ملخص
بحسب تقارير منظمة الصحة العالمية فإنه تم التحقق من تعرض المرافق الصحية في العاصمة لأكثر من 100 هجمة حتى منتصف سبتمبر 2024، وأن نحو 70 إلى 80 في المئة من المرافق الصحية في المناطق المتأثرة بالصراع أصبحت غير فعالة أو مغلقة في حين تضررت على مدى 500 يوم منذ بداية الحرب 41 مستشفى في الخرطوم من أصل 87 بحسب صور الأقمار الإصطناعية.
منذ اندلاع الحرب بين الجيش السوداني وقوات "الدعم السريع" في منتصف أبريل (نيسان) عام 2023، شهدت المستشفيات في مدن العاصمة السودانية الثلاث الخرطوم وأم درمان وبحري تدهوراً حاداً في قدرتها على تقديم الخدمات، بسبب ضغط القصف المدفعي والجوي من ناحية، ونقص الإمدادات وانسحاب أعداد كبيرة من الكوادر المختصة من ناحية أخرى. وبحسب تقارير منظمة الصحة العالمية، فإنه تم التحقق من تعرض المرافق الصحية في العاصمة لأكثر من 100 هجمة حتى منتصف سبتمبر (أيلول) 2024، وأن نحو 70 إلى 80 في المئة من المرافق الصحية في المناطق المتأثرة بالصراع أصبحت غير فعالة أو مغلقة، في حين تضررت على مدى 500 يوم منذ بداية الحرب 41 مستشفى في الخرطوم من أصل 87 بحسب صور الأقمار الاصطناعية.
ضرورة مهنية
في مستشفى "النو" بأم درمان الذي ظل يعمل طوال فترة الحرب على رغم استهدافه مرات عدة،كانت الممرضة نسرين محمد من بين العاملين الذين واصلوا أداء مهامهم على رغم كل هذه المخاطر، وتروي ما واجهته خلال العام الأول من الحرب قائلة "في الأسابيع الأولى من الحرب، بدأت عملي اليومي في مستشفى النو في ظروف لم نعهدها من قبل. فالقصف المتكرر في المنطقة أدى إلى وصول أعداد كبيرة من الجرحى في فترات قصيرة، ومع انقطاع الكهرباء المتكرر ونقص الإمدادات، كنا نضطر إلى لاستخدام أدوات بسيطة وبديلة لإجراء الإسعافات الأولية"، وتابعت نسرين "ازدحمت غرف الطوارئ بالمصابين، بينهم أطفال وصلوا من دون مرافقين، إضافة إلى استقبال حالات حرجة تحتاج إلى تدخل مباشر. فالعمل كان متواصلاً ساعات طويلة، ومع تراجع عدد الكوادر، أصبح توزيع المهام يعتمد على الحد الأدنى المتوفر من الطاقم. وعلى رغم ما يحدث من انفجارات في مواقع قريبة، فضلاً عن الاضطراب الأمني حول المستشفى استمرت الفرق الطبية في أداء مهامها اليومية، مركّزة على إنقاذ أكبر عدد ممكن من الحالات، وبالنسبة إليّ كان الالتزام بالعمل ضرورة مهنية أكثر من كونه خياراً، بخاصة مع غياب البدائل الطبية في المنطقة".
واقع مظلم
طبيب الطوارئ عثمان الحسن الذي يعمل في المستشفى نفسه قال "منذ اندلاع الحرب أصبح عملي في قسم الطوارئ أصعب بكثير مما كنت أتوقع"، وأضاف "كان هناك عدد كبير من المرضى الذين يحتاجون إلى رعاية طبية عاجلة لا يستطيعون الوصول إلى معامل الطوارئ أو الأقسام المتخصصة، وكثير من المستشفيات التي كانت تمثل دعامة أساسية للخدمات الصحية باتت جزئياً أو كلياً غير صالحة للعمل"، وتابع "في داخل القسم، نعمل بضغط هائل، وغالباً ما نجري الإسعاف والجراحة على الطاولة نفسها، في ظل نقص الأدوية والمستلزمات، وانقطاع الكهرباء والمياه، وخطر دائم من هجمات جديدة أو قصف جوّي أو مدفعي، وعلى رغم الخطر، ليس هناك خيار حقيقي للتوقف، نعلم أن المجتمع يعتمد علينا، وأن تراجعنا يعني موتاً محتملاً لكثيرين من الجرحى".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ساحة موت
في الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور، كان "المستشفى السعودي" واحداً من المرافق القليلة التي واصلت استقبال الجرحى على رغم شدة القتال والحصار المفروض على المدينة لأكثر من 18 شهراً، إذ واجه الأطباء والكوادر الطبية مشاهد يومية قاسية تفوق قدرات الطواقم والإمكانات المتوفرة.
محمد عيسى الطبيب بالمستشفى آنذاك قال "شهد المستشفى السعودي في الفاشر تدفقاً مستمراً من الجرحى المدنيين والمقاتلين، كانت غرفة الطوارئ تواجه أعداداً هائلة من المرضى يومياً، تراوحت ما بين 20 و200 حالة، بينهم أطفال ونساء يأتون من دون مرافقين أو بيانات طبية، مما زاد صعوبة التشخيص والعلاج. مع النقص الحاد في الأدوية والمستلزمات الطبية، وانقطاع الكهرباء والمياه، وبالتالي اضطر الأطباء والممرضون لاستخدام بدائل بسيطة مثل شباك البعوض وملاءات الأسرة كضمادات، وأدوية منتهية الصلاحية"، وأضاف عيسى "المستشفى أصبح في كثير من الأحيان يشبه ساحة الموت، إذ قتل أكثر من 460 مريضاً ومرافقاً لهم عقب سيطرة قوات )الدعم السريع( على المدينة في الـ25 من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. أما المشهد الأكثر صعوبة فكان عند قصف غرفة الطوارئ، مما أدى إلى مقتل نحو 70 شخصاً، بينهم أطفال"، وواصل عيسى "على رغم الخطر الماثل استمر الفريق الطبي في العمل، لأن توقف المستشفى كان يعني حرمان آلاف المدنيين من أي رعاية. والضغط النفسي والجسدي كان هائلاً، بخاصة بعد فقدان زملاء وأصدقاء مقربين في المستشفيات المستهدفة، لكن الالتزام المهني والمسؤولية تجاه المرضى يحتمان الاستمرار في العمل"، واستشهد الطبيب عيسى بحالات فردية توضح حجم المعاناة منها طفل عمره يوم واحد يعاني نزفاً صدرياً حاداً، وامرأة حامل وصلت بجروح حرجة أصابت الجنين، وحالات أخرى نجت بأعجوبة بفضل التدخل الطبي في ظروف شبه معدومة.
هجرة الكوادر
في السياق قال اختصاصي الجراحة العامة محمد هاشم "الحرب في السودان لم تؤثر فقط على المرضى والمرافق الصحية، بل امتدت لتشمل الكوادر الطبية بصورة مباشرة. فكثيرون من الأطباء والممرضين اضطروا لإيقاف تخصصاتهم أو مغادرة المستشفيات خوفاً على حياتهم، بينما تراجع التدريب الأكاديمي وبرز نقص الكفاءات المتخصصة"، وتابع هاشم "بحسب إفادات متعددة من العاملين في الفاشر وأم درمان، فإن الطاقم الطبي ظل يعاني ضغطاً نفسياً وجسدياً شديداً، نتيجة التعرض المستمر للقصف، وفقدان الزملاء، فضلاً عن نقص الموارد الأساسية. فالوضع عبارة عن ضغط مستمر لا يترك مجالاً للراحة أو الاستقرار النفسي"، ومضى اختصاصي الجراحة العامة في القول "استمرار العمل تحت هذه الظروف يتطلب مستوى عالياً من الالتزام المهني، وأحياناً شعوراً شخصياً بالمسؤولية تجاه المدينة والسكان، لأن توقف المستشفى يعني حرمان آلاف المدنيين من أي رعاية. فهذا الواقع يعكس تهديداً طويل الأمد لمهنة الطب في البلاد، إذ يواجه العاملون خطر الهجرة أو الانهيار النفسي، مما يفاقم الأزمة الصحية العامة ويزيد من هشاشة النظام الطبي في مناطق النزاع".
التزام مهني
من جانبه أشار علي أحمد، وهو مدير أحد المستشفيات في الخرطوم، إلى أنه "على رغم تصاعد أعمال القصف المدفعي والجوي وسوء الأوضاع الأمنية، استمر عدد من مسؤولي المستشفيات بإدارة مرافقهم لضمان تقديم الخدمات الطبية الأساسية. والتحدي الأكبر لم يكن فقط التعامل مع الجرحى، بل الحفاظ على استمرار العمل على رغم تراجع الإمدادات وغياب الأمان الشخصي للطاقم الطبي"، وأضاف أحمد "دوافع الاستمرار لا تقتصر على المهنية وحدها، بل تشمل أيضاً شعوراً بالمسؤولية تجاه المجتمع والمرضى، والالتزام الأخلاقي تجاه حياة البشر، إذ نعلم أن توقف المستشفى يعني وفاة كثيرين بلا رعاية، لذلك نضطر لاتخاذ قرارات يومية صعبة لإبقاء المستشفى عاملاً"، وزاد "الإدارة تحاول قدر الإمكان توفير الدعم النفسي للطاقم الطبي، وتنظيم الورديات بطريقة تقلل الضغط، وعلى رغم النقص الحاد في الموارد البشرية واللوجيستية نجد أن الروح الجماعية والانتماء للمستشفى والمجتمع المحلي هما العاملان اللذان يساعدان على الاستمرار في تقديم الخدمات الطبية على رغم كل هذه الأخطار".