ملخص
العالم يدخل مرحلة اضطراب عميق مع تراجع النظام الليبرالي وصعود قوى جديدة في الشرق والجنوب، فيما يتنافس الجميع على صياغة نظام عالمي جديد. الأعوام المقبلة حاسمة: إما تعاون يستند إلى مؤسسات مُصلحة وقيم مشتركة، أو تعددية أقطاب فوضوية. ونجاح الغرب يعتمد على التخلي عن الغطرسة وإشراك الجنوب العالمي واعتماد واقعية تقوم على القيم لبناء توازن جديد قادر على مواجهة تحديات القرن الـ21.
لقد تغير العالم خلال الأعوام الأربعة الماضية أكثر مما تغير في الـ30 عاماً التي سبقتها. فموجزات أخبارنا تعج بالصراعات والمآسي. روسيا تقصف أوكرانيا، والشرق الأوسط يغلي بالاضطرابات، والحروب تشتعل في أفريقيا. ومع تصاعد الصراعات، يبدو أن الديمقراطيات في حال تراجع. لقد ولت حقبة ما بعد الحرب الباردة. فعلى رغم الآمال التي أعقبت سقوط جدار برلين، لم يتوحد العالم في تبني الديمقراطية ورأسمالية السوق. في الواقع، إن العوامل التي كان من المفترض أن توحد العالم، أي التجارة والطاقة والتكنولوجيا والمعلومات، أصبحت اليوم تمزقه.
نحن نعيش في عالم جديد تسوده الفوضى. فالنظام الليبرالي القائم على القواعد الذي نشأ بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، يلفظ أنفاسه الأخيرة. والمنافسة المتعددة الأقطاب تحل تدريجاً محل التعاون المتعدد الأطراف. ويبدو أن الصفقات الانتهازية باتت أهم من الدفاع عن القواعد الدولية. وعادت المنافسة بين القوى العظمى، وأصبحت المنافسة بين الصين والولايات المتحدة تحدد الإطار العام للجغرافيا السياسية. لكنها ليست القوة الوحيدة التي تعيد تشكيل النظام العالمي. فالقوى المتوسطة الناشئة، بما في ذلك البرازيل والهند والمكسيك ونيجيريا والسعودية وجنوب أفريقيا وتركيا، أصبحت قوى مؤثرة في تغيير قواعد اللعبة. فهي تمتلك مجتمعة الموارد الاقتصادية والثقل الجيوسياسي الكفيلين بترجيح كفة النظام العالمي نحو الاستقرار أو نحو مزيد من الاضطراب. كما أن لديها سبباً للمطالبة بالتغيير، إذ إن النظام المتعدد الأطراف الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية لم يتكيف بما يكفي ليعكس موقعها في العالم أو يمنحها الدور الذي تستحقه. ويتشكل الآن صراع ثلاثي بين ما أسميه "الغرب العالمي" و"الشرق العالمي" و"الجنوب العالمي". ومن خلال اختياره بين تعزيز النظام المتعدد الأطراف أو السعي إلى عالم متعدد الأقطاب، سيقرر "الجنوب العالمي" ما إذا كانت الجغرافيا السياسية خلال الحقبة المقبلة ستميل نحو التعاون أو التشرذم أو الهيمنة.
ومن المرجح أن تحدد الأعوام الخمسة إلى الـ10 المقبلة ملامح النظام العالمي لعقود تالية. فبمجرد أن يستقر نظام ما، يميل إلى البقاء لفترة من الوقت. فبعد الحرب العالمية الأولى، دام النظام الجديد عقدين من الزمن. وبعد الحرب العالمية الثانية، استمر النظام الذي أعقب أربعة عقود. والآن، بعد 30 عاماً على نهاية الحرب الباردة، يظهر مجدداً نظام جديد. وهذه هي الفرصة الأخيرة للدول الغربية كي تقنع بقية العالم بأنها قادرة على الحوار بدلاً من الخطاب الأحادي، وعلى الثبات بدلاً من ازدواجية المعايير، وعلى التعاون بدلاً من الهيمنة. فإذا اختارت الدول التنافس على حساب التعاون، فإن عالماً من الصراعات الأشد وطأة ينتظرنا.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي الواقع، لكل دولة دور مؤثر تمارسه، حتى الدول الصغيرة مثل بلدي، فنلندا. والمفتاح هو في محاولة تعظيم التأثير، والدفع نحو الحلول باستخدام الأدوات المتاحة. بالنسبة إلي، يعني هذا أن أبذل كل ما في وسعي للحفاظ على النظام العالمي الليبرالي، حتى لو لم يكُن هذا النظام رائجاً في الوقت الحالي. فالمؤسسات والمعايير الدولية توفر إطاراً للتعاون العالمي. ويجب تحديثها وإصلاحها لتُظهر على نحو أفضل القوة الاقتصادية والسياسية المتنامية للجنوب العالمي والشرق العالمي. وكثيراً ما تحدث القادة الغربيون طويلاً عن ضرورة إصلاح المؤسسات المتعددة الأطراف مثل الأمم المتحدة. والآن، يجب أن ننجز ذلك، بدءاً بإعادة موازنة السلطة داخل الأمم المتحدة وغيرها من الهيئات الدولية مثل منظمة التجارة العالمية وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي. ومن دون هذه التغييرات، سينهار النظام المتعدد الأطراف بصيغته الحالية. هذا النظام ليس مثالياً، فهو يحوي عيوباً متأصلة ولا يمكنه على الإطلاق أن يمثل العالم بدقة تامة. لكن البدائل أسوأ بكثير: مجالات نفوذ وفوضى واضطراب.
