ملخص
تُظهر أحدث البيانات أن المملكة المتحدة تشهد موجة نزوح شبابي غير مسبوقة، إذ يغادر عشرات الآلاف من أبناء جيل Z بحثاً عن فرص معيشية أفضل خارج البلاد، بينما تبقى تهديدات الأغنياء بالرحيل مجرد كلام. وتتجه الغالبية إلى وجهات توفر جودة حياة أعلى وتكاليف أقل وفرص عمل أوسع، مما ينذر بتفاقم "هجرة العقول" وخسارة بريطانيا لجيلها الأكثر إنتاجاً.
شهدت المملكة المتحدة كثيراً من الجدل حول تهديد أغنى سكانها بالرحيل عن البلاد (عادة بسبب الاقتراحات بزيادة بسيطة في الضرائب المفروضة على ثرواتهم الضخمة)، وعلى رغم كل ما يقوله أصحاب الملايين عن نيتهم المغادرة لكن يبدو أنهم ليسوا من يترجم أقوالهم إلى أفعال، فالواقع أن الشباب هم الذين باتوا "يرحلون بهدوء" بأعداد كبيرة عن المملكة المتحدة وفق أرقام جديدة صادرة عن مكتب الإحصاءات الوطنية، فقد تراجع صافي الهجرة، أي عدد الأشخاص القادمين إلى المملكة المتحدة في مقابل عدد المغادرين، بمقدار 445 ألف شخص بين يونيو (حزيران) 2024 ويونيو 2025، وخلال تلك الأشهر الـ 12 غادر 693 ألف شخص الجزر البريطانية، وهو أكبر رقم يُسجل منذ قرن.
وكان أبناء جيل Z الأكثر مغادرة للبلاد، فحين جرى تفصيل الأرقام بحسب الفئة العمرية ظهر أن 87 ألفاً من البريطانيين الذين تتراوح أعمارهم ما بين 16 و24 سنة غادروا، إضافة إلى 87 ألفاً آخرين بين 25 و34 سنة، خلال الأشهر الـ 12 حتى مارس (آذار) الماضي، وهي حصيلة تفوق بفارق كبير أية فئة عمرية أخرى، وقد وُصف هذا الخروج الواسع بـ "هجرة العقول"، باعتباره دليلاً على جيل يرى أن الفرص الأجدى أصبحت في أماكن أخرى.
في مطلع هذا العام قال راي أمجد (24 سنة) والمتخرج في جامعة كامبريدج لـ "اندبندنت"، إنه قرر الهجرة إلى اليابان بعدما زار 20 بلداً وبدأ يستوعب مشكلات بلده الأم، من الجرائم الصغيرة وإضرابات القطار إلى ارتفاع أسعار المساكن وتهالك الخدمات العامة، وطبعاً الطقس البريطاني الغني عن التعريف، ويقول "كنت أدفع عشرات الآلاف كضرائب ثم يأتي أحدهم ليسرق هاتفي من يدي في الشارع، لماذا أدفع كل تلك الضرائب إذاً؟".
وإضافة إلى ذلك اعتبر أمجد أن الطموح محدود في المملكة المتحدة، لذلك استنتج أن مغادرته الوظيفة المربحة التي شغلها بعد التخرج لمصلحة تأسيس عمله الخاص في الخارج سيكون الخيار الأذكى.
أما مولي* (27 سنة) فقد انتهزت فرصة الانتقال إلى ألمانيا في إجازة طويلة من العمل بعدما تصاعد شعورها بخيبة الأمل من المملكة المتحدة ولندن بخاصة، وتقول إن "الرغبة في الرحيل كانت دافعاً كبيراً بالتأكيد، فقد كنت أعاني إنهاكاً تاماً في كل جانب من حياتي قبل المغادرة"، وقد جاء ذلك جزئياً بسبب كُلف المعيشة الباهظة، وجزئياً بسبب ما تصفه بأنه مناخ سياسي سام، مضيفة "يبدو أن الجميع غاضب ومحبط ويفرغ غضبه في الآخرين، ويمكنني تماماً أن أفهم لماذا يقول الشباب حسناً، كفى، أنا خارج من هذا كله".
