Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

في ذكرى الاستقلال... ماذا تبقى من فرنسا في لبنان بعد 82 عاما؟

يجمع كثر على أن دور باريس تراجع على المستوى السياسي وبات حضورها يقتصر على الثقافة والتربية والنواحي الاجتماعية

قصر الصنوبر، مقر السفير الفرنسي في بيروت (أ ف ب)

ملخص

يقول النائب الرديف في البرلمان الفرنسي جوزاف مكرزل إنه لولا دول مثل فرنسا تدافع عن لبنان وتضع ملفه في سلم أولوياتها، لما كان هناك أمل بالحفاظ على وجوده، بينما يرى نائب لبناني أن قوة فرنسا المتمثلة بامتلاكها القلم في نيويورك وبروكسل تراجعت بسبب عدم امتلاكها رؤية واضحة في ما يخص لبنان.

في الـ22 من نوفمبر (تشرين الثاني) من عام 1943، أعلن لبنان استقلاله عن الانتداب الفرنسي، منهياً بذلك أكثر من عقدين من الوصاية الأجنبية، لكن بعد مرور 82 عاماً على هذا الحدث التاريخي، لا يزال الحضور الفرنسي واضحاً في جوانب عدة من الحياة اللبنانية وإن بحركة تراجعية وبنسب متفاوتة، في الواقع لم تنسحب فرنسا من لبنان سياسياً مع الاستقلال، بل بقيت لاعباً أساساً في المشهد السياسي اللبناني على رغم تراجع تأثيرها.

يُنظر إليها من قبل كثير من اللبنانيين كحليف تاريخي وبأنها "الأم الحنون" التي يمكن الاستعانة بها في الأوقات الصعبة، وباريس لا تزال تعتبر لبنان جزءاً من منطقة نفوذها التاريخي، وتتدخل في أزماته المتتالية بصورة مباشرة أو غير مباشرة، معتمدة على الزيارات المتكررة للمسؤولين الفرنسيين إلى بيروت، واقتراح مبادرات لحل الأزمات السياسية والاقتصادية، لم تنجح في معظمها.

في المقابل يجمع كثر أن الدور الفرنسي في لبنان تراجع على المستوى السياسي وبأنها فقدت القرار في التأثير وفي تقرير مستقبله، وبات حضورها في لبنان يقتصر على الثقافة والتربية والنواحي الاجتماعية.

الدور الفرنسي في لبنان عبر التاريخ

في قراءة لتطور الدور الفرنسي في لبنان عبر التاريخ يشرح المؤرخ اللبناني عماد مراد أن فرنسا اعتُبرت منذ القرن الـ19 حامية للمسيحيين في الشرق الأوسط، بخاصة الموارنة في لبنان، لكن مصالحها كانت أحياناً مع دول أكبر من الطائفة المارونية، فبعد الحرب العالمية الأولى، شارك البطريرك الماروني إلياس الحويك في مؤتمر فرساي للمطالبة بتوسيع لبنان، لكن "الأم الحنون" لعبت حينها على خطين: دعم لبنان من جهة، وسوريا والأمير فيصل من جهة أخرى، وكادت تضم لبنان إلى سوريا فيدرالياً، لكن بإصرار البطريركية وضغط من الفاتيكان، منحت فرنسا لبنان الاستقلال تحت الانتداب.
وفي عهد الرئيسين بشارة الخوري وكميل شمعون، تراجع الدور الفرنسي لمصلحة النفوذ البريطاني والأميركي، ومع تحول الصراع في المنطقة بعد الحرب العالمية الثانية، إلى محور سوفياتي - أميركي، أصبح الاستعمار الفرنسي - البريطاني من الماضي.