التاريخ لم يتوقف
بدأتُ دراسة العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة فورمان في الولايات المتحدة عام 1989. في ذلك الخريف، سقط جدار برلين. وبعد فترة وجيزة، توحدت ألمانيا، وتحررت أوروبا الوسطى والشرقية من قيود الشيوعية، وتحول العالم الذي كان ثنائي القطب، يتصارع فيه الاتحاد السوفياتي الشيوعي والاستبدادي مع الولايات المتحدة الرأسمالية والديمقراطية، إلى عالم أحادي القطب. وأصبحت الولايات المتحدة القوة العظمى بلا منازع. وانتصر النظام الدولي الليبرالي.
كنت في قمة السعادة آنذاك. بدا لي، كما بدا لكثرٍ غيري حينذاك، أننا نقف على أعتاب عصر أكثر إشراقاً. ووصف عالم السياسة فرانسيس فوكوياما تلك اللحظة بأنها "نهاية التاريخ"، ولم أكُن الوحيد الذي اعتقد بأن انتصار الليبرالية أمر محتوم. فقد بدا أن معظم الدول القومية ستتجه حتماً نحو الديمقراطية ورأسمالية السوق والحرية، وأن العولمة ستؤدي إلى الاعتماد الاقتصادي المتبادل، وأن الانقسامات القديمة ستذوب، وسيغدو العالم واحداً. وحتى في نهاية العقد، بينما كنت أنهي أطروحة الدكتوراه في التكامل الأوروبي، في كلية لندن للاقتصاد، بدا هذا المستقبل قاب قوسين أو أدنى.
لكن هذا المستقبل لم يأتِ قط. فقد تبين أن اللحظة الأحادية القطبية قصيرة الأجل. فبعد هجمات الـ11 من سبتمبر (أيلول) الإرهابية عام 2001، أدار الغرب ظهره للقيم الأساسية التي ادعى أنه يدافع عنها. وبدأ التشكيك في التزامه القانون الدولي. وفشلت التدخلات التي قادتها الولايات المتحدة في أفغانستان والعراق. ووجه الانهيار المالي العالمي عام 2008 ضربة قاسية لسمعة النموذج الاقتصادي الغربي القائم على الأسواق العالمية. ولم تعُد الولايات المتحدة تقود السياسة العالمية وحدها. فظهرت الصين كقوة عظمى من خلال تسارع التصنيع لديها وارتفاع صادراتها ونمو اقتصادها، ومنذ ذلك الحين، أصبح تنافسها مع الولايات المتحدة يهيمن على المشهد الجيوسياسي. وشهد العقد الأخير مزيداً من التآكل للمؤسسات المتعددة الأطراف، وتزايد الشكوك والاحتكاكات في شأن التجارة الحرة، واحتدام المنافسة على التكنولوجيا.
ثم وجهت الحرب العدوانية الروسية الشاملة على أوكرانيا في فبراير (شباط) عام 2022 ضربة موجعة أخرى للنظام القديم. لقد كانت إحدى أفظع الانتهاكات للنظام القائم على القواعد منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وبالتأكيد أسوأ ما شهدته أوروبا. وأن يكون الجاني عضواً دائماً في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة الذي أنشئ للحفاظ على السلام، زاد من فداحة الأمر. فالدول التي كان يفترض بها أن تحمي النظام هي نفسها التي أسقطته.
تعددية الأطراف أو التعددية القطبية
مع ذلك، لم يختفِ النظام الدولي تماماً، فعلى أنقاض ما تهدم، إنه يشهد تحولاً من تعددية الأطراف إلى التعددية القطبية. إن تعددية الأطراف هي نظام من التعاون العالمي يقوم على المؤسسات الدولية والقواعد المشتركة. وتنطبق مبادئه الأساسية بالتساوي على جميع الدول، بغض النظر عن حجمها. أما التعددية القطبية، فهي احتكار القلة للقوة. وإن هيكل العالم المتعدد الأقطاب يقوم على أقطاب عدة غالباً ما تكون متنافسة في ما بينها. فبناء صفقات واتفاقات بين عدد محدود من اللاعبين هو الذي يحدد بنية مثل هذا النظام، مما يضعف حتماً القواعد والمؤسسات المشتركة. ويمكن أن تؤدي التعددية القطبية إلى سلوكيات ظرفية وانتهازية، وشبكة متغيرة من التحالفات قائمة على المصلحة الذاتية المباشرة للدول. ويخاطر عالم متعدد الأقطاب باستبعاد الدول الصغيرة والمتوسطة الحجم، فالقوى الكبرى تبرم صفقات من دون إشراك هذه الدول بل أحياناً على حسابها. وإذا كانت تعددية الأطراف تفضي إلى النظام، فإن تعددية الأقطاب تميل نحو الفوضى والصراع.
