Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هل يشكل موقف البرلمان الأوروبي تحولا في مسار الأزمة السودانية؟

الانتهاكات الواسعة لـ"الدعم السريع" دفعت الاتحاد إلى تجاوز دائرة التحذير الأخلاقي نحو موقع الفعل السياسي عبر توصيف أقرب إلى جرائم الحرب

يحاول الاتحاد أن يرسم لنفسه دوراً يقف بين الضغط السياسي والاستجابة الإنسانية (أ ف ب)

ملخص

بين سيناريوهين، تقف أوروبا أمام اختبار جوهري، يكمن في مدى تحويل مبادئها إلى قوة سياسية فاعلة، نجاحها، في نهاية المطاف، سيكون أحد مفاتيح تحديد صورة المرحلة المقبلة في السودان.

في وقت تتقاطع فيه كلفة الحرب السودانية مع رهانات الأمن الإقليمي والدولي، جاء بيان مجلس الاتحاد الأوروبي في الـ20 من نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري، ليشكل واحداً من أكثر المواقف الدولية صرامة ووضوحاً تجاه الانتهاكات التي ترتكبها قوات "الدعم السريع"، لا سيما بعد استيلائها على مدينة الفاشر. فقد اختار الاتحاد لغة حاسمة تخرج الموقف الأوروبي من دائرة التحذير الأخلاقي إلى موقع الفعل السياسي، مستنداً إلى شهادات أممية وحقوقية أثبتت نمطاً من العنف الواسع والممنهج ضد المدنيين.

وصف الاتحاد الأوروبي هذه الأعمال بأنها قد ترقى إلى "جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية"، يفتح الباب أمام استخدام أدوات مساءلة دولية طالما تجنبتها الدبلوماسية الأوروبية في ملفات مشابهة، ويعكس اعتماد تدابير تقييدية ضد عبدالرحيم دقلو، الرجل الثاني في قوات "الدعم السريع"، اتجاهاً أوروبياً نحو ربط الإدانة السياسية بإجراءات ملموسة تستهدف شبكات القيادة. وفي الوقت ذاته، أعاد الاتحاد تأكيد استعداده لتوسيع هذه التدابير لتشمل كل الجهات التي تزعزع السودان أو تعوق مساره السياسي، في إشارة واضحة إلى إدراك أوروبا للطابع المركب للصراع وتشابكاته الإقليمية. وجدد الاتحاد دعوته للأطراف الخارجية لوقف تدفق السلاح والمواد ذات الصلة إلى جميع أطراف النزاع، تماشياً مع قرارات مجلس الأمن، في محاولة لمنع الحرب من التحول إلى صراع بالوكالة مفتوح الموارد.

وجاء إدراج مسؤوليات الأطراف السودانية، الجيش و"الدعم السريع" والميليشيات المرتبطة بهما، في صلب البيان ليضع المسؤولية السياسية والقانونية في موقعها الطبيعي، مؤكداً أن إنهاء الحرب ليس مسؤولية طرف واحد، بل التزام جماعي يطاول من يقدمون دعماً مباشراً أو غير مباشر لهذه القوى. وفي موازاة ذلك، أشار البيان إلى الأزمة الإنسانية المتفاقمة، ولا سيما في مخيم "زمزم"، حيث يواجه المدنيون حصاراً يضاعف معاناتهم ويجعلهم في مرمى النيران.

ردود الفعل السودانية، وفي مقدمها تعليق حاكم دارفور مني أركو مناوي، كشفت عن أن البيان الأوروبي تجاوز المألوف من حيث الحدة اللغوية، وأنه قد يفتح الباب لمطالب جديدة بتصنيف قوات "الدعم السريع" كمنظمة إرهابية. وفي الخلفية، تتواصل المواجهات العنيفة في الفاشر، فيما يبني الاتحاد الأوروبي على سجله السابق في فرض العقوبات، بما فيها تلك التي طاولت قادة في الحركة الإسلامية وقادة عسكريين في الجيش و"الدعم السريع"، مؤكداً استعداده لمواصلة استخدام أدواته لوقف الانتهاكات وتعزيز المساءلة الدولية. بهذه المقاربة، يحاول الاتحاد أن يرسم لنفسه دوراً يقف بين الضغط السياسي والاستجابة الإنسانية، في مسعى إلى احتواء حرب تتجاوز تداعياتها حدود السودان إلى مشهد إقليمي بالغ الحساسية.