 

خلال الحرب اللبنانية وبعدها

يعتبر مراد أن "فرنسا لم تقف مع لبنان بالصورة المطلوبة، خلال الحرب الأهلية وفي زمن الاحتلال السوري والهيمنة الإيرانية، ففي حرب 1958 اللبنانية طلب الرئيس اللبناني آنذاك كميل شمعون مساعدة أميركية لا فرنسية، وصار انتخاب الرؤساء يتم بالتشاور بين أميركا ومصر بدلاً من فرنسا، وخلال الحرب الأهلية التي اندلعت في عام 1975، رفعت فرنسا لواء القضية الفلسطينية على حساب السيادة اللبنانية، واقتصر دورها على الدعم المادي والاجتماعي للمهجرين من دون دعم عسكري، القرار الدولي كان يقضي بعدم انهيار لبنان، لكن فرنسا لم تمتلك القرار الذي صار بيد أميركا والاتحاد السوفياتي، حتى قرار نهاية الحرب عام 1990 وتسليم القرار اللبناني إلى سوريا كان أميركياً، على رغم دور فرنسا في إقناع قائد الجيش حينها ميشال عون بالاستسلام"، وأضاف المؤرخ اللبناني أنه "في زمن الاحتلال السوري كان الموقف الفرنسي تجاهه ضعيفاً جداً، بخاصة في عهد الرئيس فرنسوا ميتران اليساري الذي مال للخط العروبي وخضع للقرار الأميركي بإعطاء لبنان لسوريا، حتى أن قرار الانسحاب السوري اتخذه الرئيس الأميركي جورج بوش الابن مباشرة عام2005 ، وفي ظل هيمنة ’حزب الله‘، اكتفت فرنسا بالتفرج وسعت لمكاسب تجارية مع إيران من دون موقف جازم من السلاح والهيمنة الإيرانية، وبعد انفجار مرفأ بيروت في أغسطس (آب) 2020، زار الرئيس إيمانويل ماكرون لبنان ودعا إلى تغيير السلطة، لكنه عدّل موقفه بعد شهر وعوّم ’حزب الله‘ والسلطة".

 

الرؤية الفرنسية الرسمية للعلاقة مع لبنان

يقدم النائب الرديف في البرلمان الفرنسي جوزاف مكرزل رؤية مختلفة لدور باريس، مؤكداً أن "فرنسا لم تخرج من لبنان منذ الاستقلال حتى اليوم"، ويستشهد بتصريح ماكرون المتكرر "لبنان بلد صغير لكنه يتمتع بأصدقاء أقوياء في العالم ومن بينهم فرنسا".

يرى مكرزل، اللبناني الأصل، أن "العلاقة بين البلدين تتجاوز اللغة، فالثقافة اللبنانية فرنسية في جوهرها من جهة طريقة العيش والتفكير"، ويؤكد النائب الرديف الذي يتنقل بين فرنسا ولبنان والدول العربية، أن "الشعب الفرنسي، بخاصة الجيل القديم، يفتخر بالعلاقة التاريخية مع لبنان، وكذلك الشعب اللبناني، ويعترف بوجود انتقادات للدور الفرنسي أحياناً، لكنها لا تحجب المودة والمحبة بين البلدين".

على المستوى السياسي، يعتبر مكرزل أن "دور فرنسا في المحافل الدولية مهم جداً للبنان"، مشيراً إلى أنه "في ظل إعادة رسم الشرق الأوسط، لولا وجود دول مثل فرنسا تدافع عن لبنان وتضع ملفه في سلم أولوياتها، لما كان هناك أمل بالحفاظ على وجوده"، ويؤكد أن "الرئيس ماكرون يهتم بلبنان، وأن أي رئيس فرنسي مستقبلي سيضع لبنان على لائحة اهتماماته نظراً إلى العلاقة المتينة والتاريخية"، ويشدد المتحدث ذاته على ضرورة توطيد العلاقة مع الجيل الشاب، مشيراً إلى أن فرنسا من الوجهات الأولى للطلاب اللبنانيين.

ويرى مكرزل أن "المحافظة على استقلال لبنان في ظل أطماع الدول المحيطة تتطلب صداقات دولية على رأسها فرنسا، التي لا تملك مصالح على عكس دول أخرى تتصرف وفق مصالحها الخاصة".

