ملخص
أعلن صندوق النقد الدولي أنه سيرسل بعثة متخصصين إلى مصر هذا الخريف لمراجعة التقدم في برنامج القرض وإصلاحاته، مشدداً على أن مرحلة الاستقرار الاقتصادي التي دخلتها البلاد تمثل فرصة لإطلاق إمكانات نمو أكبر، يأتي ذلك في وقت انخفض فيه معدل التضخم السنوي إلى نحو 12 في المئة خلال أغسطس (آب) الماضي
في تحول لافت في الخطاب الاقتصادي الرسمي أعلنت الحكومة المصرية "السردية الوطنية للتنمية الاقتصادية" كخريطة طريق بديلة لما بعد انتهاء اتفاقها مع صندوق النقد الدولي في 2026.
وبينما لا تعتزم القاهرة طلب قرض جديد، تطرح هذه السردية تساؤلات حول جدية التوجه لفك الارتباط التدرجي مع سياسات وشروط الصندوق الدولي، فهل تمثل هذه الإستراتيجية بداية لاستقلال اقتصادي فعلي، أم مجرد إعادة تموضع تكتيكي في ظل الضغوط الاقتصادية الداخلية والتوترات الخارجية المتزايدة؟
إلى ذلك، أعلن صندوق النقد الدولي أنه سيرسل بعثة متخصصين إلى مصر هذا الخريف لمراجعة التقدم في برنامج القرض وإصلاحاته، مشدداً على أن مرحلة الاستقرار الاقتصادي التي دخلتها البلاد تمثل فرصة لإطلاق إمكانات نمو أكبر، يأتي ذلك في وقت انخفض فيه معدل التضخم السنوي إلى نحو 12 في المئة خلال أغسطس (آب) الماضي، فيما ربط الصندوق صرف نحو 274 مليون دولار من برنامج الصلابة والاستدامة بتنفيذ إجراءات إصلاحية قيد المتابعة، في المقابل أطلقت الحكومة المصرية قبل أيام السردية الوطنية للتنمية الاقتصادية بعد انتهاء برنامجها مع الصندوق الدولي في نهاية 2026، مؤكدة التزامها الإصلاحات وتعزيز الاستثمارات والتصدير لتحقيق نمو اقتصادي مستدام.
إصلاحات أعمق
صندوق النقد الدولي أعلن الخميس الماضي أنه سيرسل بعثة متخصصين إلى مصر في خريف هذا العام لمتابعة تنفيذ الإصلاحات المرتبطة ببرنامج القرض، ودعا إلى إصلاحات أعمق تمكن مصر من إطلاق نموها الكامل، في الوقت الذي لم يحدد الصندوق الدولي موعد المراجعتين الخامسة والسادسة من البرنامج، اللتين تم الإعلان عنهما في يوليو (تموز) 2025، لكن المتحدثة باسم الصندوق أكدت أن الوقت مناسب الآن لتوسيع نطاق الإصلاحات.
وفي ما يخص التضخم، أشارت بيانات الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء في مصر إلى تباطؤ التضخم السنوي لأسعار المستهلكين في المدن إلى 12 في المئة في الشهر الماضي مقارنة بـ13.9 في المئة في يوليو السابق له، هذا الانخفاض جاء مدعوماً بسياسات مالية مشددة وحزمة مساعدات مالية ضخمة حصلت عليها مصر من صندوق النقد الدولي في مارس (آذار)2024، وتراجع التضخم من قمة بلغت نحو 38 في المئة في سبتمبر (أيلول) 2023.
ومن جانب برنامج الصندوق، تم الربط بين صرف مبلغ 274 مليون دولار من برنامج الصلابة والاستدامة (RSF) وتنفيذ إجراءين إصلاحيين لم يتم الكشف عنهما بالكامل بعد، وستتم مراجعتها ضمن المراجعة الأولى للبرنامج هذا الخريف، إلى جانب المراجعتين الخامسة والسادسة من برنامج تسهيل الصندوق الممدد (EFF)، إذ أشارت المتحدثة إلى أن دفعات مصر تحت هذا البرنامج ستصرف فقط بعد التأكد من تنفيذ الإصلاحات المطلوبة.
