ملخص
تكشف أبحاث جديدة أن ألمانيا بعد السابع من أكتوبر 2023 شهدت اتساعاً غير مسبوق في أدوات القمع التي استهدفت المتضامنين مع فلسطين عبر حظر التظاهرات وتوسيع الملاحقات القانونية، مما جعل حرية التعبير نفسها في مواجهة اختبار وجودي.
منذ اندلاع الحرب على غزة بعد السابع من أكتوبر (تشرين الثاني) 2023، تشهد ألمانيا موجة متصاعدة من الإجراءات والتدخلات الأمنية والقانونية ضد مناصري القضية الفلسطينية داخل أراضيها. الاعتقالات وحظر التظاهرات وإلغاء الفعاليات الثقافية والملاحقات الطلابية في الجامعات أصبحت عناصر ثابتة في مشهد سياسي، يثير أسئلة جوهرية حول حدود حرية التعبير والتجمع في دولة تقدم نفسها باعتبارها نموذجاً أوروبياً لحقوق الإنسان.
وبحسب الدراسة الأوروبية الصادرة عن "المعهد الهولندي العابر للحدود الوطنية" Dutch Transnational Institute (TNI) تحت عنوان "التضامن تحت القمع" Solidarity Under Attack، والتي اعتمدت على 18 شهراً من البحث والمقابلات، فإن ما عرف بـحركة التضامن مع فلسطين في ألمانيا أصبحت منذ بداية الحرب وحتى نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري هدفاً لحملة قمعية منهجية وغير مسبوقة.
وتفيد الدراسة بأن أحد أخطر التطورات يتمثل في توظيف قوانين الهجرة والإقامة ضد الناشطين، سواء عبر رفض طلبات التجنيس على خلفية "مواقف سياسية"، أو الامتناع عن تجديد الإقامات، أو حتى التهديد بالترحيل. وتوثق الدراسة حالات رفضت فيها الجنسية أو التأشيرات لمجرد وضع "إعجاب" (نقرة "لايك") على منشور ينتقد تصرفات إسرائيل، وهو ما يجعل الخط الفاصل بين حرية الموقف السياسي وفرض الولاء خطاً مبهماً ينطوي على أخطار بالغة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
خلال الأسابيع التي تلت السابع من أكتوبر 2023 فرضت السلطات الألمانية حظراً واسعاً على التظاهرات المؤيدة لفلسطين، خصوصاً داخل برلين التي سجل فيها أكثر من 600 اعتقال خلال 10 أيام فحسب. وتوثق الدراسة استخدام الشرطة لرذاذ الفلفل والكلاب البوليسية في تفريق تجمعات سلمية تضم طلاباً وقاصرين، بينما جرى تصوير ارتداء الكوفية أو رفع العلم الفلسطيني كرموز "تهدد النظام العام".
الجامعات
وضمن سياق مواز، يسلط تحقيق صحافي منشور في موقع "أنتولد" المستقل UntoldMag بعنوان "داخل محاكمات ألمانيا ضد التضامن مع فلسطين" الضوء على حال الجامعات، إذ تحولت ساحات يفترض أنها مخصصة للنقاش الأكاديمي إلى مسارح لمحاكمات سياسية. يقدم التحقيق روايات لطلبة شاركوا في اعتصامات سلمية تضامنية، فوجدوا أنفسهم أمام المحاكم بتهم تتعلق بـ"التعدي على ملكية جامعية" أو "عرقلة النظام". وفي إحدى القضايا الأكثر تداولاً، يروي خريج من جامعة هومبولت في برلين، كيف تجاهلت المحكمة حججه القانونية والأخلاقية، وعدت احتجاجه خارج نطاق "النقاش الأكاديمي"، وهي المساحة الحرة داخل الجامعات التي يفترض أن يجري فيها تبادل الآراء والأفكار بحرية واحترام وليس وفق اعتبارات سياسية أو أمنية، فدانته بجرم التعدي على الملكية وغرمته مالياً.
ويشير التحقيق بوضوح إلى ما يسميه "وهم الحياد القانوني". فحتى في الحالات التي تسقط فيها المحكمة التهم أو تنتهي من دون إدانة، يظل الهدف الحقيقي خلق مناخ ترهيب يمنع الطلبة من المشاركة في أي فعل تضامني، إذ توظف السلطات بنى قانونية فضفاضة مثل "الإخلال بالنظام العام" و"التحريض" لتجريم الشعارات والرموز، بما في ذلك الشعار المعروف "من البحر إلى النهر، فلسطين حرة"، على رغم أن محاكم عدة قضت سابقاً بأنه لا يشكل بحد ذاته دعوة للعنف.