مراحل التحركات

تطور المسار في الإجراءات والمواقف الأوروبية إزاء الانتهاكات في الحرب السودانية، خصوصاً بعد أحداث الفاشر في أواخر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، لتشكل موقفاً متسلسلاً. جاء أولاً مشروع قرار البرلمان الأوروبي في أواخر أكتوبر وبداية نوفمبر، عبر توصيف الانتهاكات بأنها "جسيمة ومنهجية" وتشمل الاغتصاب الجماعي، والتصفية العرقية، وحصار الإغاثة. ودعا القرار إلى إنشاء آليات مساءلة فاعلة وفرض عقوبات صارمة على الأفراد والجهات المسؤولة.

وفي منتصف نوفمبر ظهرت تقارير آليات الأمم المتحدة، فقد رفعت مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان تقارير مفصلة حول أحداث الفاشر والانتهاكات الواسعة من مذابح، وإعدامات ميدانية، واعتداءات على منشآت طبية، وجرائم عنف جنسي. ودعت إلى تحقيق طارئ وإنشاء آلية مستقلة لجمع الأدلة وتحديد المسؤولين تمهيداً للملاحقة الدولية. وقدمت منظمات مثل "هيومن رايتس ووتش" و"أمنستي" مواد توثيقية ميدانية، هي عبارة عن روايات ناجين، وصور أقمار اصطناعية، وشهادات عن حصار وتجويع ممنهج. وأكدت التقارير أن الانتهاكات اتخذت طابعاً منظماً، وطالبت بعقوبات مستهدفة تشمل القادة والممولين وشبكات التسليح. ونشرت وكالات دولية مثل "رويترز" و"أسيوشيتد برس" و"الغارديان" و"يورونيوز" تحليلات حول العقوبات الأوروبية، ونقاشات البرلمان، وتأثير المواقف الجديدة على علاقة الاتحاد بالولايات المتحدة، مع تركيز على البعد الجيوسياسي للأزمة. وعلى إثرها ظهرت بيانات دول أعضاء في الاتحاد الأوروبي، إذ دعمت فرنسا ودول أوروبية أخرى هذه المواقف عبر بيانات أكدت توصيف الجرائم وربطت جهودها الدبلوماسية بقرارات الاتحاد.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وأخيراً جاء بيان الممثل السامي للاتحاد الأوروبي، الذي دان "بأشد العبارات، الفظائع المرتكبة من قوات (الدعم السريع)، ولا سيما بعد سقوط الفاشر". ركز البيان على الانتهاكات الواسعة التي شملت القتل العرقي، والعنف الجنسي، والتجويع، ومنع المساعدات باعتبارها نمطاً منظماً من الجرائم. وشدد على ضرورة فتح ممرات إنسانية فورية وفرض تدابير تقييدية على قادة "الدعم السريع"، مؤكداً استعداد الاتحاد لتوسيع العقوبات وضمان المساءلة عبر الآليات الدولية. وفي البعد الدبلوماسي، يدعو البيان إلى الالتزام بحظر السلاح المنصوص عليه في قراري مجلس الأمن 1556 و1591، ويحث الأطراف السودانية على العودة إلى مفاوضات تؤدي إلى وقف دائم لإطلاق النار، ويؤكد استمرار العمل مع "الرباعية" والشركاء الدوليين لتعزيز مسار الحل السلمي. أما على الصعيد الإنساني، فيشدد الاتحاد على أن حماية المدنيين ووصول المساعدات لا يحتملان التأجيل، داعياً إلى فتح ممرات آمنة وتمكين وجود أممي دائم. وفي الختام، يربط البيان بين إنهاء العنف وبناء عملية سياسية شاملة بقيادة سودانية، مع تأكيد وحدة وسيادة السودان ورفض أية هياكل موازية تزيد من تعقيد الأزمة.

تبلور الإدانة

يكشف بيان مجلس الاتحاد الأوروبي وما رافقه من نقاشات برلمانية، عن تحول واضح في المزاج السياسي داخل أوروبا إزاء النزاع السوداني وبخاصة سلوك قوات "الدعم السريع" في دارفور. فالإشارات المتكررة في الوثائق الأممية والأوروبية إلى نمط عنف منظم، من قتل جماعي واستهداف عرقي ممنهج، مروراً باستخدام العنف الجنسي كأداة لترويع المجتمعات، وصولاً إلى تقييد المساعدات الإنسانية، دفعت مؤسسات الاتحاد إلى تجاوز لغة القلق التقليدية نحو توصيف أقرب إلى جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية. هذا الانتقال ليس لغوياً بقدر ما هو سياسي، إذ يعكس إدراكاً متنامياً بأن الأزمة السودانية لم تعد مجرد صراع داخلي، بل تهديداً لشرعية النظام الدولي القائم على حماية المدنيين.

