ملخص
أثارت زينة الميلاد في وسط بيروت موجة واسعة من الجدال على منصات التواصل، بعدما انقسم المستخدمون بين من رأى في الأقواس الضوئية الجديدة ملامح زينة رمضانية مألوفة في العالم العربي ومن أكد أن التصميم بصرياً شائع في مدن أوروبية ويستخدم في المهرجانات الشتوية من دون أي دلالة دينية. هذا الالتباس البصري لم يبقَ نقاشاً جمالياً، بل تحول إلى سؤال عن قدرة بيروت، بتركيبتها الثقافية المتعددة، على استقبال فن معاصر قد يُقرأ بعيون مختلفة.
لم يكن الجدال الذي اجتاح منصة "إكس" حول زينة عيد الميلاد في وسط بيروت مجرد نقاش جمالي مألوف في موسم الأعياد، بل تحول إلى ساحة تظهر كيف يمكن لعمل بصري واحد أن يُقرأ بطرق متناقضة في مدينة شديدة التنوع الثقافي مثل العاصمة اللبنانية.
فمع إضاءة الأقواس الضوئية الجديدة في قلب الوسط التجاري سارع كثر إلى القول إن التصميم يوحي بزينة مرتبطة بشهر رمضان بسبب الألوان الحادة والزخارف الهندسية التي تشبه ما يستخدم عادة في الاحتفالات الشعبية في العالم العربي. في المقابل رد آخرون بأن هذا النوع من التركيبات الضوئية شائع في مدن أوروبية عديدة ويستخدم في المهرجانات والاحتفالات الشتوية، ولا يحمل أي دلالة دينية مباشرة.
وبين هذين الموقفين ظهرت أصوات تنتقد بلدية بيروت معتبرة أن الالتباس البصري ناتج عن غياب رؤية واضحة لهوية الزينة، فيما لجأ البعض إلى السخرية، وهي ردة فعل لبنانية مألوفة في مواجهة أي مشهد عام مثير للنقاش. ومع اتساع السجال، بدا كأن السؤال لم يعد يتعلق بزينة الميلاد نفسها، بل بقدرة مدينة متعددة الانتماءات مثل بيروت على استقبال فن معاصر بلغة قد تفهم بطريقة مختلفة من عين إلى أخرى.
اضواء زينة شوارع وسط بيروت هي تجسيد للانصهار الإسلامي المسيحي . دامجين الزينة الرمضانية بنجوم الميلاد وشموعه وأجراس بقنطاطر عربية.
— البجاني (@kahale_tayyar) November 24, 2025
والمشهد العام بيوحي أنهم يمكن استعانوا بمهندس هندي بوذي تا حط التصميم .#ميلاد_كريم pic.twitter.com/wmfIYoUaD9
خلف الكواليس
في السياق يوضح مصدر مطلع في بلدية بيروت لـ"اندبندنت عربية" أن "زينة العاصمة في وسط بيروت التجاري هذا العام تأتي ضمن شراكة بين شركة 'سوليدير' (الشركة اللبنانية لتطوير وإعادة إعمار وسط بيروت) وجهة خاصة تولت التصميم والتنفيذ"، مشيراً إلى أن "العام الماضي شهد أيضاً إضاءة مماثلة في المنطقة، لكن الزينة الحالية جرى تطويرها وتوسيع نطاقها بما يتماشى مع الرؤية الجديدة لإحياء الوسط التجاري وجذب الزوار خلال موسم الأعياد".
ويوضح أن الحديث عن أن الزينة تحمل طابعا إسلامياً هو "انطباع غير دقيق"، إذ إن المصمم الذي تولى المشروع "يحمل رؤية غربية بحتة مستوحاة من أساليب الإضاءة الأوروبية"، وأن اختيار الألوان والأشكال جاء "ضمن مقاربة فنية تجارية تهدف إلى خلق جو احتفالي عام، لا يحمل أي رمزية دينية مباشرة".
كيف يغير الضوء معناه بين ثقافتين؟
في مدينة اعتادت أن ترى بأكثر من عين، لا يمر الضوء مروراً عادياً، ما يلمع في شارع قد يتبدى رمزاً في شارع آخر، وما يقرأ احتفالاً في ثقافة ما، قد يفهم استعارة شرقية في ثقافة ثانية.
هكذا تبدو بيروت بطرقها المزدحمة وروحها الهجينة ساحة اختبار دائم للعناصر البصرية التي تعبرها. فأي تصميم ضوئي فيها لا يقاس فقط بحجمه أو ألوانه، بل بقدرته على التنقل بين تراثين، وبمرونته أمام أعين ترى العالم من زوايا متباينة.
في هذا الإطار يوضح الفنان البصري عبدالرحمن عيران أن "التصميم الضوئي المثبت في الشارع يقوم على إعادة قراءة لتقليد إيطالي معروف باسم Luminarie، يعود تاريخياً إلى جنوب إيطاليا ويستخدم في الاحتفالات الدينية والمناسبات الشعبية"، مؤكداً أن "العمل يعتمد صياغة متوسطية يتم تقديمها ضمن سياق بيروتي – عربي معاصر". ويشرح أن "عناصر تصميم الـLuminarie لا تستقبل بصرياً بالطريقة نفسها في الثقافات المختلفة، بل تحمل دلالات متحولة تبعاً لخلفية المتلقي". فبحسب عيران، "تقرأ هذه الزخارف الضوئية في العين الغربية كعناصر احتفالية وساحرة تذكر بطابع الكاتدرائيات والمواسم الدينية في جنوب إيطاليا، بينما تقرأ في العين العربية على أنها رمضانية وشرقية وأقرب إلى الأرابيسك (وهو فن زخرفي هندسي يرتكز على التكرار والتشابك والانسياب، ويعد من أهم بصمات الفن العربي – الإسلامي)".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويلفت عيران إلى أن "النمط البصري نفسه قادر على إثارة مشاعر متباينة تماماً في ثقافتين مختلفتين، مما يفسر التنوع في ردود الفعل تجاه التصميم عند عرضه في بيروت، حيث يعاد تفسيره تلقائياً ضمن سياق محلي يألف الضوء، والقوس، والزخرفة الشرقية".