من الواضح إذاً لماذا يقرر الجيل Z الذي سئم من هذا الوضع الهرب سريعاً بحثاً عن حياة أفضل، ولكن ما هي أهم الأماكن التي يرغب في الانتقال إليها؟
تبدو أستراليا في مقدم الوجهات الأكثر جذباً للراغبين في الهجرة، فإضافة إلى الشمس الوفيرة ونمط الحياة الهادئ المفعم بثقافة ركوب الأمواج، كما تقدمه لنا برامج مثل "هوم أند أواي" Home and Away، تجذب أستراليا البريطانيين تحديداً بسبب تعديلها قوانين تأشيرة العمل أثناء العطلة، ففي عام 2023 وسّعت نطاق معايير الأهلية للتمتع بهذه التأشيرة لتشمل حملة الجواز البريطاني الذين تتراوح أعمارهم ما بين 18 و35 سنة (فيما كان الحد الأقصى في السابق 30 سنة)، ويمكن لهؤلاء التقدم بطلب التأشيرة الصالحة لعام كامل ثلاث مرات، مما يتيح لهم البقاء في البلاد ثلاثة أعوام، فيما أُلغي شرط سابق للحصول على التأشيرة كان يتطلب منهم العمل في المجال الزراعي 88 يوماً.
وكان البريطانيون أسرع الجنسيات نمواً في الإقبال على هذه التأشيرات بين عامي 2024 و2025، إذ ازداد طلبهم عليها بنسبة 80 في المئة بين عام وآخر، وكانت كايتي ستريك واحدة من هؤلاء البريطانيين الذين انتقلوا إلى الخارج، فقد غادرت لندن إلى سيدني بعد شهر من عيد ميلادها الـ 31 في سبتمبر (أيلول) الماضي، وكتبت ستريك في "اندبندنت"، "لم أعد قادرة على تحمل كلفة الرهن العقاري ولا حتى مستوى معيشة جيد في الأحياء التي أحبها فعلاً في المدينة، وفكرت أنه من الأفضل لي أن أعيش في مكان مشمس وأجني من الحياة تجارب أجمل (نعم كل الصور النمطية عن ركوب العبّارة للذهاب إلى العمل والسباحة مع السلاحف خلال استراحة الغداء صحيحة)".
وانتقل صديق لها للأسباب نفسها تقريباً، إذ قال إن ما دفعه هو شعوره بأن أستراليا أكثر أمناً وتتمتع بمعدلات جريمة منخفضة، ويشير كثر آخرون إلى الرواتب الأفضل وتحسن التوازن بين العمل والحياة، باعتبارهما عاملين رئيسين يجذبان الشباب إلى هناك.
يبدو أن الجميع غاضب ومحبط إلى حد باتوا يفرغون فيه غضبهم على بعضهم بعضاً
وعلى مقربة من بريطانيا تجتذب بعض الدول الأوروبية المواهب الشابة، على رغم أن "بريكست" جعل العيش والعمل في دول الاتحاد الأوروبي أكثر صعوبة، وتظل إسبانيا وإيرلندا في صدارة الوجهات المفضلة، إذ تستضيف الأولى نحو 400 ألف مواطن بريطاني يجذبهم مناخها المتوسطي وكُلف المعيشة المنخفضة، ومنذ عام 2023 تسمح إسبانيا للعاملين عن بعد بالحصول على إقامة من خلال "تأشيرة الرُحل الرقميين"، شرط أن يثبت المتقدم أنه يعمل عن بُعد بشكل ثابت وأن يمتلك تأميناً صحياً سارياً، وأن يحصل على دخل لا يقل عن 2700 يورو (2370 جنيه إسترليني) شهرياً، وأن يقدم ما يثبت ممارسته العمل عن بعد لمدة ثلاثة أشهر في الأقل.
