Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الخطر البحري الروسي

كيف يُمكن أسطول الظل موسكو من شن حرب هجينة في أوروبا

سفينة روسية يشتبه في أنها تابعة لـ"أسطول الظل" قرب سان نازير، فرنسا، أكتوبر (تشرين الأول) 2025 (ستيفان ماهي/ رويترز)

ملخص

تستخدم روسيا مزيجاً من المسيّرات منخفضة التقنية و"أسطول الظل" التجاري للالتفاف على الرقابة الأوروبية وتنفيذ حملة حرب هجينة تمتد من الدنمارك إلى ألمانيا وبلجيكا، محولة البحار المحيطة بالقارة إلى ساحة عمليات تخريبية وتعطيلية مستمرة.

خلال اجتماع "نادي فالداي للنقاش" في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، وهو منتدى سنوي للمحادثات السياسية الروسية، تحول خلال الأعوام الأخيرة إلى منصة لأيديولوجيا الكرملين، طرح على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين سؤال غير اعتيادي. "سيدي الرئيس، لماذا ترسلون هذا العدد الكبير من الطائرات المسيّرة إلى الدنمارك؟". تعامل بوتين مع الموضوع باستهزاء في البداية، ممازحاً بأنه لن يرسل مسيّرات إلى "فرنسا أو الدنمارك أو كوبنهاغن". لكن الزعيم الروسي لم يتوقف عند هذا الحد، بل تابع قائلاً إن "عدداً من الشخصيات الغريبة الأطوار"، بخاصة الشباب، قادرون على إطلاق تلك الطائرات المسيّرة فوق أوروبا، وهو تصريح غامض يعيد للأذهان تعليقاته المبطنة حول الجنود الروس غير النظاميين الذين ساعدوا في الاستيلاء على شبه جزيرة القرم عام 2014 أو حول التدخل الروسي في الانتخابات الأميركية عام 2016. وأضاف أن هؤلاء الشباب سيطلقون هذه المسيّرات "كل يوم".

وحتى قبل اجتماع "فالداي"، كانت روسيا بدأت بتنفيذ ما ألمح إليه بوتين. ففي منتصف سبتمبر (أيلول) الماضي، دخلت المجال الجوي البولندي مجموعة من الطائرات المسيّرة الروسية، ثلاث منها مسلحة. ورداً على ذلك، وللمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية، أرسلت بولندا مقاتلات للدفاع عن أراضيها وأسقطت المسيّرات. وبعد ذلك بثلاثة أيام، أعلنت رومانيا اختراق مسيّرة روسية لمجالها الجوي، وهي أول حادثة ضمن سلسلة حوادث مشابهة شهدتها رومانيا هذا الخريف. وفي أواخر سبتمبر الماضي، اضطرت مطارات دنماركية عدة، بما فيها مطار كوبنهاغن، إلى الإغلاق لفترة وجيزة بسبب توغلات مماثلة.

وفي أوائل أكتوبر الماضي، بعد أيام قليلة من اجتماع "نادي فالداي"، جرى الإبلاغ عن مشاهدات عدة لطائرات مسيّر قرب منشآت عسكرية ومطارات في جميع أنحاء ألمانيا. وبعد ذلك بأيام، علقت النرويج الرحلات الجوية لفترة وجيزة من مطار أوسلو بعد رصد طائرات مسيّرة قربه. وفي نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري، اضطرت السلطات البلجيكية إلى إغلاق مطار بروكسل بعد رصد مسيّرات عدة في المنطقة. وفي هولندا، وبعد مشاهدة مسيّرات قرب قاعدة فولكل الجوية التي تستضيف سرباً تابعاً للقوات الجوية الأميركية ومكلفاً بمهمات لحلف شمال الأطلسي، استخدم الجيش الهولندي أسلحة أرضية لمحاولة اعتراضها، وعلى نحو مماثل، جرى تعليق حركة الطيران لبعض الوقت فوق جنوب البلاد.

