Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

على هامش الحرب... معركة قضائية تشعل الأوساط السودانية

سفيرة تقاضي أكاديمياً في المحاكم القطرية لنشره مقالاً يتضمن "عبارات مسيئة تمس شرفها واعتبارها"

جاءت ردود الفعل السودانية حادة ومتباينة وعكست الانقسامات السياسية العميقة في البلاد (أ ف ب)

ملخص

تعود مجريات القضية إلى مقال نشره مادبو وتضمن، بحسب أوراق الدعوى، عبارات وصفت بأنها إساءات بالغة دفعت السفيرة قرناص للجوء إلى القضاء القطري، وتعاملت المحكمة مع القضية وفق القوانين المحلية التي تجرم القذف والتشهير والإساءة الشخصية، لتنتهي بالحكم الصادر الذي فتح باباً واسعاً للنقاش حول أبعاده القانونية والسياسية، في وقت لا تزال فيه تداعيات القضية تمتد داخل الأوساط السودانية والإقليمية وسط تباين التقييمات في شأن أثر الحكم ومسارات تنفيذه المحتملة.

في جلسة علنية عقدت في الـ20 من نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري أصدرت المحكمة الابتدائية – الدائرة الجنائية بالمجلس الأعلى للقضاء في قطر حكماً لافتاً في القضية رقم 2351/2025 جنايات/ ابتدائي، التي شغلت الرأي العام السوداني، والمتعلقة بالأكاديمي السوداني الوليد مادبو. وجاء الحكم على خلفية الدعوى الجنائية التي تقدمت بها السفيرة أميرة قرناص، زوجة علي كرتي الأمين العام للحركة الإسلامية، إثر مقال كتبه مادبو وصفته المدعية باحتوائه على تهم قذف وسب وانتهاك للخصوصية، واعتبرته المحكمة متضمناً عبارات مسيئة تمس شرفها واعتبارها. وأكدت هيئة المحكمة أنها فصلت في الدعوى بعد الاطلاع على كامل ملف القضية، وسماع المرافعات، واستكمال أوجه المدارسة القانونية.

وقضى الحكم بمعاقبة مادبو بالسجن لمدة عام واحد، وتغريمه 50 ألف ريال قطري نحو (14 ألف دولار أميركي)، إضافة إلى إبعاده عن الدولة عقب تنفيذ العقوبة، فيما أحالت المحكمة طلب الادعاء المدني إلى المحكمة المدنية المختصة للنظر فيه. واستندت المحكمة في قرارها إلى ثبوت إدانة المتهم بارتكاب جريمتي القذف والتشهير عبر مقال اعتبرته "طعناً صريحاً في شرف وكرامة الشاكية". وأشارت المصادر إلى أن مادبو غادر قطر قبل صدور الحكم، غير أن محامي السفيرة قرناص أكد نيتها متابعة جميع المسارات القانونية المتاحة لتنفيذ الحكم في أي دولة قد يتواجد فيها، اعتماداً على اتفاقات التعاون القضائي الدولي وتبادل تنفيذ الأحكام الجنائية التي تربط قطر بعدد من الدول.

وتعود مجريات القضية إلى مقال نشره مادبو وتضمن، بحسب أوراق الدعوى، عبارات وصفت بأنها إساءات بالغة دفعت السفيرة قرناص إلى اللجوء للقضاء القطري، وتعاملت المحكمة مع القضية وفق القوانين المحلية التي تجرم القذف والتشهير والإساءة الشخصية، لتنتهي بالحكم الصادر الذي فتح باباً واسعاً للنقاش حول أبعاده القانونية والسياسية، في وقت لا تزال فيه تداعيات القضية تمتد داخل الأوساط السودانية والإقليمية وسط تباين التقييمات في شأن أثر الحكم ومسارات تنفيذه المحتملة.