ويختم بالقول إن "هناك تعلقاً حقيقياً بلبنان، وفرنسا لن تخرج من قلوب اللبنانيين وستبقى درعهم الحامية"، مضيفاً، "يا ليت اللبنانيين يحبون بلدهم بقدر ما تحبه فرنسا".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الرؤية اللبنانية للدور الفرنسي

وعلى عكس النائب الفرنسي الرديف يرى نائب حالي في البرلمان اللبناني، فضل عدم الكشف عن اسمه، أن "فرنسا فقدت القدرة على التأثير وأن انخراطها السياسي شبه معدوم، فيما بات حضورها على مستوى المساعدات في الأعوام الـ15 الأخيرة شبه معدوماً أيضاً، إذ باتت تستضيف المؤتمرات بحضور الداعمين للبنان، الذين لا يتأثرون بقرارها مثل ما هو حاصل في مشروع مؤتمر دعم الجيش المتوقف فعلياً على قرار أميركا والسعودية"، ويعتبر النائب اللبناني أن "قوة فرنسا المتمثلة بامتلاكها القلم في نيويورك وبروكسل تراجعت بسبب عدم امتلاكها رؤية واضحة في ما يخص لبنان، وهي وضعت نفسها خارج دائرة التأثير بمجرد عدم استقبال الرئيس إيمانويل ماكرون في نيويورك الرئيس اللبناني جوزاف عون، سواء كان ذلك متعمداً أم لا".

في اللغة والتعليم

ربما يكون التأثير الأعمق لفرنسا في لبنان هو التأثير اللغوي، فاللغة الفرنسية ليست مجرد لغة أجنبية في لبنان، بل هي لغة ثانية بامتياز، تتنافس مع العربية في مجالات عدة، لكنها في الأعوام الأخيرة بدأت تتنافس مع اللغة الإنجليزية. يتحدث مئات آلاف من اللبنانيين الفرنسية بطلاقة، ويستخدمونها في حياتهم اليومية، في الأعمال، في التعليم، وحتى في المحادثات العائلية.

هذا الحضور اللغوي ليس عفوياً، بل هو نتيجة سياسة ثقافية ممنهجة بدأت منذ الانتداب واستمرت بعده، الفرنسية أصبحت رمزاً للتميز الاجتماعي والثقافي، ولغة النخبة المثقفة. ويشكل التعليم الفرنسي أحد أبرز معاقل الثقافة الفرنسية في لبنان، المدارس الفرنسية منتشرة في جميع المناطق اللبنانية، من "الليسيه الفرنسية الكبرى" في بيروت إلى المدارس الإرسالية في المناطق. هذه المؤسسات لا تُدرّس الفرنسية وحسب، بل تنقل منظومة قيم وثقافة فرنسية كاملة،

وتحمل الجامعات أيضاً هذا الإرث، فالجامعة اليسوعية في بيروت وجامعة القديس يوسف تُعتبران من أعرق المؤسسات التعليمية الفرنكوفونية في الشرق الأوسط، آلاف الطلاب يتخرجون سنوياً في هذه المؤسسات حاملين شهادات فرنسية أو معادلة لها، مما يعزز الروابط الثقافية والأكاديمية مع فرنسا.

 

في الشوارع والأماكن، أسماء لا تُمحى

حين تتجول في شوارع بيروت ومدن لبنانية أخرى، تصادفك أسماء فرنسية في كل مكان بما يعكس شهادات حية على حقبة كاملة من التاريخ اللبناني، ومن هذه اللافتات "شارع جورج بيكو" و"شارع فوش" و"ساحة شارل ديغول" و"شارع فردان" وغيرها، بعض هذه الأسماء تحمل دلالات سياسية واضحة، مثل "شارع الجنرال غورو" نسبة إلى المندوب السامي الفرنسي الذي أعلن دولة لبنان الكبير في عام 1920، والمفارقة أن هذه الأسماء بقيت على رغم كل المحاولات الخجولة لتغييرها أو استبدال أسماء وطنية بها، فالذاكرة الجماعية اللبنانية، بتناقضاتها، احتفظت بهذه الأسماء كجزء من نسيج المدينة وتاريخها.

وللثقافة الفرنسية أيضاً مكان في المشهد الثقافي اللبناني، فالمسرح اللبناني تأثر بصورة كبيرة بالمسرح الفرنسي، والأدب اللبناني المكتوب بالفرنسية له حضور مهم عالمياً، وحقق كتاب لبنانيون كتبوا بالفرنسية شهرة عالمية مثل أمين معلوف (Amin Maalouf) وفينوس خوري غاتا (Venus Khoury Ghata)، ولا يزال المعهد الفرنسي في بيروت نشطاً في تنظيم الفعاليات الثقافية والفنية، حتى السينما الفرنسية تحظى بجمهور واسع في لبنان، أوسع بكثير من أي بلد آخر.

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير