ملخص
أظهر تقرير الوضع الخارجي للبنك المركزي المصري أن الدولة سددت نحو 30.1 مليار دولار خدمة دين خلال الأشهر التسعة الأولى من السنة المالية الماضية 2024-2025، مقارنة بـ23.8 مليار دولار في الفترة نفسها من السنة السابقة، بزيادة بلغـت 6.3 مليار دولار.
تدخل مصر مرحلة مالية دقيقة تتقاطع فيها ضغوط الديون الخارجية مع مساع إلى توسيع قاعدة التمويل المحلي وخفض الاعتماد على الاقتراض الخارجي المرتفع الكلفة.
وتشير تقديرات صندوق النقد الدولي إلى ارتفاع مطرد في حجم الديون خلال الأعوام المقبلة، في مقابل تراجع نسبي للعبء مقارنة بالناتج المحلي، مما يعكس رهاناً على توسع اقتصادي في الأعوام المقبلة.
وفي ظل تحولات السياسة المالية واستحداث أدوات تمويل جديدة كالصكوك السيادية، باتت قدرة الدولة على إدارة هيكل الدين واختيار مزيج تمويلي متوازن محور التقييمات الدولية.
مسار الدين الخارجي بين ارتفاع مطلق وهبوط نسبي
تتوقع بيانات صندوق النقد الدولي أن ترتفع قيمة الدين الخارجي لمصر من 162.7 مليار دولار في يونيو (حزيران) 2025 إلى نحو 202 مليار دولار بحلول يونيو 2030.
ويأتي هذا الارتفاع في القيمة المطلقة متزامناً مع توسع حاجات التمويل في المرحلة المقبلة، سواء لتمويل الموازنة أو دعم خطط الاستثمار الحكومي.
وعلى رغم ذلك يشير الصندوق إلى أن نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي ستتراجع من 46.1 في المئة في يونيو 2025 إلى 34 في المئة بحلول 2030.
ويفسر هذا التراجع بالنمو المتوقع للاقتصاد المصري، إذ يفترض أن يشهد توسعاً في الأنشطة الإنتاجية والخدمية مع تعافي قطاع السياحة وارتفاع الاستثمارات الخليجية.
ويمثل هذا التباين بين الارتفاع المطلق والانخفاض النسبي تحدياً تحليلياً، فمع أن النسبة تظهر قدرة أكبر على استيعاب عبء الدين، فإن ارتفاع حجم الديون يفرض متطلبات سداد أكبر في سوق عالمية شديدة التقلب، ولا سيما مع الاتجاه الصعودي للفائدة الأميركية.
ضغوط خدمة الدين وارتفاع أقساط السداد
أظهر تقرير الوضع الخارجي للبنك المركزي المصري أن الدولة سددت نحو 30.1 مليار دولار خدمة دين خلال الأشهر التسعة الأولى من السنة المالية الماضية 2024-2025، مقارنة بـ23.8 مليار دولار في الفترة نفسها من السنة السابقة، بزيادة بلغـت 6.3 مليار دولار.
وتعود هذه الزيادة إلى ارتفاع أقساط الدين بنحو 6.8 مليار دولار، بينما تراجعت الفوائد بنحو نصف مليار دولار، مما يعكس توجه السياسة المالية نحو تقليص الفوائد عبر إعادة هيكلة آجال الدين والتركيز على السداد المبكر لبعض الالتزامات.
أيضاً، ارتفعت نسبة الدين الخارجي إلى الناتج المحلي الإجمالي إلى 44.5 في المئة بنهاية مارس (آذار) 2025، مقارنة بـ38.8 في المئة بنهاية يونيو 2024، وهو ما يوضح الضغوط المتزايدة على قدرة الدولة التمويلية خلال المرحلة الانتقالية.
وتشير البيانات إلى ارتفاع الدين القصير الأجل إلى 19.2 في المئة من إجمال الدين الخارجي، مقارنة بـ17 في المئة، مما يعزز الحاجة إلى تمديد آجال الاستحقاق وتقليل الاعتماد على التمويل القصير الأجل الذي يشكل أحد أبرز مصادر الأخطار المالية على الاقتصادات الناشئة.
تقييمات مؤسسات التصنيف الائتماني… نظرة حذرة ولكن قابلة للتحسن
تتفق مؤسسات التصنيف الائتماني الثلاث، "فيتش" و"موديز" و"ستاندرد أند بورز" على أن مستوى الدين الخارجي المصري سيظل مرتفعاً في المدى القريب، وأن قدرة الدولة على ضبط المالية العامة ستكون محور التحسن المحتمل للتصنيف الائتماني.
فترى "فيتش" أن بقاء الدين عند مستوى يفوق 40 في المئة من الناتج المحلي يعكس هشاشة مالية تستلزم إجراءات صارمة، خصوصاً مع ضعف تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر.
بينما تعول "موديز" على توسع برنامج الطروحات الحكومية وجذب رؤوس أموال طويلة الأجل، معتبرة أن نجاح مصر في تأمين استثمارات خليجية مؤسسية سيمنحها فرصة لتحسين النظرة المستقبلية.
أما "ستاندرد أند بورز" فتضع استقرار سعر الصرف وتراجع التضخم في مقدمة العوامل التي يمكن أن تخفف كلفة خدمة الدين، لكنها تحذر في الوقت نفسه من أي تباطؤ في الإصلاح المالي، إذ قد ينعكس سلباً على ثقة المستثمرين وعلى كلفة الاقتراض في الأسواق الدولية.
استراتيجية الصكوك السيادية… رافعة تمويل محلية ذات عائد مرتفع
هذا العام، أعلنت وزارة المالية المصرية طرح أول إصدار محلي من الصكوك السيادية بقيمة 3 مليارات جنيه لأجل ثلاث سنوات، بعائد بلغ 21.56 في المئة، وشهد طلبات اكتتاب تجاوزت 14 مليار جنيه، أي أكثر من أربعة أضعاف القيمة المطروحة.