وهناك توتر متزايد بين أولئك الذين يروجون لتعددية الأطراف ولنظام قائم على سيادة القانون، وبين أولئك الذين يتحدثون بلغة التعددية القطبية والنهج المعاملاتي القائم على عقد الصفقات. فالدول الصغيرة والقوى المتوسطة، وكذلك المنظمات الإقليمية مثل الاتحاد الأفريقي ورابطة دول جنوب شرق آسيا والاتحاد الأوروبي وتكتل أميركا الجنوبية (ميركوسور)، تروج جميعها لتعددية الأطراف. أما الصين، فهي تروج للتعددية القطبية مع بعض ملامح تعددية الأطراف؛ فهي تؤيد ظاهرياً مجموعات متعددة الأطراف مثل "مجموعة بريكس" (التحالف غير الغربي الذي كان أعضاؤه الأصليون البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا) و"منظمة شنغهاي للتعاون" اللتين تسعيان في الواقع إلى إرساء نظام أكثر ميلاً إلى التعددية القطبية. وحولت الولايات المتحدة تركيزها من تعددية الأطراف إلى المعاملاتية، لكنها لا تزال ملتزمة تجاه المؤسسات الإقليمية مثل حلف شمال الأطلسي (الناتو). وتسعى دول عدة، الكبيرة والصغيرة، إلى ما يمكن وصفه بسياسة خارجية متعددة الاتجاهات. هدفها، في جوهره، تنويع علاقاتها مع جهات فاعلة متعددة بدلاً من الاصطفاف مع أي تكتل واحد.
واستكمالاً، تسيطر المصالح على السياسة الخارجية المعاملاتية أو المتعددة الاتجاهات. فالدول الصغيرة، على سبيل المثال، غالباً ما توازن بين القوى العظمى: إذ يمكنها التحالف مع الصين في بعض المجالات والانحياز إلى الولايات المتحدة في مجالات أخرى، بينما تحاول تجنب الوقوع تحت هيمنة من أي طرف. في الواقع، إن المصالح هي التي توجه الخيارات العملية للدول، وهذا أمر مشروع تماماً. لكن هذا النهج لا يعني بالضرورة التخلي عن القيم التي يجب أن تكون أساس كل ما تقوم به دولة ما. حتى السياسة الخارجية المعاملاتية يجب أن تستند إلى نواة من القيم الأساسية. وتشمل هذه القيم سيادة الدول وسلامة أراضيها وحظر استخدام القوة واحترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية. وللدول، بغالبية ساحقة، مصلحة واضحة في الحفاظ على هذه القيم وضمان أن يواجه المنتهكون عواقب حقيقية.
وهناك دول متعددة ترفض تعددية الأطراف لمصلحة ترتيبات وصفقات أكثر ارتجالية. فالولايات المتحدة، على سبيل المثال، تركز على الاتفاقات الثنائية في التجارة والأعمال. وتستخدم الصين "مبادرة الحزام والطريق"، برنامجها الاستثماري الضخم في البنية التحتية العالمية، لتسهيل الدبلوماسية الثنائية والمعاملات الاقتصادية. ويبرم الاتحاد الأوروبي اتفاقات تجارة حرة ثنائية قد لا تلتزم قواعد منظمة التجارة العالمية. ومن المفارقات أن هذا يحدث في وقت يحتاج العالم إلى تعددية الأطراف أكثر من أي وقت مضى لمواجهة التحديات المشتركة مثل تغير المناخ ونقص التنمية وتنظيم التقنيات المتقدمة. فمن دون نظام متعدد الأطراف قوي، تصبح كل الدبلوماسية قائمة على المعاملاتية. فالعالم المتعدد الأطراف يجعل المصلحة العامة جزءاً من المصلحة الذاتية، بينما يعمل العالم المتعدد الأقطاب ببساطة وفق المصلحة الذاتية.
الواقعية الفنلندية القائمة على القيم
غالباً ما تستند السياسة الخارجية إلى ثلاثة ركائز: القيم والمصالح والقوة. وتشكل هذه العناصر الثلاثة مفاتيح أساسية عندما تتغير توازنات النظام العالمي وديناميكيته. أنا أنتمي إلى دولة صغيرة نسبياً يبلغ عدد سكانها نحو 6 ملايين نسمة. وعلى رغم امتلاكنا واحدة من أكبر القوات الدفاعية في أوروبا، فإن دبلوماسيتنا قائمة على القيم والمصالح. فالقوة، سواء الصلبة أو الناعمة، هي في الغالب ترف تمتلكه القوى الكبرى. ويمكن لهذه القوى أن تظهر قدراتها العسكرية والاقتصادية، فتجبر اللاعبين الأصغر على التماهي مع أهدافها. أما الدول الصغيرة فيمكنها أن تجد القوة في التعاون مع الآخرين. فالتحالفات والتجمعات والدبلوماسية الذكية هي ما يمنح اللاعب الأصغر نفوذاً يفوق حجم جيشه واقتصاده. وغالباً ما تقوم هذه التحالفات على قيم مشتركة مثل التزام حقوق الإنسان وسيادة القانون.
وباعتبارها دولة صغيرة تجاور قوة إمبريالية، تعلمت فنلندا أنه في بعض الأحيان يجب على الدولة أن تتنازل عن بعض القيم لحماية قيم أخرى، أو ببساطة من أجل البقاء. فالدولة تقوم على مبادئ الاستقلال والسيادة وسلامة الأراضي. وبعد الحرب العالمية الثانية، احتفظت فنلندا باستقلالها، بخلاف أصدقائنا في دول البلطيق التي ضمها الاتحاد السوفياتي إليه. لكننا فقدنا 10 في المئة من أراضينا لمصلحة الاتحاد السوفياتي، بما في ذلك المناطق التي ولد فيها والدي وأجدادي. والأهم من ذلك، اضطررنا إلى التخلي عن جزء من سيادتنا. ولم تتمكن فنلندا من الانضمام إلى المؤسسات الدولية التي شعرنا بانتمائنا إليها بصورة طبيعية، ولا سيما الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي.
خلال الحرب الباردة، كانت السياسة الخارجية الفنلندية قائمة على ما يسمى "الواقعية البراغماتية". ومن أجل منع الاتحاد السوفياتي من مهاجمتنا مرة أخرى، مثلما فعل عام 1939، اضطررنا إلى التنازل عن قيمنا الغربية. وهذه الحقبة من التاريخ الفنلندي التي أنتجت مصطلح "الفنلندنة" المستخدم في العلاقات الدولية، ليست حقبة نفتخر بها، لكنها سمحت لنا بالحفاظ على استقلالنا. لقد جعلتنا هذه التجربة حذرين من احتمال تكرارها في أي وقت. لذلك، عندما يقترح بعضهم أن "الفنلندنة" قد تكون حلاً لإنهاء الحرب في أوكرانيا، أختلف معهم بشدة. فسلام مثل هذا سيأتي بكلفة باهظة، مما يعني عملياً التخلي عن السيادة والأراضي.
نحن نعيش في عالم جديد تسوده الفوضى
بعد انتهاء الحرب الباردة، تبنت فنلندا، شأنها شأن كثير من الدول الأخرى، فكرة أن قيم الغرب العالمي ستصبح هي القاعدة، ما أسميه "المثالية القائمة على القيم". وقد سمح لنا ذلك بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي عام 1995. وفي الوقت نفسه، ارتكبت فنلندا خطأً فادحاً: قررت، طواعية، البقاء خارج "الناتو". (للعلم، كنت من أشد المؤيدين لعضوية فنلندا في "الناتو" طوال 30 عاماً). كان بعض الفنلنديين يحملون اعتقاداً مثالياً بأن روسيا ستصبح في نهاية المطاف ديمقراطية ليبرالية، بالتالي فإن الانضمام إلى "الناتو" غير ضروري. بينما خشي آخرون من رد فعل روسيا السلبي على انضمام فنلندا إلى الحلف. ورأى آخرون أن بقاء فنلندا خارج التحالف يسهم في الحفاظ على التوازن، بالتالي السلام، في منطقة بحر البلطيق. وتبين أن كل هذه الأسباب كانت خاطئة، وعدلت فنلندا موقفها بناءً على ذلك؛ فانضمت إلى "الناتو" بعد الهجوم الروسي الشامل على أوكرانيا.
كان هذا قراراً منسجماً مع قيم فنلندا ومصالحها على حد سواء. فقد تبنت فنلندا ما سميته "الواقعية القائمة على القيم": أي التزام مجموعة من القيم العالمية المبنية على الحرية والحقوق الأساسية والقواعد الدولية، مع احترام واقع تنوع ثقافات العالم وتاريخه. ويجب على الغرب العالمي أن يبقى وفياً لقيمه، ولكن ينبغي أن يفهم أيضاً أن مشكلات العالم لن تحل بالتعاون مع الدول ذات التفكير المماثل وحسب.
وربما تبدو "الواقعية القائمة على القيم" وكأنها تناقض في المصطلحات، لكنها ليست كذلك. فقد بدا أن نظريتين مؤثرتين في حقبة ما بعد الحرب الباردة تضعان القيم العالمية في مواجهة قراءة أكثر واقعية لخطوط الانقسام السياسي. ورأت فرضية فوكوياما عن نهاية التاريخ أن انتصار الرأسمالية على الشيوعية يبشر بعالم سيصبح أكثر ليبرالية وتوجهاً نحو السوق. بينما تنبأت رؤية عالم السياسة صامويل هنتنغتون عن "صدام الحضارات" أن خطوط التماس الجيوسياسية ستتحول من الاختلافات الأيديولوجية إلى الاختلافات الثقافية. وفي الواقع، يمكن للدول الاستفادة من كلا المفهومين في التفاوض على معالم النظام العالمي المتغير اليوم. ففي صياغة السياسة الخارجية، يمكن لحكومات الغرب العالمي الحفاظ على إيمانها بالديمقراطية والأسواق من دون الإصرار على أنها قابلة للتطبيق عالمياً؛ ففي أماكن أخرى قد تسود نماذج مختلفة. وحتى داخل الغرب العالمي نفسه، قد تجعل الحاجة إلى الأمن والدفاع عن السيادة من الصعب الالتزام الصارم بالمثل الليبرالية.
وينبغي للدول أن تسعى جاهدة إلى نظام عالمي تعاوني يستند إلى الواقعية القائمة على القيم، ويحترم سيادة القانون والاختلافات الثقافية والسياسية. بالنسبة إلى فنلندا، يعني ذلك التواصل مع دول أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية لفهم مواقفها من حرب روسيا في أوكرانيا وغيرها من النزاعات الدائرة. ويعني كذلك إجراء محادثات براغماتية وعلى قدم المساواة في شأن قضايا عالمية مهمة مثل تلك المتعلقة بتبادل التكنولوجيا والمواد الخام وتغير المناخ.