وبرزت البرتغال أيضاً كوجهة مفضلة، ولا سيما لشبونة التي أصبحت تُسوّق نفسها كملاذ مثالي للرحّل الرقميين، فقد تضاعف عدد المقيمين الأجانب في البلاد أكثر من ثلاث مرات خلال الأعوام الخمسة الماضية، مما خلق مجتمعاً واسعاً من الوافدين الجدد، ويمكن للشباب الذين يرغبون في الإقامة أكثر من 90 يوماً ضمن فترة 180 يوماً التقدم لعدد من التأشيرات، بينها تأشيرة الشركات الناشئة لرواد الأعمال الذين يطورون مشاريع مبتكرة، وتأشيرة D8 الخاصة بالعاملين عن بُعد.
غير أن تدفق هذا العدد الكبير من الأجانب أدى إلى ارتفاع أسعار السكن وتغير طابع أحياء عدة مما أثار استياء السكان المحليين، فقياساً إلى نسبة أسعار المنازل إلى الدخل، تتصدر لشبونة الآن القوائم الأوروبية للأماكن التي يتعذر فيها تحمل كُلف السكن، مما يدفع كثيرين إلى تفضيل بورتو بدلاً منها.
وبالنسبة إلى مولي فقد كانت برلين الوجهة التي لفتت انتباهها حين قررت الحصول على إجازة طويلة من عملها، وتقول "إنها ببساطة واحدة من أروع المدن في العالم، فهي مدينة مفعمة بالإبداع والفن ومنفتحة جداً ورخيصة نسبياً إذا أخذنا في الاعتبار أنها مدينة كبرى، ومع ذلك تحتفظ بثقافة غنية ومشهد واسع من الفعاليات". وتضيف أنها تتمتع في برلين بجودة حياة أفضل بكثير، سواء من حيث الطعام أو وسائل النقل العام أو الخدمات العامة، فضلاً عن ثقافة المقاهي الليلية التي تجعل التواصل الاجتماعي والتعرف إلى أناس جدد أمراً أسهل.
ثم تظهر أيضاً المراكز التقنية الأوروبية الناشئة التي تجذب أفضل وألمع الكفاءات لدينا، وقد برزت بولندا خلال الأعوام القليلة الماضية في هذا الإطار، مما ولّد "هجرة عقول" عكسية، حيث عاد مطورو البرمجيات البولنديون المقيمون في بريطانيا لموطنهم لكسب مزيد من المال، وقد بلغ عدد المواطنين البريطانيين الذين انضموا إليهم أكثر من 30 ألفاً خلال العقد الماضي.
وتُعتبر ثيسالونيكي منصة ابتكار ناشئة في شمال اليونان، حتى إن بعض الأوساط باتت تطلق عليها لقب "شاطئ السيليكون"، فجامعات المنطقة ترفد السوق بمواهب تقنية جديدة، بينما تدعم مبادرات مثل OK!Thess و Thessaloniki Innovation Zone الشركات الناشئة المحلية، ويمكن للمواطنين من خارج الاتحاد الأوروبي أو المنطقة الاقتصادية الأوروبية التقدم بطلب للحصول على تأشيرة الرحالة الرقميين التي تسمح لهم بالاستقرار والعمل في اليونان، شرط أن يكون عملاؤهم أو أصحاب عملهم موجودين خارج البلاد وأن يكسبوا ما لا يقل عن 3500 يورو شهرياً (بعد اقتطاع الضرائب)، وتُعرف هذه التأشيرة باسم "تأشيرة العمل الحر" وتسمح لحاملها بالبقاء في اليونان مدة تصل إلى عام واحد والعمل عن بُعد خلال تلك الفترة.