التعليق على الحكم

وفق ما تم نقله عن مادبو أنه ذكر أن "المقال يعبر عن رأيه الفكري، ولكنه جاء بأسلوب أدبي". وعلق مادبو على الحكم بعد صدوره في وسائل التواصل الاجتماعي بقوله إنه لم يبلغ رسمياً بأي حكم قضائي عبر القنوات القانونية المعتمدة في قطر، وإن ما يتم تداوله على بعض المنصات "معلومات غير موثقة" بحسبه. وذكر أنه بحسب علمه لم يصدر حكم ضده حتى الآن، وإن كان هناك حكم (يفترض ذلك) فسيكون حكماً "غيابياً لأنه لم يمنح بعد فرصة للدفاع أو تقديم دفوعه في المحكمة". وأشار مادبو إلى ما يعد "حقه القانوني في الاعتراض على أي حكم غيابي"، موضحاً أن القانون القطري يجيز معارضة الأحكام الغيابية بمجرد تمكين المتهم من تقديم دفاعه. وأورد أنه استعان بمحامٍ متخصص، وأنه يثق تماماً في أن دفاعه القانوني "عند تقديم دفوعي، سيلقى بالنهاية إسقاط الدعوى من أساسها"، لأنه يرى أن الادعاء الموجه ضده لا يستند إلى "أركان قانونية صحيحة، بل إلى أقوال طرف واحد"، من دون سماع رأيه. واختتم مادبو تعليقه بالتأكيد أنه "مطمئن تماماً إلى سلامة موقفي القانوني، وأن ما ينشر من أحكام أو عقوبات ليست سوى شائعات" في رأيه، مؤكداً أنه ملتزم اتخاذ كل الإجراءات القانونية اللازمة لعرض الحقيقة كاملة.

مسارات التقاضي

يعد الحكم الصادر في الدرجة الأولى ضد الوليد مادبو، وفق المعطيات المتوفرة، قراراً أولياً قابلًا للطعن، ويحمل أبعاداً إجرائية وحقوقية تستحق التوسع. من الناحية الإجرائية صدر القرار عن المحكمة الابتدائية، دائرة الجنايات، وما تردد عن غياب مادبو وسفره قبيل النطق يجعل الحكم "غيابياً واقعياً" مع بقاء الحق القانوني للمتهم في تقديم "اعتراض" أمام المحكمة نفسها ثم الطعن أمام درجات التقاضي الأعلى، كما تسمح القوانين القطرية في مثل هذه القضايا.

 

 

ومن منظور حقوقي وقانوني، ثمة محاور جدلية بارزة، المحور الأول تقليدي، يحكم القانون القطري جرائم القذف والتشهير وعقوباته، ولا تستثنى المنشورات الأدبية إذا اعتبرت عبارة عن اتهام واقعي أو قصد للإضرار بالسمعة، ولهذا فإن إقامة الدعوى وصدور حكم في الدرجة الأولى يتوافق مع نصوص الجزاء المحلية. وهناك سند تشريعي توضيحي موجود في نصوص القانون الجنائي وقانون مكافحة الجرائم المعلوماتية، حسب نصوص القوانين القطرية.

أما المحور الثاني فهو حقوقي، إذ تقوم حجة الدفاع، وتمثلها مطالعات دولية واجتهادات حقوقية، على التمييز بين "التعبير عن رأي أو عمل أدبي" و"الادعاء الواقعي القابل للتحقق"، وهو موقف مكرر في مراجع حقوقية دولية واللجنة الحقوقية للأمم المتحدة.

بناءً عليه، فإن الصورة القانونية المتوقعة لاحقاً قد تتجه إلى معركة قضائية فنية، الدفاع سيحشد حججاً شكلية ومادية للطعن (مدى تبليغ المتهم، وطبيعة الغياب، وتأويلات حرية التعبير والفصل بين الرأي والادعاء القابل للإثبات)، بينما النيابة أو الطاعنة ستؤكد انطباق عناصر القذف والتشهير بمقاييس القانون القطري.