مثلث القوة
تشكل ثلاث مناطق كبرى الآن موازين القوة العالمية: الغرب العالمي والشرق العالمي والجنوب العالمي. ويضم الغرب العالمي نحو 50 دولة، وقادته تقليدياً الولايات المتحدة. ويشمل أعضاؤه بصورة رئيسة دولاً ديمقراطية ذات اقتصادات حرة في أوروبا وأميركا الشمالية وحلفاءها البعيدين أستراليا واليابان ونيوزيلندا وكوريا الجنوبية. وسعت هذه الدول عادة إلى الحفاظ على نظام متعدد الأطراف قائم على القواعد، حتى إن اختلفت في كيفية صونه أو إصلاحه أو إعادة ابتكاره.
أما الشرق العالمي، فيتكون من نحو 25 دولة تقودها الصين، ويضم شبكة من الدول المتحالفة، أبرزها إيران وكوريا الشمالية وروسيا التي تسعى إلى تعديل النظام الدولي القائم على القواعد أو استبداله. وما يربط هذه الدول هو مصلحة مشتركة تتمثل في الرغبة في الحد من نفوذ الغرب العالمي.
ويضم الجنوب العالمي كثيراً من الدول النامية والمتوسطة الدخل في العالم من أفريقيا وأميركا اللاتينية وجنوب آسيا وجنوب شرقي آسيا (والغالبية العظمى من سكان العالم) ويشمل ما يقارب 125 دولة. وعانى كثير منها الاستعمار الغربي، ثم مرة أخرى عندما تحولت إلى ساحات لحروب بالوكالة في حقبة الحرب الباردة. ويضم الجنوب العالمي عدداً من القوى المتوسطة أو "الدول المتأرجحة"، ولا سيما البرازيل والهند وإندونيسيا وكينيا والمكسيك ونيجيريا والسعودية وجنوب أفريقيا. وما يقود صعود هذه القوى هو الاتجاهات الديموغرافية والتنمية الاقتصادية واستخراج الموارد الطبيعية وتصديرها.
ويتنافس الغرب العالمي والشرق العالمي على قلوب وعقول الجنوب العالمي. والسبب واضح: كلاهما يدرك أن الجنوب العالمي هو الذي سيحدد اتجاه النظام الدولي الجديد. وبينما يشد الغرب والشرق في اتجاهين متعاكسين، يمتلك الجنوب الصوت الراجح.
ولا يستطيع الغرب العالمي أن يجذب الجنوب العالمي بمجرد تمجيد قيم الحرية والديمقراطية، بل عليه أيضاً تمويل مشاريع التنمية والاستثمار في النمو الاقتصادي، والأهم من ذلك، منح الجنوب مقعداً على الطاولة ومشاركته في السلطة. وعلى نحو مماثل، فإن الشرق العالمي سيكون مخطئاً إذا ظن أن إنفاقه الكبير على مشاريع البنية التحتية والاستثمارات المباشرة يكفي لشراء النفوذ الكامل في الجنوب العالمي. فلا يمكن شراء المحبة بسهولة. وكما أشار وزير الخارجية الهندي سوبرامانيام جايشانكار، فإن الهند ودول الجنوب العالمي الأخرى لا تقف موقف المتفرج وحسب، بل تقف بثبات على أرضها (أي إنها ليست محايدة أو مترددة، بل لديها مواقف مستقلة تنطلق من مصالحها الخاصة).
بعبارة أخرى، ما يحتاج إليه قادة الشرق والغرب هو "الواقعية القائمة على القيم". فالسياسة الخارجية ليست ثنائية ولا يمكن تلخيصها بخيارين فقط. وعلى صانع القرار أن يتخذ يومياً خيارات تجمع بين القيم والمصالح. فهل تشتري أسلحة من دولة تنتهك القانون الدولي؟ هل تمول ديكتاتورية تحارب الإرهاب؟ هل تقدم مساعدات لدولة تجرم المثلية الجنسية؟ هل تتاجر مع دولة تجيز عقوبة الإعدام؟ بعض القيم غير قابل للتفاوض، ومن بينها حماية الحقوق الأساسية وحقوق الإنسان وحماية الأقليات وصون الديمقراطية واحترام سيادة القانون. وتشكل هذه القيم الركيزة لما يجب أن يمثله الغرب العالمي، خصوصاً في خطابه الموجه إلى الجنوب العالمي. في الوقت نفسه، يجب على الغرب أن يدرك أن هذه القيم ليست مشتركة عالمياً.
وتهدف "الواقعية القائمة على القيم" إلى إيجاد توازن بين القيم والمصالح بطريقة تعطي الأولوية للمبادئ، مع مراعاة حدود قوة الدولة عندما تكون مصالح السلام والاستقرار والأمن على المحك. ويظل النظام العالمي القائم على القواعد، المدعوم بمجموعة من المؤسسات الدولية التي تعمل بكفاءة وتصون القيم الأساسية، أفضل سبيل لمنع التنافس الذي قد يؤدي إلى صدام. ولكن مع تراجع فاعلية هذه المؤسسات، يجب على الدول أن تعتمد على نهج واقعي أكثر صرامة. ويجب على القادة الاعتراف بالاختلافات بين الدول، من واقع الجغرافيا والتاريخ والثقافة والدين ومراحل التنمية الاقتصادية المختلفة. وإذا أرادوا من الآخرين معالجة قضايا مثل حقوق المواطنين والممارسات البيئية والحوكمة الرشيدة على نحو أفضل، فعليهم أن يكونوا قدوة حسنة ويقدموا الدعم، لا المحاضرات.