وعن الفكرة الأساسية للتصميم يشير إلى أنها "تقوم على تشكيل أقواس متكررة تمنح الزائر إحساساً بالعبور والحركة داخل الممر الضوئي"، لافتاً إلى أن "هذا النوع من التجارب يتفاعل عادة مع البيئة الحضرية في بيروت، حيث يشكل الضوء عنصراً بصرياً مباشراً في التواصل مع الجمهور". ويلفت إلى أن "الانطباع الذي ربطه بعض المواطنين بأجواء شهر رمضان يعود إلى التشابه بين العناصر المستخدمة في التصميم والعناصر البصرية المتداولة في المنطقة العربية، مثل الأقواس، وتوزيع الألوان، والإيقاع الزخرفي"، موضحاً أن "هذه العناصر المستخدمة في التصميم الحالي، رغم أصلها الإيطالي، تتقاطع مع التراث البصري للمتوسط، مما يجعلها مألوفة للمتلقي المحلي وتشبه إلى حد ما نمط الزخرفة الهندسية الشرقية الموجودة في زينة رمضان".
وفي ما يتعلق بالفرق التقني بين الزخرفة الإيطالية والعناصر الشرقية يبين عيران أن "الـLuminarie تعتمد أساساً على الزخارف الباروكية الأوروبية ذات الطابع المنحني والزهري، فيما ترتكز الزخرفة العربية – الإسلامية على أنظمة هندسية رياضية تقوم على التماثل والتكرار البنيوي، مثل التماثل الرباعي والسداسي والثماني". ويؤكد أن "التصميم الحالي يشكل نموذجاً لكيفية انتقال العناصر الفنية من ثقافة إلى أخرى، وكيف يعاد توظيفها بما يتلاءم مع الهوية البصرية للمدينة والجمهور"، موضحاً في الوقت نفسه أن "طبيعة بيروت المتعددة الثقافات، حيث يحتفل بالعيد المسيحيون والمسلمون مع بعضهم البعض، تفرض تلقائياً مقاربة بصرية إلى أن هذا المزيج لا يأتي من فراغ، بل يعكس الهوية الهجينة للمدينة وسياقها الاجتماعي المتنوع".
وفي المقابل يشير عيران إلى أن "المدن الإيطالية، بحكم طابعها المسيحي الصرف، تذهب عادة في اتجاه تصميمي أكثر تشدداً نحو الرموز المسيحية، الأمر الذي يخلق بصمة بصرية مختلفة كلياً"، مشيراً إلى أن "هذا التباين قد يكون أثر على طريقة تلقي الجمهور اللبناني للتصميم، إذ إن محاولة نقل كونسيبت إيطالي إلى سياق بيروتي متعدد الانتماءات قد أدت إلى التباس بصري، جعل البعض يقرأ العمل بعيون شرقية فيما قرأه آخرون بوصفه مسيحياً ناقص الهوية".
تاريخية عيد الميلاد
منذ قرون طويلة، لم تكن زينة الميلاد مجرد أضواء موسمية، بل نتاج تطور تاريخي متدرج حملته أوروبا من الطقوس الدينية إلى الفولكلور الشعبي، وهو ما يشرحه الباحث زياد سامي عيتاني في قراءته لجذور هذا التقليد ورموزه.
ويقول عيتاني إن "زينة الميلاد تعد من أقدم مظاهر الاحتفال بهذا العيد، وقد بدأ انتشارها منذ القرن الـ15 كتحضير رمزي لاستقبال العيد"، مشيراً إلى أن "العادة درجت على البدء بالتزيين مع مطلع ديسمبر، حيث كان اللونان الأحمر والأخضر يطغيان على المشهد، لما يحملانه من دلالات دينية ورمزية: فالأحمر يرمز إلى دم المسيح، بينما يرمز الأخضر إلى الحياة والولادة. ومع مرور الزمن، تطورت الزينة لتشمل ألواناً إضافية كالذهبي والفضي، وتحولت إلى عنصر أساس من عناصر الفرح في الأعياد". ويقول "أما شجرة الميلاد، التي لم تعتمدها الكنيسة كعادة اجتماعية إلا في القرن الـ15 أيضاً، فقد انتقلت من فرنسا إلى إنكلترا ثم إلى الولايات المتحدة، لتصبح أحد أبرز رموز العيد في العالم. وتنوعت أشكال الزينة التي تعلق عليها، من الكرات الملونة إلى الأجراس والنجوم والسلاسل الضوئية. وكل منها يحمل دلالة مرتبطة بقصة الميلاد ورموزها".
ويضيف عيتاني أن "هذه المظاهر الزخرفية التي بدأت بطابع ديني رمزي، تطورت مع الزمن وتكيفت مع الحداثة والأساليب البصرية المعاصرة، لتصبح اليوم جزءاً من الفولكلور الميلادي العالمي الذي يجمع بين التراث والطابع الاحتفالي العابر للأديان والثقافات".