وعلى رغم نفي الكرملين المستمر لتورطه في هذه الاختراقات، فإن عدداً قليلاً من المسؤولين الأوروبيين يصدق ذلك. لكن ما سلط عليه الضوء بدرجة أقل هو اللوجستيات التي تدعم حملة الحرب الهجينة الجديدة هذه. ففي كثير من الحالات، لا يبدو أن روسيا تطلق المسيّرات من أراضيها، بل يبدو أنها تعتمد على ما يسمى "أسطول الظل"، وهو يتكون من مئات السفن التابعة لأطراف ثالثة ولكنها خاضعة للسيطرة الروسية، وتستخدم للتهرب من العقوبات، وغالباً ما تبحر في المياه المحيطة بأوروبا.

فعندما رصدت مسيّرات في الأجواء الدنماركية، على سبيل المثال، جرى تعقب ناقلة النفط "بوراكاي"، وهي سفينة ترفع علم بنين غادرت ميناء بريمورسك الروسي محملة بالنفط الروسي في سبتمبر الماضي، فوجدت تبحر قبالة الساحل الدنماركي. وكانت السفينة أدرجت سابقاً على اللائحة السوداء في المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي لتورطها في مساعدة روسيا في التهرب من العقوبات. وبعد حادثة خرق المسيّرات للمجال الجوي الدنماركي، صعدت قوات خاصة تابعة للبحرية الفرنسية إلى السفينة واحتجزت قبطانها لفترة وجيزة، وهو مواطن صيني. وقال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إن فرنسا لا تستطيع استبعاد وجود صلة بين السفينة والهجمات بالمسيّرات، على رغم عدم ظهور دليل قاطع حتى الآن. في المقابل، وصف الكرملين الاتهامات الفرنسية بأنها "هستيريا".

ووفقاً لتقرير جديد صادر عن شبكة "دان ووتش" الإعلامية الاستقصائية، لاحظ المسؤولون البحريون الدنماركيون أيضاً وجود رجال روس يرتدون زياً عسكرياً على متن سفن تابعة لأسطول الظل هذا الخريف. وكما جاء في التقرير، فإن هذا الوجود يشير إلى أن موسكو "ربما ترسل طاقمها الخاص على متن ناقلات تجارية خارجة عن القانون". وعلى رغم وجود علامات استفهام كثيرة حول كيفية نشر موسكو لأسطول الظل، فإنه أصبح واضحاً بصورة متزايدة أن البحار المحيطة بأوروبا تحولت إلى ساحة رئيسة لحملة الضغط الروسية على القارة. وفي الـ19 من نوفمبر الجاري، أعلن وزير الدفاع البريطاني جون هيلي أن سفينة استطلاع روسية دخلت المياه البريطانية خلال الأسابيع الأخيرة ووجهت أشعة ليزر نحو طيارين عسكريين بريطانيين. ووصف هيلي أنشطة السفينة بأنها "خطرة للغاية"، وقال إن المملكة المتحدة تستعد لخيارات عسكرية مختلفة في حال حدوث أي تصعيد.

وبالنسبة إلى روسيا، توفر استراتيجية الحرب الهجينة البحرية مزايا عدة. فباستخدام السفن، تستطيع روسيا الاقتراب أكثر من أوروبا الغربية، كما أن إطلاق هجمات هجينة من البحر، بدلاً من البر، يعد أقل خطورة للعملاء الروس وأكثر ملاءمة لهم من الناحية التشغيلية. واستطراداً، فإن أسطول الظل غامض بطبيعته، مما يصعب على الحكومات الأوروبية ربط أنشطته مباشرة بموسكو. وعلاوة على ذلك، يمكن للكرملين أن يستفيد من خبرته التاريخية الطويلة في تبني مثل هذه الاستراتيجية: فمنذ الحقبة السوفياتية، استخدمت موسكو السفن كجزء أساس من عملياتها الاستخباراتية في أوروبا وأماكن أخرى، ولا تزال أجهزة الاستخبارات الروسية اليوم على ارتباط وثيق بالأنشطة البحرية للبلاد. وإذا كان القادة الأوروبيون يأملون في كبح استراتيجية الحرب الروسية الهجينة المتزايدة الجرأة، فسيتعين عليهم اعتماد نهج أكثر صرامة تجاه أسطول الظل.