تبدأ "الواقعية القائمة على القيم" بسلوك لائق، مع احترام آراء الآخرين وفهم الاختلافات. إنها تعني التعاون القائم على شراكات بين أنداد، لا استناداً إلى تصورات تاريخية لما ينبغي أن تكون عليه العلاقات بين الغرب والشرق والجنوب العالمي. وطريق المضي قدماً، من دون الالتفات إلى الوراء، يكمن في التركيز على المشاريع المشتركة الكبرى مثل البنية التحتية والتجارة والتخفيف من آثار تغير المناخ والتكيف معه.
هناك عقبات كثيرة تعترض أية محاولة تبذلها الأطراف الثلاثة في العالم لبناء نظام عالمي يوفق بين احترام الاختلافات وتمكين الدول من تحديد مصالحها الوطنية ضمن إطار أوسع من العلاقات الدولية التعاونية. ومع ذلك، فإن كلفة الفشل هائلة: وكان النصف الأول من القرن الـ20 إنذاراً كافياً.
إن عدم اليقين يعد جزءاً من العلاقات الدولية، خصوصاً أثناء الفترات الانتقالية من حقبة إلى أخرى. ويكمن السر في فهم أسباب هذا التغيير وكيفية التعامل معه. فإذا عاد الغرب العالمي لممارسة أساليبه القديمة في الهيمنة المباشرة أو غير المباشرة أو الغطرسة الصريحة، فسيخسر المعركة. أما إذا أدرك أن الجنوب العالمي سيكون جزءاً أساساً من النظام العالمي المقبل، فقد يتمكن من بناء شراكات تقوم على القيم والمصالح قادرة على مواجهة التحديات الرئيسة في العالم. وستمنح "الواقعية القائمة على القيم" الغرب مساحة كافية لخوض غمار هذا العصر الجديد من العلاقات الدولية.
عوالم مقبلة
ساعدت مجموعة من مؤسسات ما بعد الحرب في توجيه العالم خلال أسرع فترات تطوره، وحافظت على فترة استثنائية من السلام النسبي. أما اليوم، فأصبحت هذه المؤسسات مهددة بالانهيار. لكنها يجب أن تبقى لأن عالماً قائماً على المنافسة من دون تعاون سيقود إلى الصراع. ولكي تبقى، يجب أن تتغير، لأن دولاً عدة تفتقر إلى القدرة على التأثير في النظام القائم، وفي غياب التغيير ستسعى إلى الانفصال عنه. ولا يمكن لوم هذه الدول على ذلك؛ فالنظام العالمي الجديد لن ينتظر.
ويمكن أن تظهر ثلاثة سيناريوهات في الأقل خلال العقد المقبل. في السيناريو الأول، سيستمر الاضطراب الحالي ببساطة. وستظل هناك عناصر من النظام القديم، لكن احترام القواعد والمؤسسات الدولية سيكون انتقائياً، ويعتمد في الغالب على المصالح، وليس على القيم الجوهرية. وستظل القدرة على حل التحديات الكبرى محدودة، لكن العالم، في الأقل، لن ينحدر إلى فوضى أكبر. ومع ذلك، سيكون إنهاء النزاعات صعباً للغاية لأن معظم اتفاقات السلام ستكون معاملاتية وتفتقر إلى الشرعية التي يضفيها ختم الأمم المتحدة.
ويمكن أن تكون الأمور أسوأ: في سيناريو ثانٍ، فإن أسس النظام الدولي الليبرالي، أي قواعده ومؤسساته، ستستمر في التآكل، وسينهار النظام القائم. وسيقترب العالم أكثر من الفوضى من دون وجود محور واضح للقوة ومن دون قدرة الدول على حل الأزمات الحادة مثل المجاعات والأوبئة، أو الصراعات. وسيملأ الطغاة وأمراء الحرب والجهات الفاعلة غير الحكومية الفراغات التي ستخلفها المنظمات الدولية المتراجعة. وستخاطر النزاعات المحلية بإشعال حروب أوسع. وسيكون الاستقرار والقدرة على التنبؤ استثناء وليس قاعدة، في عالم يفترس فيه القوي الضعيف. وستصبح الوساطة من أجل السلام شبه مستحيلة.
ولكن ليس بالضرورة أن تسير الأمور بهذه الطريقة. ففي سيناريو ثالث، سيؤدي توازن جديد للقوة بين الغرب العالمي والشرق العالمي والجنوب العالمي إلى نظام عالمي معاد تشكيله، يمكن للدول من خلاله التعامل مع أكثر التحديات العالمية إلحاحاً عبر التعاون والحوار بين أطراف متساوية. وسيعمل هذا التوازن على احتواء المنافسة ودفع العالم نحو مزيد من التعاون في قضايا المناخ والأمن والتكنولوجيا، وهي تحديات حرجة لا يمكن لأية دولة حلها بمفردها. وفي هذا السيناريو، ستسود مبادئ ميثاق الأمم المتحدة، مما يؤدي إلى اتفاقات عادلة ودائمة. ولكن لكي يتحقق ذلك، لا بد من إصلاح المؤسسات الدولية.