في الداخل الأوروبي، تبلورت الإدانة ضمن بيئة سياسية مركبة. فالأحزاب ذات البعد القيمي والحقوقي كثفت ضغوطها على مؤسسات الاتحاد، مستندة إلى شهادات ميدانية موثقة وشبكة من المنظمات الحقوقية الأوروبية والدولية. هذا التفاعل بين أخلاقية الموقف وضغوط الرأي العام دفع إلى صياغة قرارات تحمل مزيجاً من الدقة القانونية والإلحاح الدبلوماسي، تراوح ما بين الدعوة لآليات مساءلة مستقلة وفرض عقوبات وحظر توريد الأسلحة وتعليق التعاون الأمني. هنا تتجلى محاولة أوروبا تحويل الاستجابة إلى أدوات نفوذ استراتيجية، بحيث تصبح حقوق الإنسان جزءاً من هندسة السياسة الخارجية.

 

لكن البعد الإقليمي يضع هذه الإدانة أمام تعقيدات جيوسياسية حقيقية. فالعلاقات الأوروبية مع دول المنطقة والقرن الأفريقي، ومع أطراف يشتبه في دفاعها أو دعمها لأطراف داخل النزاع، تجعل من الصعب صياغة موقف حاد من دون حسابات دقيقة. لهذا شهدت المسودات تفاوضاً لغوياً مكثفاً، أزيلت فيه بعض الإشارات المباشرة لدول بعينها اتقاء لتصعيد دبلوماسي غير محسوب. النتيجة ليست تراجعاً، بل مقاربة تتجنب المواجهة الشاملة، وتستعيض عنها بضغط متعدد الأطراف وعقوبات مستهدفة تمنع الانزلاق نحو شقاق أوسع.

وعلى المستوى الأمني - الاستراتيجي، تتقدم ثلاثة مسارات مترابطة، هي حماية المدنيين عبر انتزاع التزامات ميدانية بفتح الممرات الإنسانية، وبناء منظومة مساءلة قائمة على أدلة موثقة تتيح لاحقاً فتح المسارات القضائية، وأخيراً هندسة عقوبات ذكية تستهدف شبكات التمويل والدعم من دون الإضرار بالمجتمعات المحلية. هذه المسارات تجعل الإدانة الأوروبية أكثر من موقف معنوي، في محاولة لفرض معادلة جديدة على النزاع، تعيد الاعتبار للمدنيين وتلزم القوى الإقليمية والدولية بالتخلي عن رمادية المواقف.

حسابات جيوسياسية

تطرح الإدانة الأوروبية لقوات "الدعم السريع" جملة من الأخطار والفرص الجيوسياسية التي تتجاوز حدود النزاع السوداني لتلامس بنية الأمن الإقليمي في القرن الأفريقي وحوض البحر الأحمر، وتعيد تشكيل مقاربة أوروبا للقضايا الأفريقية في لحظة تتقاطع فيها التهديدات الإنسانية مع الحسابات الاستراتيجية. فالإدانة، وإن حملت مضموناً قانونياً وأخلاقياً، تعد أيضاً إشارة سياسية ترسل رسائل متعددة الاتجاهات إلى الأطراف السودانية، والقوى الإقليمية، وإلى النظام الدولي الذي يشهد اختباراً لقدرة آلياته على منع الانهيارات المؤسسة للعنف.

على مستوى الأخطار، يكمن التحدي الأول في احتمال نشوء توتر دبلوماسي مع دول إقليمية ترتبط بحسابات معقدة داخل الصراع السوداني. فإذا فسرت الإدانة الأوروبية على أنها استهداف غير مباشر لحلفاء بعينهم فقد تتسع فجوات الثقة، ويعاد رسم خطوط النفوذ بطريقة لا تخدم المسار الإنساني ولا تسهم في خفض التصعيد. كما أن الصراع السوداني يحمل قابلية انتقاله عبر الحدود، سواء عبر تدفقات السلاح، أو انهيار خطوط الإدارة المدنية، أو موجات نزوح قد تصل تأثيراتها إلى السواحل الأوروبية، بما يضيف طبقة جديدة من الهشاشة إلى ملفات الهجرة واللجوء. ويبرز خطر آخر لا يقل أهمية، وهو أن تؤدي العقوبات غير المدروسة إلى خلق رواية محلية توظفها قوات "الدعم السريع" باعتبارها ضحية "استهداف خارجي"، مما يعزز قدرتها على التجنيد أو ابتزاز المجتمعات المحلية.

 

في المقابل، تفتح الإدانة الأوروبية فرصاً جيوسياسية ثمينة، إذا ما أحسن توظيفها. فهي تمنح أوروبا موقعاً قيادياً لإعادة بناء شراكات أفريقية قائمة على حماية المدنيين، وسيادة القانون، ومساءلة مرتكبي الانتهاكات، لا على منطق المصالح الانتهازية قصيرة المدى. ويمكن للإدانة أن تشكل رافعة لإطلاق مبادرات متعددة الأطراف لوقف تدفق الأسلحة والتمويل غير المشروع إلى الجماعات المسلحة، بما يعيد ضبط ديناميات القوة في الإقليم ويحد من قدرات الفاعلين غير النظاميين على إطالة أمد الحرب.

سيناريوهان محتملان

يتضح أن الموقف الأوروبي الأخير لا يقف عند حدود الإدانة الرمزية أو لغة التقارير الدبلوماسية المألوفة، بل يؤسس لطرح أكثر جرأة يسعى إلى تحويل التوصيات إلى مسارات عملية قابلة للقياس، بما يجعل البيان خطوة أولى في معادلة جديدة تتجاوز التردد التقليدي الذي طبع المواقف الدولية إزاء الأزمة السودانية. فالتوصيف الدقيق للفظائع التي ارتكبت في الفاشر وما حولها، بما في ذلك الاستهداف العرقي والعنف الجنسي والتجويع كسلاح حرب، لا يهدف فقط إلى إدانة الجناة، بل إلى رفع مستوى الالتزام الأوروبي من التحذير الأخلاقي إلى واجب التحرك القانوني والسياسي.

في هذا الإطار يبرز سيناريوهان: الأول يقوم على أن الاتحاد الأوروبي ينجح في تحويل رؤيته النظرية إلى منظومة تنفيذية متكاملة. ويجري تمويل آليات التحقيق وتعزيزها عبر شراكة ثلاثية أوروبية – عربية - أفريقية، بما يمنحها شرعية مزدوجة ويحصنها من التسييس. وتفعل العقوبات الذكية تدريجاً، بحيث تضيق الخناق على شبكات الدعم والتمويل المرتبطة بالانتهاكات من دون الإضرار بالنسيج الاقتصادي للمجتمعات المحلية. وتنشأ آلية إنسانية مضمونة دولياً لفتح الممرات ونشر مراقبين مستقلين، مما يكسر قدرة الأطراف المتحاربة على استخدام الغذاء والدواء كسلاح تفاوضي. في هذا المسار، تصبح أوروبا لاعباً مركزياً يفرض معادلة جديدة، عبارة عن ضغط محسوب، ومساءلة غير قابلة للتراجع، ومسار دبلوماسي مفتوح لكن مضبوط بمعايير صارمة لحماية المدنيين.

أما السيناريو الثاني، وهو الأكثر تعقيداً، فيقوم على أن الدعم السياسي الأوروبي لا يترجم إلى نفوذ فعلي على الأرض بسبب تعقيدات الإقليم وتضارب مصالح القوى الدولية. فالعقوبات قد تفقد جدواها أمام قدرة الأطراف على إيجاد بدائل إقليمية، وآليات التحقيق قد تحاصر بفعل غياب الوصول الميداني أو رفض بعض الحكومات التعاون. عندها تتحول الإدانة الأوروبية إلى أداة ضغط محدودة التأثير، تعكس موقفاً أخلاقياً صلباً لكنها تفشل في تعديل ميزان القوى أو حماية المدنيين. ويظل أثرها الأكبر في تعزيز سردية حقوقية مهمة، لكن غير مكتملة، تحتاج إلى إرادة دولية أوسع.

بين هذين السيناريوهين، تقف أوروبا أمام اختبار جوهري، يكمن في مدى تحويل مبادئها إلى قوة سياسية فاعلة، نجاحها، في نهاية المطاف، سيكون أحد مفاتيح تحديد صورة المرحلة المقبلة في السودان.

اقرأ المزيد

المزيد من تحلیل