ومن الأماكن التي يبدو أنها تجذب الجيل الجديد أيضاً الإمارات العربية المتحدة، فباعتبارها الخلفية البصرية لعدد لا يحصى من منشورات المؤثرين على وسائل التواصل الاجتماعي، أصبحت دبي تحديداً الوجهة الحلم للراغبين في الانتقال إلى الخارج، وقد لاحظ ديفيد ليتل، أحد الشركاء في شركة إدارة الثروات إيفلين بارتنرز، "اتجاهاً متزايداً بين المهنيين اليافعين، وغالبهم في أوائل العشرينيات ومن أبناء عملاء الشركة، الذين يختارون الهجرة، مع بروز دبي كإحدى الوجهات الأكثر جذباً لهم"، وقال لصحيفة "ذي ناشونال" إن الضغوط الاقتصادية في المملكة المتحدة، مثل ارتفاع معدلات البطالة والضرائب وركود الأجور وارتفاع كُلف المعيشة، هي التي "تدفع باتجاه هذا التحول".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في المقابل وصف دبي بأنها نمط حياة لامع ومصمم ليبدو مثالياً على "إنستغرام"، إذ إن الدخل فيها معفى من الضرائب، ومزايا تشمل السكن والتأمين الصحي، وكل ذلك تحت شمس مشرقة وسماء صافية، مصحوباً بلقطات فاخرة عند أحواض السباحة ومشاهد التسوق الراقي، مضيفاً "ليس من الصعب فهم سبب تحولها إلى خيار أول للخريجين الباحثين عن الفرص".
من جهته لاحظ رئيس "شركة هنلي وشركاه في المملكة المتحدة، ستيوارت واكيلينج، والتي تساعد أصحاب الثروات الكبيرة في الانتقال من بلد إلى آخر، زيادة في الطلب، فقد تحولت الإمارات من مكان لا يحظى باهتمام يُذكر من قبل العملاء البريطانيين الراغبين في الانتقال إلى "الخيار الأول هذا العام"، وفي الشهر الذي سبق إعلان الموازنة البريطانية الأخيرة سُجلت زيادة بنسبة 342 في المئة في عمليات البحث عبر الإنترنت عن "الانتقال إلى دبي"، وفقاً لتحليل نشرته "منصة مورتا للبناء وإدارة المشاريع".
من الأفضل لي أن أعيش في مكان مشمس وأجني من الحياة تجارب أجمل
لكن الصورة ليست وردية تماماً، فملف حقوق الإنسان في الإمارات بعيد جداً مما هو عليه في الدول الغربية، ووفق "منظمة العفو الدولية" تواصل السلطات تجريم حرية التعبير والتجمع السلمي، فيما تعرّض كثير من الغربيين على مر الأعوام إلى الاعتقال أو السجن أو الترحيل بسبب مخالفتهم القواعد الثقافية في البلاد، فالتلفظ بالشتائم أو القيام بإيماءات مسيئة، بما في ذلك عبر الإنترنت، يُعد أمراً غير قانوني، وكذلك نشر أي محتوى يعتبر ناقداً أو ساخراً من الحكومة، كما تحظر القوانين التقبيل في الأماكن العامة وشرب الكحول أو الظهور في حال سُكر في الأماكن العامة، وتُعد العلاقات الجنسية المثلية غير قانونية في الإمارات، كما أن الزواج بين أفراد الجنس الواحد لا يزال غير معترف به.
ومهما تكن الوجهات التي يقصدها الشباب البريطانيون فإنهم، ما لم تتغير الأوضاع، قد لا يعودون نهائياً، وكما تقول مولي "لا يعني هذا أن كل دولة أوروبية أفضل بالضرورة، لكنني أفهم تماماً لماذا يرغب الشباب في التجربة، فالوضع في المملكة المتحدة حالياً لا يبدو مشجعاً ولا يساعدهم في التقدم".
* جرى تغيير بعض الأسماء
© The Independent