لقد تبين أن اللحظة الأحادية القطبية قصيرة الأجل
ويبدأ الإصلاح من القمة، أي من الأمم المتحدة. والإصلاح عملية طويلة ومعقدة دائماً، ولكن هناك ثلاثة تغييرات محتملة في الأقل من شأنها أن تعزز الأمم المتحدة تلقائياً وتمنح القوة للدول التي تشعر بأنها لا تمتلك نفوذاً كافياً في نيويورك أو جنيف أو فيينا أو نيروبي.
أولاً، يجب تمثيل جميع القارات الرئيسة في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، في جميع الأوقات. فمن غير المقبول إطلاقاً غياب التمثيل الدائم لأفريقيا وأميركا اللاتينية في مجلس الأمن، وأن تكون الصين وحدها الممثلة لآسيا. وتنبغي زيادة عدد الأعضاء الدائمين بما لا يقل عن خمسة أعضاء: اثنان من أفريقيا، واثنان من آسيا، وواحد من أميركا اللاتينية.
ثانياً، لا ينبغي لأية دولة منفردة أن تمتلك حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن. كان هذا الحق ضرورياً في أعقاب الحرب العالمية الثانية، ولكنه في عالم اليوم أعاق عمل مجلس الأمن. وتعمل وكالات الأمم المتحدة في جنيف بكفاءة عالية، تحديداً لأنه لا يمكن لأي عضو بمفرده منعها من أداء عملها.
ثالثاً، إذا انتهك عضو دائم أو غير دائم في مجلس الأمن ميثاق الأمم المتحدة، فيجب تعليق عضويته فيها. وهذا يعني أن المجلس كان ينبغي أن يعلق عضوية روسيا بعد غزوها الشامل لأوكرانيا. ويمكن اتخاذ قرار التعليق هذا في الجمعية العامة. ويجب ألا يكون هناك مجال لازدواجية المعايير داخل الأمم المتحدة.
وتحتاج المؤسسات التجارية والمالية العالمية أيضاً إلى تحديث. إن منظمة التجارة العالمية التي شُلت لأعوام بسبب تعطل آلية تسوية المنازعات التابعة لها، لا تزال أساسية. وعلى رغم تزايد اتفاقات التجارة الحرة خارج نطاق منظمة التجارة العالمية، لا يزال أكثر من 70 في المئة من التجارة العالمية يدار بموجب مبدأ "الدولة الأولى بالرعاية" الذي وضعته المنظمة. والهدف من نظام التجارة المتعدد الأطراف هو ضمان معاملة عادلة ومنصفة لجميع أعضائه. فالرسوم الجمركية وغيرها من انتهاكات قواعد منظمة التجارة العالمية تلحق الضرر بالجميع في نهاية المطاف. ويجب أن تؤدي عملية الإصلاح الحالية إلى مزيد من الشفافية، ولا سيما في ما يتعلق بالدعم والإعانات، وإلى مرونة في عمليات صنع القرار داخل المنظمة. ويجب تنفيذ هذه الإصلاحات بسرعة، إذ سيفقد النظام صدقيته إذا ظلت منظمة التجارة العالمية غارقة في مأزقها الحالي.
والإصلاح صعب، وقد تبدو بعض هذه المقترحات غير واقعية. لكن ذلك كان ينطبق أيضاً على المقترحات التي قدمت في سان فرانسيسكو عند تأسيس الأمم المتحدة قبل أكثر من 80 عاماً. وستعتمد استجابة الدول الأعضاء الـ193 في الأمم المتحدة لهذه التغييرات على ما إذا كانت تركز سياستها الخارجية على القيم أو المصالح أو النفوذ. لقد شكل تقاسم النفوذ على أساس القيم والمصالح أساس نشوء النظام العالمي الليبرالي بعد الحرب العالمية الثانية. وقد حان الوقت لمراجعة النظام الذي خدمنا على أكمل وجه لما يقارب قرناً.
إن العامل غير المتوقع بالنسبة إلى الغرب العالمي في كل هذا هو ما إذا كانت الولايات المتحدة ترغب في الحفاظ على النظام العالمي المتعدد الأطراف الذي قامت بدور محوري في بنائه واستفادت منه بصورة كبيرة. وقد لا يكون هذا الطريق سهلاً، بالنظر إلى انسحاب واشنطن من مؤسسات واتفاقات رئيسة مثل منظمة الصحة العالمية واتفاق باريس للمناخ، ونهجها التجاري الجديد القائم على الحمائية والموجه نحو المصالح الاقتصادية الوطنية في التجارة عبر الحدود. لقد ساعد نظام الأمم المتحدة في الحفاظ على السلام بين القوى العظمى، مما مكن الولايات المتحدة من الظهور كقوة جيوسياسية رائدة. وفي كثير من مؤسسات الأمم المتحدة، تولت الولايات المتحدة الدور القيادي وتمكنت من تحقيق أهدافها السياسية بفاعلية كبيرة. واستطراداً، ساعدت التجارة الحرة العالمية الولايات المتحدة في ترسيخ مكانتها كقوة اقتصادية رائدة في العالم، وفي الوقت نفسه توفير منتجات منخفضة الكلفة للمستهلكين الأميركيين. أما التحالفات مثل حلف شمال الأطلسي، فمنحت الولايات المتحدة مزايا عسكرية وسياسية خارج منطقتها. ويبقى على عاتق بقية الغرب إقناع إدارة ترمب بقيمة مؤسسات ما بعد الحرب العالمية ودور واشنطن النشط فيها.
أما العامل غير المتوقع بالنسبة إلى الشرق العالمي، فهو كيفية اضطلاع الصين بدورها على الساحة الدولية. فقد تتخذ خطوات إضافية لملء فراغات القوة التي تركتها الولايات المتحدة في مجالات مثل التجارة الحرة والتعاون في مجال تغير المناخ والتنمية. وربما تحاول إعادة تشكيل المؤسسات الدولية التي بات لها فيها الآن موطئ قدم أقوى بكثير. ومن الممكن أن تسعى إلى تعزيز نفوذها في منطقتها. وربما تتخلى عن استراتيجية "خبئ قوتك وانتظر وقتك" (إخفاء القدرات والانتظار) التي اتبعتها منذ فترة طويلة، وتقرر أن الوقت قد حان لاتخاذ إجراءات أكثر حزماً، على سبيل المثال في بحر الصين الجنوبي ومضيق تايوان.
يالطا أم هلسنكي؟
يمكن لنظام دولي مثل ذلك الذي أسسته الإمبراطورية الرومانية، أن يستمر أحياناً لقرون. لكنه في غالبية الأحيان لا يدوم سوى بضعة عقود. وتمثل حرب روسيا العدوانية في أوكرانيا بداية تغيير جديد في النظام العالمي. وبالنسبة إلى شباب اليوم، فإنهم يعيشون لحظة تاريخية فاصلة تشبه ما حدث خلال أعوام 1918 و1945 و1989. وفي مثل هذه النقاط المفصلية، من المحتمل أن ينحرف العالم عن المسار الصحيح، مثلما حصل بعد الحرب العالمية الأولى، عندما عجزت عصبة الأمم عن احتواء التنافس بين القوى العظمى، مما أدى إلى حرب عالمية دامية أخرى.
ويمكن للدول أيضاً أن تحسن إدارة الأمور إلى حد ما، على غرار ما حدث بعد الحرب العالمية الثانية مع تأسيس الأمم المتحدة. فقد حافظ نظام ما بعد الحرب، في نهاية المطاف، على السلام بين القوتين العظميين إبان الحرب الباردة، الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة. ولا شك في أن هذا الاستقرار النسبي جاء بكلفة باهظة بالنسبة إلى الدول التي أجبرت على الخضوع أو عانت خلال صراعات بالوكالة. ومع أن نهاية الحرب العالمية الثانية أرست أسس نظام استمر لعقود، إلا أنها زرعت أيضاً بذور الاختلال الحالي.
فعام 1945، التقى منتصرو الحرب في يالطا، في شبه جزيرة القرم. هناك، وضع الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت، ورئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرتشل، والزعيم السوفياتي جوزيف ستالين نظاماً لما بعد الحرب قائماً على مجالات النفوذ. وظهر مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة كساحة يمكن للقوى العظمى معالجة خلافاتها فيها، لكنه لم يُتح مساحة كافية للآخرين. وفي يالطا، أبرمت الدول الكبرى اتفاقات تخص شؤون الدول الصغرى من دون مشاورتها. ويجب الآن تصحيح هذا الخطأ التاريخي.
من دون نظام متعدد الأطراف فاعل، تصبح الدبلوماسية قائمة على الصفقات
ويمثل عقد مؤتمر الأمن والتعاون في أوروبا عام 1975 تناقضاً صارخاً مع مؤتمر يالطا. فقد اجتمعت 32 دولة أوروبية، إضافة إلى كندا والاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة، في هلسنكي لإنشاء هيكل أمني أوروبي قائم على قواعد ومعايير تطبق على الجميع. واتفقت الدول على مبادئ أساسية تنظم سلوك الدول تجاه مواطنيها وفي ما بينها. وكان هذا إنجازاً بارزاً لتعددية الأطراف في زمن اتسم بتوترات كبيرة، وكان له دور محوري في التعجيل بنهاية الحرب الباردة.
وكانت نتائج مؤتمر يالطا متعددة الأقطاب، بينما كان مؤتمر هلسنكي متعدد الأطراف. والآن يواجه العالم مفترق طرق، وأعتقد بأن هلسنكي تمثل الطريق الصحيح للمضي قدماً. فإن الخيارات التي نتخذها جميعاً خلال العقد المقبل سوف تحدد شكل النظام العالمي في القرن الـ21.
وليست الدول الصغيرة، مثل دولتي، مجرد متفرجة في هذه القصة. فالنظام الجديد ستحدده قرارات يتخذها القادة السياسيون في الدول الكبيرة والصغيرة، سواء كانوا ديمقراطيين أو استبداديين أو بين الاثنين. وهنا تقع مسؤولية خاصة على عاتق الغرب العالمي، بصفته مهندس النظام الآخذ في التلاشي الذي لا يزال، اقتصادياً وعسكرياً، أقوى تحالف عالمي. إن الطريقة التي نحمل بها هذا العبء مهمة، وهذه فرصتنا الأخيرة.
ألكسندر ستوب هو رئيس فنلندا ومؤلف كتاب "مثلث القوة: إعادة التوازن للنظام العالمي الجديد" الذي سيصدر قريباً.
مترجم عن "فورين أفيرز"، 2 ديسمبر (كانون الأول) 2025