هذا الإقبال الكبير يعكس عاملين أساسيين، ارتفاع العائد الحقيقي مقارنة بالأدوات التقليدية، وهو ما يجذب البنوك والمؤسسات المحلية الباحثة عن أدوات استثمارية منخفضة الأخطار نسبياً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بينما العامل الثاني هو ثقة متزايدة في قدرة الحكومة على تنويع مصادر التمويل من دون الاعتماد بصورة كبيرة على الاقتراض الخارجي المرتفع الكلفة.
وتأتي الصكوك كجزء من استراتيجية تستهدف تقليص الاعتماد على السندات التقليدية عبر أدوات متوافقة مع الشريعة تجذب شريحة أوسع من المستثمرين، خصوصاً من دول الخليج.
"حلقة مفرغة" تحتاج إلى كبح مالي واضح
تعليقاً على موقف الديون في مصر، ترى المحللة الاقتصادية الدكتورة علياء المهدي أن "الدين المصري دخل مرحلة تتجاوز فيها أقساط الدين وفوائده إجمال الإيرادات العامة، إذ تمثل خدمة الدين حالياً 64 في المئة من الإنفاق العام، وأكثر من 142 في المئة من الإيرادات العامة، وهو وضع لا يمكن استمراره من دون مراجعة شاملة للسياسات المالية".
وتؤكد أن "استمرار الاقتراض بالوتيرة الحالية سيبقي الاقتصاد في دائرة من الضغوط المالية التي تستنزف الحيز المالي للدولة، مما يحد من قدرتها على الاستثمار في التعليم والبنية التحتية والقطاعات الإنتاجية".
وتحذر المهدي من أن استمرار عجز الموازنة يعني تآكل الادخار المحلي وارتفاع الاعتماد على رؤوس الأموال الأجنبية، سواء المباشرة أو الساخنة، وهو ما يعرض الاقتصاد لصدمات خارجية في حال تغير اتجاهات المستثمرين الدوليين.
رغم ذلك إلا أن الحكومة المصرية لديها كثير من الثقة والتفاؤل حول مستقبل البلاد الاقتصادي خلال الفترة المقبلة.
"لأول مرة في التاريخ... احتياطي النقد الأجنبي لمصر يصل إلى 50 مليار دولار"
"لأول مرة في التاريخ، ارتفع الاحتياطي النقدي الأجنبي لمصر إلى أكثر من 50 مليار دولار" هكذا زف رئيس مجلس وزراء مصر الدكتور مصطفى مدبولي تلك البشرى خلال مؤتمر صحافي عقده الخميس الماضي، بالعاصمة الجديدة تناول خلاله مجموعة من الموضوعات الجماهيرية والاقتصادية.
وأوضح مدبولي أن "المؤشرات المالية للربع الأول من السنة المالية الحالية مبشرة جداً وسيتم إعلانها قريباً"، مؤكداً استمرار العمل على تعزيز الإنتاج المحلى في قطاع الطاقة، فضلاً عن الاهتمام الكبير بقطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات وصادراته المتوقعة.
وقال مدبولي إن "مشروع الضبعة النووي لإنتاج الكهرباء سيوفر ما بين 2.5 و3 مليارات دولار سنوياً كانت توجه لاستهلاك الغاز والمشتقات البترولية"، موضحاً أنها تمثل جانباً مهماً من الجدوى الاقتصادية للمشروع.
وأعلن مدبولي خلال المؤتمر أن مسؤولي صندوق النقد الدولي سيزورون القاهرة خلال الفترة من 1 ــ 12 ديسمبر(كانون الأول) المقبل، لإجراء المراجعتين الخامسة والسادسة، مؤكداً أن "الاستثمارات الخاصة سجلت نمواً بنسبة 73 في المئة هذا العام مقارنة بالعام الماضي"
التمويل الإنتاجي أم التوسع في الدين؟
في الحقيقة، تواجه مصر تحدياً مزدوجاً يتمثل في ارتفاع الدين من جهة، وحاجة الاقتصاد إلى تمويلات كبيرة لدعم النمو من جهة أخرى، وتتركز رؤية المحللين حول ضرورة التحول من تمويل قائم على الاقتراض إلى تمويل قائم على تدفقات إنتاجية.
وبحسب التقديرات، فإن قدرة الاقتصاد على تحمل الدين مشروطة بثلاثة محددات رئيسة، أولاً زيادة الاستثمار الأجنبي المباشر في قطاعات ذات قيمة مضافة عالية، ثانياً خفض اعتماد الدولة على الدين القصير الأجل الذي يمثل جانباً كبيراً من الأخطار المالية، وأخيراً استعادة قدرة الجنيه المصري على تحقيق استقرار سعري لخفض كلفة خدمة الدين المقومة بالعملات الأجنبية.
وترى مؤسسات بحثية دولية أن نجاح مصر في تنفيذ برنامج الخصخصة وفق جدول زمني واضح، إلى جانب زيادة الفوائض الأولية في الموازنة، قد يغير المسار تماماً خلال ثلاثة أعوام.
على أية حال، تظهر مؤشرات الدين الخارجي أن مصر تقف في منطقة دقيقة بين ارتفاع الحاجات التمويلية من جهة، وتوسع اقتصادي محتمل من جهة أخرى، وعلى رغم حدة الضغوط، فإن تنويع أدوات التمويل وزيادة الاعتماد على الصكوك وتحسين تدفقات الاستثمار قد تمنح الاقتصاد فرصة لاستعادة التوازن خلال الأعوام المقبلة.