مسيّرات فوق الدنمارك

حتى خريف هذا العام، كان اهتمام الغرب بالحملة الهجينة التي تشنها موسكو في أوروبا منصباً إلى حد كبير على عمليات التخريب البرية. وكما وثقنا في مجلة "فورين أفيرز"، فقد ربطت هجمات برية متعددة في أوروبا الغربية مطلع عام 2024 بروسيا أو عملاء تابعين لها، بما في ذلك حوادث حرق متعمد وتخريب وهجمات إلكترونية في 15 دولة في الأقل. واستمرت هذه الهجمات، وإن بوتيرة أبطأ، ربما نتيجة لتعزيز الإجراءات الأمنية الغربية.

ولكن طوال فترة الحرب مع أوكرانيا، كانت أجهزة الاستخبارات الروسية تعمل بهدوء أيضاً على تطوير قدرات هجومية بحرية. وهذا منطقي من الناحية الجغرافية، فمعظم دول أوروبا الغربية لديها سواحل، والبحر يمثل نقطة ضعف يمكن استغلالها. وبرزت لدى روسيا كذلك حوافز جديدة للتوجه إلى العمليات البحرية عقب اتخاذ أوروبا تدابير لمكافحة التجسس، والطرد الجماعي للدبلوماسيين الروس بعد غزو روسيا لأوكرانيا عام 2022. وكان التخريب تحت سطح البحر أول ما جرى تفعيله: بدءاً من عام 2023، تبين أن عدداً متزايداً من الحوادث التي قامت فيها سفن تجارية بقطع أو إلحاق الضرر بكابلات الطاقة والاتصالات وخطوط أنابيب الغاز تحت الماء في بحر الشمال وبحر البلطيق، كان مرتبطاً بروسيا. وشملت حالات متعددة سفناً تجارية صينية بدا أنها زارت الموانئ الروسية قبل ذلك بوقت قصير.

ومنذ عام 2022، ضخت موسكو أيضاً موارد كبيرة لشراء مئات السفن التابعة لأطراف ثالثة، بما في ذلك ناقلات نفط قديمة وسفن أخرى، تستخدمها للالتفاف على العقوبات الغربية. واستخدم بعض هذه السفن الموانئ الروسية علناً. ولكن نظراً إلى أن السفن يجب أن تستعمل أجهزة الإرسال والاستقبال في نظام "أي آي أس"(AIS)  [نظام التعرف الآلي] لبث موقعها في الوقت الفعلي، فقد لجأت روسيا بصورة متزايدة إلى عمليات نقل الشحنات من سفينة إلى أخرى في البحر: يمكن للسفن التي رصدت في ميناء روسي تحويل البضائع إلى ناقلات تنتظر في عرض البحر وقد أوقفت تشغيل أجهزة الإرسال والاستقبال الخاصة بها. وحتى الشحنات الكبيرة من النفط يمكن نقلها بين السفن بسرعة، في أقل من 12 ساعة. بعد ذلك، يمكن لتلك السفن التي تعمل في عرض البحر والتي لا تشير سجلات التتبع إلى دخولها الموانئ الروسية، أن تندمج ضمن السفن الأخرى الراسية صورة قانونية في المياه الدولية، حيث تستطيع أن تبقى لأشهر عدة، في انتظار ارتفاع أسعار السوق قبل إعادة بيع الحمولة، وفقاً للممارسات التجارية المعمول بها.


ومع النمو السريع لأسطول الظل، بدأ ما يشبه "لعبة القط والفأر" بينه والمسؤولين الأوروبيين. فحتى الآن، حظر الاتحاد الأوروبي دخول موانئه على السفن التي تجري عمليات نقل نفط من سفينة إلى أخرى، إذا وجدت أسباب معقولة للاشتباه في أنها تنتهك الحظر المفروض على النفط الخام والمنتجات البترولية الروسية. وعلى رغم أن هذه التدابير قد تعقد صادرات روسيا من النفط والغاز، فإن من غير المرجح أن تعؤق عمليات التخريب التي لا تحتاج أصلاً إلى دخول الموانئ.

في الواقع، أظهرت التطورات في حرب الطائرات المسيّرة مدى ما يوفره البحر لروسيا من مزايا إضافية. ففي العمليات البرية منخفضة التقنية مثل التخريب والحرق المتعمد في القارة، استعانت موسكو عادة بوكلاء محليين غير مدربين لتنفيذ مهمات فردية. لكن تشغيل المسيّرات يحتاج إلى قدر أكبر من الخبرة الفنية، وهنا يبرز دور السفن المرتبطة بروسيا التي توفر غطاء عملياً للعناصر الروسية ومنصات إطلاق مناسبة للطائرات قصيرة المدى. ونتيجة ذلك، بات أسطول الظل يحتل موقعاً أكثر مركزية في استراتيجية الحرب الهجينة التي تعتمدها موسكو في أوروبا.

وخلال مقابلة نشرتها وكالة "إنترفاكس" التابعة للكرملين في أكتوبر الماضي، قدم بافيل غوديف، الخبير الروسي الرائد في الأمن البحري وسياسة المحيطات في "معهد بريماكوف للاقتصاد العالمي والعلاقات الدولية" (IMEMO)، رداً حازماً على الجهود الغربية الرامية إلى كبح أسطول الظل الروسي. وكانت رسالته صريحة: عمليات نقل البضائع من سفينة إلى أخرى مستمرة ولا يمكن إيقافها. وعلى رغم تعقب السفن ومنعها من دخول الموانئ الأوروبية والأميركية والبريطانية والكندية، أشار إلى أنه "إذا احتاجت تلك السفن إلى إعادة التزود بالمؤن أو بالوقود، فيمكنها أن ترسو في دول وموانئ أخرى".

السوفيات في البحر

إن استعداد موسكو للدخول في عمليات بحرية ذات طابع هجومي ليس جديداً، بل له تاريخ طويل. فعلى مدى القرن الـ20، استخدم السوفيات سفناً غير عسكرية في أنشطتهم الاستخباراتية، وكذلك في شن عمليات تخريبية من البحر. ومنذ بداية الحقبة البلشفية تقريباً، اعتمد العملاء السوفيات على السفن التجارية وسفن الشحن وغيرها من السفن المدنية لنقل عملائهم في أنحاء أوروبا، أو إعادتهم لموسكو في حال واجهوا مشكلات مع السلطة السوفياتية الحاكمة.

وعام 1930، على سبيل المثال، اختطف عملاء سوفيات الجنرال ألكسندر كوتيبوف من أحد شوارع باريس، وهو زعيم "الاتحاد العام العسكري الروسي" (ROVS)، الذراع العسكرية لأبرز منظمة للمهاجرين الروس المناهضين للسوفيات. وخدّر العملاء كوتيبوف ووضعوه فاقداً للوعي في سيارة، ثم نقلوه إلى مرسيليا، ووضعوه في عنبر سفينة تجارية سوفياتية متجهة إلى نوفوروسيسك، أحد موانئ البحر الأسود. ولم يصل كوتيبوف إلى روسيا السوفياتية، إذ مات في عنبر السفينة. لكن خليفة كوتيبوف في "الاتحاد العسكري الروسي"، الجنرال يفغيني ميلر، اختطف أيضاً في باريس عام 1937، ونقل في عنبر سفينة بخارية سوفياتية إلى موسكو، قبل إعدامه في لوبيانكا.

واستمرت الاستخبارات السوفياتية في استخدام الأسطول التجاري طوال الحرب الباردة. وكانت هذه إحدى مهمات أوليغ غورديفسكي، الضابط في جهاز الاستخبارات السوفياتي "كي جي بي" الذي أصبح لاحقاً عميلاً مزدوجاً لمصلحة جهاز الاستخبارات الخارجية (أم آي 6)، عندما عيّن في كوبنهاغن بالدنمارك، في أواخر الستينيات من القرن الـ20. وكتب غورديفسكي في مذكراته: "كانت مهمتي أن أضع عملاء استخبارات بسرية على إحدى السفن البخارية التي تبحر بين لوهافر ولينينغراد. كانت كل عملية عبور من هذا القبيل يخطط لها بدقة متناهية. وكان من الضروري التفاوض مع قبطان السفينة أو حتى تجنيده كعميل". واستخدم الأسطول التجاري أيضاً لتهريب العملاء السوفيات الذين انكشفوا. وهكذا نجا كيم فيلبي، العميل المزدوج البريطاني، من الاعتقال في بيروت، إذ هرب إلى السفارة السوفياتية ونقل لاحقاً على متن سفينة الشحن السوفياتية دولماتوفا، المتجهة إلى أوديسا.

وخلال هذه العقود نفسها، مهد السوفيات الطريق لعمليات تخريب معقدة تنفذ من البحر. فعام 1938، أرسلت غواصة سوفياتية متطورة للغاية إلى خليج قرب فلاديفوستوك في مناورة بالغة السرية تهدف، وفقاً للأمر العسكري الذي وصفها، إلى "إنزال قوات للاستطلاع وتنفيذ عمليات تخريبية على الشاطئ". وعدّ المسؤولون السوفيات هذه المناورة ناجحة. وخلال الحرب العالمية الثانية، استخدمت الاستخبارات السوفياتية الغواصات على نطاق واسع لنشر عملاء في منطقة البلطيق، على رغم النتائج المتباينة. وفي الفترة الممتدة بين عام 1941 وعام 1942، فقدت موسكو ثلاث غواصات أثناء محاولتها إنزال مخربين سوفيات على الشاطئ.

خلص السوفيات إلى أن السفن المدنية يمكن استخدامها في عمليات تخريب ضد أوروبا

 

وعام 1953، أنشأت البحرية السوفياتية وجهاز الاستخبارات العسكرية الروسي (GRU) وحدات تخريب بحرية ضمن الأساطيل السوفياتية. وأنشئت هذه الوحدات التي سميت "نقاط الاستخبارات البحرية" MRP، في أسطولي البحر الأسود والبلطيق، وكلفت مهمة تنفيذ عمليات تخريبية على الشاطئ، من بين مهمات أخرى. وعلى رغم عدم تفعيله خلال الحرب الباردة ضد أهداف غربية، فإن برنامج التخريب ظل محور اهتمام الاستخبارات السوفياتية. وأصبحت نقطة الاستخبارات البحرية التي يقع مقرها على جزيرة اصطناعية صغيرة في البحر الأسود قرب مدينة أوتشاكوف، المركز الرئيس لتدريب القوات الخاصة البحرية التابعة للاستخبارات العسكرية، وجرى توسيع مرافقها عام 1968.

وخلال سبعينيات القرن الـ20، اندمجت أخيراً هاتان الممارَستان السوفياتيتان القديمتان، وهما استخدام السفن التجارية لأغراض استخباراتية والتخطيط للتخريب البحري. ومع بدء الدول الأعضاء في "الناتو"، بما في ذلك بلجيكا والدنمارك وهولندا والنرويج والمملكة المتحدة، استخراج النفط والغاز بكثافة في بحر الشمال، رأت أجهزة الاستخبارات الروسية إمكانات جديدة لنشر عناصرها سراً باستخدام السفن المدنية. وقد أرسل فريق من المخربين البحريين السوفيات في رحلة استطلاعية بحثية، وخلص تقريره إلى إمكان استخدام السفن المدنية، فضلاً عن الغواصات، لنشر المخربين في عمليات ضد الدول الغربية.

وخلال الأعوام الأخيرة للاتحاد السوفياتي، بدأ الجنود على الجزيرة الاصطناعية أيضاً بتدريب عناصر وحدة العمليات الخاصة "فيمبل" التابعة لجهاز "كي جي بي"، والمكلفة تنفيذ مهمات سرية في الخارج. ويبدو أن التدريب على التخريب البحري كان المجال الوحيد تقريباً الذي لم تتنافس فيه استخبارات الجيش مع جهاز "كي جي بي".

تكنولوجيا منخفضة وقلق مرتفع

أدى انهيار الاتحاد السوفياتي إلى تعطيل كبير في قدرات موسكو على تنفيذ عمليات التخريب. فعام 1992، انشق ضابط الاستخبارات العسكرية الروسية(GRU) ، ستانيسلاف لونيف، إلى الولايات المتحدة وكشف عن خطط الطوارئ التي وضعها كل من جهاز "كي جي بي" وجهاز الاستخبارات العسكرية الروسية (GRU) لتنفيذ عمليات تخريبية في الغرب. كما ألحق انهيار الإمبراطورية السوفياتية ضرراً بالغاً ببنية روسيا التحتية الخاصة بالتخريب. فعندما نالت أوكرانيا استقلالها عام 1991، بقي أسطول البحر الأسود، المتمركز في شبه جزيرة القرم، تحت السيطرة الروسية، لكن لواء المخربين البحريين في الجزيرة الاصطناعية أصبح تحت سلطة القوات البحرية الأوكرانية الناشئة، مما وجه ضربة موجعة لقدرات روسيا التخريبية.

لكن التدريب والإطار المؤسسي لم يضيعا بالكامل. فعندما أعادت أجهزة الاستخبارات الروسية تنظيم نفسها تحت قيادة بوتين، أعيد تفعيل خيار التخريب. ومع اندلاع الحرب الشاملة في أوكرانيا التي يعدها الكرملين ووكالاته حرباً وجودية مع الغرب، ضخت الاستخبارات الروسية موارد ضخمة في هذه الاستراتيجية. واليوم، تعد نقطة الاستخبارات البحرية في منطقة كالينينغراد، في بحر البلطيق، القاعدة الرئيسة للمخربين البحريين الروس. ومن المحتمل أن عودة روسيا للتخريب البحري تلقت دعماً إضافياً مع تعيين إيغور كوستيوكوف، الأميرال البحري المخضرم، رئيساً لجهاز الاستخبارات العسكرية الروسي (GRU) عام 2018، وتعيين نيكولاي باتروشيف، الحليف القديم لبوتين والرئيس السابق لمجلس الأمن القومي الروسي وجهاز الأمن الفيدرالي الروسي (FSB)، رئيساً للهيئة البحرية الروسية عام 2024، وهي أعلى وكالة حكومية تنسق الأنشطة البحرية للدولة الروسية.

تقليدياً، عانت الاستخبارات الروسية ضعف التنسيق بين وكالاتها وأجهزتها المختلفة. ولكن نظراً إلى أن العمليات البحرية تدار من خلال عمليات مشتركة بين الجيش والاستخبارات، يبدو أنها نجت إلى حد كبير من هذه المشكلة. فمنذ الحقبة السوفياتية، تعاونت أجهزة الاستخبارات المختلفة في موسكو، بما في ذلك الاستخبارات العسكرية وجهاز الأمن الفيدرالي الروسي، تعاوناً وثيقاً خلال العمليات البحرية. علاوة على ذلك، فإن وجود قوارب عسكرية رسمية مثل سفينة المراقبة التي رصدت قرب المملكة المتحدة هذا الخريف، إضافة إلى سفن أسطول الظل، يظهر مدى التنسيق بين ناقلات النفط "الظلية" من جهة والأجهزة العسكرية والاستخباراتية من جهة أخرى. وخلال الأشهر الستة الماضية، رصدت أيضاً سفن حربية روسية ترافق سفن أسطول الظل في بحر البلطيق وحتى في القنال الإنجليزي.

شوهدت سفن حربية روسية ترافق سفن أسطول الظل

 

أما العنصر الأخير في هذه العودة للحرب الهجينة البحرية، فهو برنامج روسيا للمسيّرات الذي يشهد نمواً سريعاً. فهذه الطائرات المسيّرة لا تحتاج لأن تكون دقيقة أو متقدمة تكنولوجياً أو حتى مسلحة كي تحقق أهدافها، إذ إن مجرد رصدها أدى إلى تعطيل عمل المطارات لساعات، إن لم يكن لأيام. وفي الوقت نفسه، يوفر ميدان القتال الواسع والدموي في أوكرانيا ظروفاً ممتازة لتدريب أعداد كبيرة من مشغلي المسيّرات الذين يكتسبون خبرة من خلال المعارك الحقيقية.

وحققت حملة روسيا نتائج كبيرة بالفعل. فباستخدام أعداد قليلة من المسيّرات، تمكنت موسكو من تعطيل الطيران المدني في دول أوروبية عدة، مما جعل التهديد أقرب بكثير إلى الجمهور الأوروبي. ويمكنها أيضاً تعطيل منشآت عسكرية مهمة عن طريق التحليق فوقها أو مراقبتها، كما أظهرت حادثة الطائرة المسيّرة في قاعدة فولكل الجوية في هولندا في نوفمبر الجاري. وللتصدي لهذه التكتيكات، لا تملك الحكومات الغربية خياراً سوى تعزيز جهود مكافحة التجسس ومكافحة التخريب، وزيادة عمليات التوقيف والتفتيش في بحر البلطيق وبحر الشمال، إضافة إلى الاستثمار المكثف في حماية المطارات والبنى التحتية الوطنية الأخرى.

وهناك بالفعل خطوات مشجعة قيد التنفيذ. فكما ذكرت "رويترز"، بعد الاختراق الذي وقع قرب مطار بروكسل في نوفمبر الجاري، طلبت السلطات البلجيكية مساعدة من فرق مكافحة المسيّرات في بريطانيا وفرنسا وألمانيا، بما في ذلك نحو 20 متخصصاً من سلاح الجو الملكي البريطاني يمتلكون خبرة في تشويش الإشارات. وفي 20 نوفمبر، ناقش مسؤولون أوروبيون أيضاً تدابير جديدة يمكن اتخاذها ضد سفن أسطول الظل، بما في ذلك منح صلاحيات موسعة للصعود إلى السفن وإدخال أشكال جديدة من العقوبات.

لكن هذه القوارب الغامضة التي تبحر قرب السواحل الأوروبية لم تعد مجرد وسيلة تستخدمها روسيا لبيع النفط في سبيل دعم قاعدتها العسكرية الصناعية، بل تمثل أيضاً تهديداً عسكرياً واستخباراتياً قائماً بذاته. ومن أجل التعامل مع هذا التهديد بصورة حقيقية، يتعين على الأوروبيين أن يدركوا أن هذا الأسطول بات بالفعل يزعزع استقرار بلدانهم، وقد يستخدم يوماً ما لدعم أو حتى إطلاق عمليات هجومية في أوروبا.

 

مترجم عن "فورين أفيرز" 25 نوفمبر (تشرين الثاني) 2025

أندريه سولداتوف زميل أول غير مقيم في مركز تحليل السياسات الأوروبية، وشريك مؤسس ورئيس التحرير في موقع  Agentura.ru، يتولى مراقبة أنشطة الاستخبارات الروسية.

إيرينا بوروغان زميلة أولى غير مقيمة في مركز تحليل السياسات الأوروبية، وشريكة مؤسسة ونائبة رئيس التحرير في موقع Agentura.ru.

 وهما مؤلفا كتاب "أصدقاؤنا الأعزاء في موسكو: القصة الخفية لجيل محطم".

اقرأ المزيد

المزيد من آراء