ملخص
لم تكن الساعات الأخيرة قبيل الوصول إلى اتفاق غزة على هذا النحو من الغموض والارتباك بعد إطلاق مشروع ترمب للسلام في أوكرانيا. صحيح أن الإنهاك كان نال من طرفي الصراع، وهو واقع مُشابه بنسبة كبيرة للحال القائمة على جبهات الحرب الروسية - الأوكرانية، إلا أن شروطاً أساس توافرت لإطلاق مبادرة غزة، لا تبدو متوافرة في أوروبا.
مثلما احتاجت خطة الرئيس الأميركي دونالد ترمب لفرض السلام في غزة إلى احتضان عربي ودولي، ستحتاج خطته لإنهاء الحرب بين روسيا وأوكرانيا إلى احتضان أوروبي ودولي، من دونه ستبقى هذه الخطة عرضة للفشل، مما يؤدي في النهاية إلى استمرار حرب دموية مدمرة تقترب من إنهاء عامها الرابع.
ما كان يمكن لخطة غزة أن تنطلق في مرحلتها التنفيذية لولا الانخراط المصري - القطري في وساطة مضنية، على وقع هجمات إسرائيلية متواصلة أفضت إلى إنهاك حركة "حماس" وحلفائها، وإلى مقتل عشرات الألوف من الفلسطينيين، وتشريد الأحياء منهم بين خرائب قطاع منكوب، من الشمال إلى الجنوب وبالعكس، ثم قتل الألوف منهم وهم يستجدون الغذاء.
وما كان لخطة ترمب في شأن غزة أن تتحول إلى بداية جديدة لو لا التحرك السعودي الهادئ والمتماسك الذي جعل القضية الفلسطينية، بعد عامين من المجازر، حية في الأوساط الدولية، فتحولت المبادرة السعودية - الفرنسية في شأن حل الدولتين منذ الصيف الماضي إلى كرة ثلج، قادت دول العالم إلى تصويت تاريخي في الأمم المتحدة لمصلحة قيام الدولة الفلسطينية.
حظيت خطة ترمب ذات النقاط الـ20 في شأن غزة برعاية إقليمية حاسمة، بدا أنها متعثرة أو غير متوافرة لخطته، المؤلفة من 28 نقطة في شأن الحرب الروسية - الأوكرانية، إذ تتعامل معها موسكو الشريكة في إعدادها بتحفظ واضح، ويعلن الجانب الأوكراني أن الخطة تضعه أمام خيارات صعبة.
لا تملك مبادرة ترمب الجديدة من عوامل القوة ما توافر لمبادرته في غزة. فالمجموعة الأوروبية المعنية الأولى بمواجهة ما تعتبره هجوماً روسياً على حدودها الشرقية بدت خارج المشاركة في البحث، بينما انهمكت طوال الأشهر الأخيرة في زيادة الدعم لأوكرانيا لتمكينها من الصمود ومواصلة القتال، ورفعت نسبة المساهمة في موازناتها الدفاعية الخاصة، وذهب بعض مسؤوليها العسكريين إلى الحديث عن احتمال صدام عسكري مباشر مع روسيا.
في الفهم الأوروبي والأوكراني لا تختلف نقاط ترمب الراهنة عن اقتراحات سابقة تقدم بها الرئيس الأميركي منذ عودته إلى البيت الأبيض ولقائه المثير الأول مع الرئيس زيلينسكي في مكتبه البيضاوي. بالنسبة إلى هؤلاء يواصل ترمب ممالأة الروس والرئيس فلاديمير بوتين، ولا تختلف مقترحاته الراهنة عن مشاريع تسوية تقدم بها خلال الربع الأول من العام الحالي، ورأت فيها المجموعة الأوروبية تشجيعاً للأطماع الروسية وإقراراً بتغيير الحدود المثبتة بعد الحرب العالمية الثانية وانهيار الاتحاد السوفياتي.
وفي الواقع قامت مختلف المبادرات الأميركية، ومنها الخطة الراهنة على ركيزة أساس قوامها الاعتراف بالسيطرة الروسية على شرق أوكرانيا، بما في ذلك شبه جزيرة القرم.
وإذا كان ذلك يلقى ارتياحاً روسياً فإنه يثير في المقابل اعتراضاً أوروبياً وأوكرانياً يقف عند حدود تجنب الصدام مع ترمب، وهو ما يحرص عليه الروس، ومختلف القوى في العالم.
وفي الظروف المستجدة حرص الأوروبيون بعد اتصالات مكثفة مع الحكومة الأوكرانية ولقاءات في إطار قمة الـ20 المنعقدة في جوهانسبورغ على الترحيب بالخطة الأميركية، لكنهم شددوا على رفضهم "تغيير الحدود بالقوة" معلنين أن هذه الخطة "تتطلب مزيداً من العمل".