امتداد المنظومة

لإلقاء الضوء على الشخصيات الرئيسة في هذه القضية، الوليد آدم مادبو هو أكاديمي وكاتب سوداني بارز مثير للجدال، وناشط سياسي. يعرف بخبرته في مجال "الحكمانية" والتنمية العالمية، ويركز في تحليلاته على قضايا الحكم المحلي، والإصلاح المؤسسي، وصراع الهوية. ينشر مادبو بانتظام مقالات وتحليلات في مواقع إلكترونية، ويطرح من خلالها رؤى نقدية لتجارب السلطة في السودان. من أعماله الأكاديمية المرموقة ورقة بحثية بعنوان "الحكمانية... تحكم أم إحكام؟"، حيث سلط الضوء على أوجه القصور في الحوكمة المحلية، ومنهجية الحكم، والإهمال المؤسسي. في مقاله عن "الجنجويد"، يرى مادبو أن الدولة وظفت تلك الظاهرة لأغراض سياسية، واعتبرها امتداداً للمنظومة السلطوية وليس فوضى عرقية فحسب، ووجه نقداً للنخب السياسية السودانية، في مقال مثل "من الانحياز إلى التواطؤ"، حيث يحلل مواقف بعض الأقلام الثقافية، ويصف تنازلاتها تجاه السلطة بأنها خطرة.

ينسب مادبو نفسه وعائلته إلى قبيلة الرزيقات، التي ينتمي إليها قائد قوات "الدعم السريع" محمد حمدان دقلو (حميدتي)، وهو موضوع متكرر في كتاباته وتحليلاته عن قبيلته ومآلاتها، وسبق أن تناول تاريخ القبيلة وأزماتها في مقالات مدعومة بالسرد التاريخي والسياسي. ومع أنه لا توجد مصادر موثوقة عامة تؤكد وجود صلة قرابة مباشرة بين مادبو وحميدتي سوى الانتماء المشترك إلى قبيلة الرزيقات، لكن ثمة مواد إخبارية وتقارير إعلامية تفيد أن مادبو أشار في مناسبات إلى وقائع اتصالات أو مواقف تتعلق بحميدتي، بل كشف عن اتصالات حصلت بينه وبين قائد "الدعم السريع".

إرث أمني

أما أميرة داوود حسن قرناص فهي دبلوماسية سودانية، انضمت إلى وزارة الخارجية عام 1996 كمستشارة، وشغلت مناصب متعددة داخل الإدارة مثل المنظمات الدولية، والشؤون الإفريقية، وحقوق الإنسان، والمراسم. وبين عامي 2000 و2007، مثلت السودان في الأمم المتحدة في نيويورك، ثم عادت لتشغل منصب مديرة إدارة البيئة والموارد الطبيعية في وزارة الخارجية من 2007 إلى 2011. وشغلت منصب سفيرة السودان لدى إيطاليا، ومندوبة دائمة لدى منظمات الأمم المتحدة مثل منظمة الأغذية والزراعة. في الفترة 2015–2017، أصبحت أول امرأة عربية وأفريقية تنتخب رئيسة لجنة الأمن الغذائي العالمي. تعرضت لانتقادات سياسية عند تعيينها سفيرة، عقب زواجها من علي كرتي، فنسبت لها كثير من القرارات التي اتخذها كرتي، في ظل النظام السابق.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

أما علي أحمد كرتي، فهو شخصية سياسية سودانية بارزة، وله تاريخ طويل ضمن نظام البشير وجماعة "الإخوان المسلمين" في السودان. بدأ حياته السياسية عسكرياً، إذ أشرف على قوات "الدفاع الشعبي"، ميليشيات الجيش التي استخدمها النظام في حرب الجنوب، ثم دارفور، وكان قائداً لها إبان الحرب، وهو ما وضعه في قلب ملفات "الجنجويد" وفق تقارير عديدة. وتقلد مناصب قانونية وسياسية مهمة، كان وزير دولة في وزارة العدل (2001–2005)، ثم وزير دولة في وزارة الخارجية (2005–2010)، ثم وزيراً للخارجية من 2010 إلى 2015 في عهد الرئيس عمر البشير. وبعد سقوط النظام وجهت إلى كرتي شبهات كثيرة تتعلق بدوره في الحشد السياسي والعسكري، خصوصاً في سياق النظام السابق، واتهم بأن مجموعته سعت إلى تعطيل الانتقال الديمقراطي، عبر تحالفات مع العسكر واستفادت من اتفاقات مثل اتفاق الـ17 من أبريل (نيسان) 2019. وفرضت الولايات المتحدة عقوبات عليه، متهمة إياه بأنه يعرقل جهود السلام في السودان ويقوض المرحلة الانتقالية. وتشير تقارير إلى أن "منسقية الدفاع الشعبي" التي ترأسها في السابق أدت دوراً في بناء ميليشيات مثل "الجنجويد"، وهو ما يثير جدلاً حاداً حول إرثه السياسي والأمني.

ردود فعل متباينة

تظهر القضية التي جمعت بين الوليد مادبو من جهة وأميرة قرناص وزوجها علي كرتي من جهة أخرى، كواحدة من أكثر القضايا تعقيداً وتشابكاً بين القانون والسياسة والرمزية العامة في السودان. فهذه الشخصيات الثلاثة تجمع بينها عناصر النفوذ والفاعلية الفكرية والسياسية، إذ يمثل مادبو صوتاً نقدياً صارخاً في المشهد الأكاديمي والسياسي، بينما تمثل قرناص حضوراً دبلوماسياً، ويجسد كرتي أحد أبرز وجوه النظام السابق ومرجعياته السياسية والأمنية. هذا التباين الحاد بين مواقع الفاعلين جعل القضية تتجاوز حدود مادة منشورة وبلاغ جنائي، لتتحول إلى ساحة تتقاطع فيها الحسابات السياسية مع أسئلة حرية التعبير والمكانة العامة.

هناك من يرى أن المقال محل الدعوى جاء في سياق نقد سياسي واجتماعي، قدم فيه مادبو رؤيته حول "الأخلاقيات العامة وسلوك الدولة"، موجهاً حديثه نحو قرناص بوصفها جزءاً من منظومة سياسية لها امتداداتها داخل النظام السوداني السابق. المدافعون عن مادبو أكدوا أن مقاله مهما كان حاداً أو جارحاً، فإنه ينتمي إلى خطاب الرأي والموقف الفكري، وليس إلى الاتهام الجنائي.

يشير هؤلاء إلى أن الحكم القضائي نفسه، وفق الصفحتين المتاحتين منه، جاء خالياً من أي إحالة إلى آراء سياسية أو خلفيات فكرية، وركز حصراً على العبارات التي اعتبرتها المحكمة طعناً مباشراً في الشرف والاعتبار. وبذلك، يرى هؤلاء أن المسارين منفصلان: خطاب فكري صارخ من جهة، وإجراء قانوني محض من جهة أخرى.

أما الطرف المقابل فيرى أن حرية التعبير لا تمنح حصانة للتجاوز الشخصي أو المساس بالسمعة، وأن المقال تجاوز حدود النقد السياسي إلى اتهامات شخصية صريحة، الأمر الذي يبرر لجوء قرناص إلى القضاء واستخدام الأطر القانونية المتاحة لها. ويستند في هذا الرأي إلى أن وجود خلافات سياسية أو نقد للنظام السابق لا يلغي الحماية القانونية للأفراد، خصوصاً لمن يشغلون مناصب دبلوماسية أو عامة.

على مستوى الرأي العام السوداني جاءت ردود الفعل حادة ومتباينة، عكست الانقسامات السياسية العميقة في البلاد. فأنصار مادبو رأوا في القضية امتداداً لمحاولات تسكين الأصوات النقدية، وربطوا الحكم بتاريخ علي كرتي ودوره في النظام السابق، معتبرين أن الخصومة سياسية قبل أن تكون قانونية. في المقابل، اعتبر آخرون أن مادبو تجاوز حدود النقد المشروع، وأن لجوء قرناص إلى القضاء خطوة طبيعية لحماية سمعتها، بعيداً عن التسييس أو الانحياز. بين هذين الموقفين برزت أصوات ثالثة شددت على ضرورة الفصل بين النقد السياسي والتجريح الشخصي، وعلى أهمية حماية حرية التعبير وفي الوقت ذاته حماية الكرامة الإنسانية. وبذلك تتحول القضية إلى مرآة تعكس تعقيدات المشهد السوداني الراهن، تداخل السياسة بالقانون، وانقسام الرأي العام، وتضارب معايير التعبير والنقد والمسؤولية.

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير