبقى صعب التنبؤ، فهبوط الشهر الماضي تبعته موجة صعود جديدة بدعم نتائج قوية وتوقعات بتخفيضات إضافية في الفائدة.