يتناغم الموقف الأوروبي مع الموقف الأوكراني الحريص على عدم القطيعة مع ترمب. واختصره زيلينسكي بوضوح بقوله إننا نواجه "خياراً بالغ الصعوبة بين فقدان الكرامة أو خطر فقدان شريك رئيس"، مضيفاً في إشارة رفض أن "المقترحات الأميركية تنذر بحياة بلا حرية، بلا كرامة، بلا عدالة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في المقابل، تتعامل روسيا بحذر شديد مع طروحات ترمب وكأنها تنتظر أن يأتي رفض الخطة من زيلينسكي والأوروبيين لتحافظ على علاقاتها الجيدة مع الرئيس الأميركي. رحب الرئيس فلاديمير بوتين بنقاط ترمب، بعد أيام من إصرار إدارته على القول بعدم معرفتها بالمشروع الأميركي. واعتبر بوتين الخطة أساساً "يمكن استخدامه لتسوية سلمية نهائية"، لكن المحيطين به عبروا عن رؤى أخرى لا تتسق مع الموقف الرسمي، فالرئيس السابق ديمتري ميدفيديف شدد على مواصلة القتال حتى تحقيق الهزيمة الأوكرانية، فيما قال مقرب آخر من الكرملين هو الكاتب ألكسندر نازاروف أن خطة ترمب "كوكتيل عشوائي من الكلمات" وأن توقيعها "يعني استسلام روسيا".
ويمضي نازاروف قائلاً "باختصار خطة ترمب ليست خطة سلام حقيقية ولا يمكنها إقامة سلام دائم، وهي في الأساس محاولة لتحقيق وقف موقت لإطلاق النار من أجل العودة إلى الحرب ضد روسيا لاحقاً بعد الهزيمة المفترضة للصين"!
دعا ترمب زيلينسكي لتقديم إجابته عن الخطة قبل الخميس المقبل، وأبدى الأميركيون أملهم بتوقيع اتفاق قبل نهاية الشهر، أو خلال وقت قريب جداً، لكن كثير من المؤشرات يدل أن الأمور ليست بهذه السهولة، حتى إن ترمب نفسه أعلن أمس السبت أنه قد يكون لديه أفكار أخرى.
لم تكن الساعات الأخيرة قبيل الوصول إلى اتفاق غزة على هذا النحو من الغموض والارتباك بعد إطلاق مشروع ترمب للسلام في أوكرانيا. صحيح أن الإنهاك كان نال من طرفي الصراع، وهو واقع مشابه بنسبة كبيرة للحال القائمة على جبهات الحرب الروسية - الأوكرانية، إلا أن شروطاً أساس توافرت لإطلاق مبادرة غزة، لا تبدو متوافرة في أوروبا.
وفي فلسطين تراجعت مشاريع تهجير سكان غزة وقضم الضفة والريفييرا والنصر الحاسم، وانهارت في المقابل نظريات "الممانعة" ومحورها، وتقدمت إلى الواجهة رعاية سياسية عربية حاسمة، في الوساطة أولاً، وضمن رؤية مستقبلية مبدئية قادتها السعودية ثانياً، مما خلق إمكانية للسير في الخطة الأميركية، وإقرارها لاحقاً في مجلس الأمن الدولي، ضمن قرار يشير بوضوح إلى أن دولة فلسطينية ستولد في نهاية المأساة.
هذه الظروف لا تتوافر حتى الآن لحركة ترمب الطموحة تجاه روسيا وأوكرانيا. فالحاضنة الأوروبية تختلف حساباتها عن حسابات الرئيس الأميركي، والطرفان المتصارعان مستعدان لمواصلة القتال دفاعاً عن أهداف مختلفة جذرياً، وإذا كان الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني يرتبط بالخلاف العميق على أرض وهوية، فإن صراع شرق أوروبا يرتبط بمخاوف جيوسياسية تاريخية تظللها أشباح تجارب غزو قادت نابليون وهتلر إلى ضواحي موسكو وأوصلت الروس إلى قلب برلين.
هذه المخاوف تحتاج إلى من يحتويها ويسهم في تبريدها ويرسم لها آفاقاً مطمئنة، لكن أوروبا حتى اللحظة لا ترى مسلكاً غير إظهار القوة في مواجهة ما يعد تهديداً روسياً، وهي وجهة نظر تحاول أميركا الخروج عليها، فتكرر المحاولة تلو الأخرى من دون الخروج عن شبهة التعاطف الضمني مع بوتين والعدائية التي لا يمكن التستر عليها ضد زيلينسكي.
لذلك ستحتاج خطة النقاط الـ28 إلى أكثر من ستيف ويتكوف وكيريل ديمترييف لتأمين سلوكها طريق النجاح. فبين ممثلي ترمب وبوتين، وهما رجلا أعمال من الدرجة الأولى، نوع من "أممية تجارية تعاقدية" تضع المصالح الاقتصادية والتجارية في المقدمة. الرجلان أعدا خطتهما ضمن لقاء استثماري في ميامي قررا خلاله، في ما قرراه، كيفية استعمال الأرصدة الروسية التي تحتجزها بروكسل من دون استشارتها، وهذا سبب آخر للاستياء الأوروبي.
وسنسمع كثيراً هذين اليومين عن حصيلة اجتماعات ومواقف تبلور خلالها أوروبا موقفها النهائي من الخطة الأميركية. وإذ يمكن الجزم بأنها لن تبتعد أو تتصادم مع أميركا، فإنها ستضيف اقتراحات وتحفظات ستجعل المضي في مشروع السلام أكثر صعوبة وتعقيداً، بانتظار أن يتوافر لمشروع ترمب الأوروبي الشروط التي توافرت لخطته الغزية الفلسطينية، وهي هذه المرة ستكون أوروبية في الدرجة الأولى.