هذا الاستخدام المكثف للقانون يعيد إلى الأذهان ممارسات سابقة لقمع المعارضة تحت شعار "حماية الديمقراطية". ويشير التحقيق إلى أن هذه الآليات تتغذى اليوم من صعود اليمين المتطرف ومن خطاب سياسي يلقي باللوم على "معاداة السامية المستوردة"، ويحمل المهاجرين مسؤولية التوترات الاجتماعية. ومن هنا برزت مشاريع قوانين داخل بعض المقاطعات تشترط الاعتراف بحق إسرائيل في الوجود للحصول على الجنسية الألمانية، مما يحول الولاء السياسي إلى معيار قانوني، ويعزز منطق الإقصاء.
المجال الثقافي
وفي الجانب الثقافي، توضح الدراسة أن موجة القمع تمتد إلى الفنون والمسارح والمراكز الثقافية. فقد أُلغيت فعاليات فنية وسُحبت تمويلات من مؤسسات تستضيف أصواتاً داعمة لفلسطين. وداخل بعض المدارس مُنع ارتداء الكوفية باعتبارها "رمزاً سياسياً". وترى الدراسة أن هذه الإجراءات تمثل سعياً لإعادة تشكيل الفضاء العام بما ينسجم مع سردية رسمية تربط أمن إسرائيل بالأمن القومي الألماني، على حساب حرية التعبير والتنوع الثقافي.
ويعد مثالاً واضحاً لهذه القيود ما حصل مع الصحافية الأميركية-الروسية ماشا غيسين، بعد مقالتها المنشورة في مجلة "نيويوركير" أواخر عام 2023 حول ثقافة الهولوكوست في ألمانيا، والتي قامت فيها بتشبيه الوضع في غزة بالـ"غيتو"، في زمن القمع النازي لليهود داخل أوروبا، لافتة إلى أن "ثقافة ذكرى الهولوكوست" في ألمانيا تحولت إلى "بيروقراطية ضخمة" تتحكم بكتابة التاريخ وتسمي من ينتقدون سياسات إسرائيل "معادين للسامية". والتعريف الألماني لهذه المعاداة، بنظرها صارم، ويسهم بـ"خنق النقاش المشروع، وبخاصة حول إسرائيل".
وكانت غيسين تتحضر لتسلم جائزة حنا إرندت للفكر السياسي، ولكن الحفل تأجل بسبب الغضب الألماني على ما تضمنته مقالتها. وقد علقت على الأمر حينها بالقول "أنا بالتأكيد مجرد شخص آخر في سلسلة طويلة من الأشخاص الذين سحبت جوائزهم أو تأجلت أو ألغيت دعوتهم إلى نشاطات في ألمانيا بسبب ’خطيئة‘ ما يسميه الألمان المقارنة بالهولوكوست".
وواجهت الكاتبة الفلسطينية عدنية شبلي إقصاء مماثلاً بعدما ألغي حفل تكريمها خلال أكتوبر (تشرين الأول) 2023 بجائزة "ليبيراتور" LiBeratur عن روايتها "تفصيل ثانوي" التي عالجت في صورة خيالية قصة واقعية لاغتصاب وقتل فتاة بدوية على يد وحدة من الجيش الإسرائيلي عام 1949. وهي حادثة دانت فيها محكمة إسرائيلية الجنود في ما بعد. وبعيد إلغاء الحفل، أعلن مدير معرض فرانكفورت للكتاب الذي كان يفترض به استضافة الحدث أنه "لا يمكن أبداً السماح للإرهاب بالانتصار"، وهو كلام يبدو خلطاً بدائياً وسطحياً ما بين إظهار الدعم لإسرائيل ومحاولة معاقبة كل ممثل عن العرب أو الفلسطينيين على هجوم "حماس" الدموي.
بالعودة إلى حراك التضامن الفلسطيني، أشارت الدراسة إلى أنه على رغم التضييق الذي مارسته السلطات لم يتراجع زخمه. ففي برلين وهامبورغ وفرانكفورت، خرجت تظاهرات شارك فيها عشرات الآلاف للمطالبة بوقف الإبادة واحترام القانون الدولي. ويتمسك الجيل الجديد من النشطاء، من فلسطينيين وألمان ويهود مناهضين للصهيونية، بنقل النقاش إلى فضاء سياسي وأخلاقي أرحب، متحدين محاولات التشويه والتجريم.
إن التضامن مع فلسطين، كما يستنج النصان، تحول إلى اختبار لصدقية المبادئ التي تتغنى بها الديمقراطيات الغربية، إذ ماذا يعني أن تحرم دولة طائفة من الناس من حقوقها الإنسانية لأسباب أو حساسيات تاريخية والتي لم يعد يتقبلها الجيل الحالي كأمور منزلة؟ والتحدي الحقيقي يكمن في قدرة القوى المدنية والأكاديمية والثقافية على مقاومة هذا الانحدار، وإعادة الاعتبار لحرية التعبير باعتبارها حقاً غير قابل للتجزئة أو التفاوض.