في مارس 2025، كان الصندوق قد وافق على صرف 1.2 مليار دولار بعد المراجعة الرابعة للبرنامج، ليصل إجمال ما حصلت عليه القاهرة حتى الآن من هذا البرنامج إلى 3.2 مليار دولار، من أصل اتفاق قيمته 8 مليارات دولار تم توقيعه في ديسمبر (كانون الأول) 2022 ويمتد لـ46 شهراً، ووافق الصندوق أيضاً على طلب مصر الاستفادة من تسهيلات برنامج الصلابة والاستدامة بقيمة 1.3 مليار دولار.
من جهتها، الحكومة المصرية أكدت استعدادها الكامل لإتمام برامجها الاقتصادية مع المؤسسات الدولية قبل نهاية العام الحالي، مشيرة إلى تحسن مؤشرات النمو والاستثمار، وإطلاق حزم تحفيزية للتصدير والصناعة وأسواق المال، إذ أعلن رئيس الوزراء الدكتور مصطفى مدبولي أن الدين الخارجي تحت السيطرة، وتسعى مصر إلى خفض الدين العام إلى الناتج المحلي إلى أقل من 80 في المئة هذا العام، وإلى أقل من 78 في المئة بحلول عام 2030.
"السردية الوطنية للتنمية الاقتصادية"
القاهرة أعلنت أخيراً عن "السردية الوطنية للتنمية الاقتصادية" كخطة خمسية حتى عام 2030 تستهدف النمو، والوظائف، وتصديراً بقيمة 145 مليار دولار، على أن تطبق بعد انتهاء الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، المقرر أن ينتهي في نوفمبر (تشرين الثاني) 2026، ولا تعتزم الحكومة المصرية طلب قرض جديد من الصندوق بعد انتهاء الاتفاق الخاص بالقرض الحالي.
وتستهدف "السردية الوطنية للتنمية الاقتصادية" رفع معدل النمو الاقتصادي إلى سبعة في المئة خلال خمسة أعوام، مقارنة بـ4.5 في المئة مستهدف في السنة المالية الحالية (2025–2026)، وتهدف أيضاً إلى مضاعفة عدد الوظائف الجديدة ليصل إلى 1.5 مليون وظيفة سنوياً، وزيادة قيمة الصادرات لتبلغ 145 مليار دولار بحلول عام 2030، مقابل 40 مليون دولار في عام 2024.
لا زيادة لأسعار الكهرباء
الأسبوع الماضي قال مدبولي خلال المؤتمر الصحافي الأسبوعي الأربعاء الماضي، إنه لا زيادة لأسعار الكهرباء في هذه المرحلة، مضيفاً "ننظر بمنظور شامل إلى كيفية تأثير الأسعار في التضخم، وكيفية تغطيتنا الدعم المطلوب للكهرباء بطرق أخرى، لذلك لا توجد في المنظور الحالي أية زيادات".
وأوضح أن مصر مستمرة في الإعلان عن مشروعات جديدة في المستقبل القريب على غرار مشروع "مراسي البحر الأحمر"، مضيفاً أنه سيتم الإعلان قريباً عن مشروعات في الساحل الشمالي والبحر الأحمر، مشيراً إلى أن توقيع عقد مشروع "مراسي البحر الأحمر" يعد خطوة مهمة في إطار خطة مصر لزيادة عدد السياح إلى 30 مليون سائح.
وأشار إلى أن الصادرات المصرية حققت نمواً بنسبة 20 في المئة هذا العام، والعمل جار للحفاظ على هذه النسبة في الأعوام المقبلة، لافتاً أيضاً إلى أن انتظام سداد مستحقات الشركاء الأجانب أسهم في زيادة الاستثمارات وارتفاع معدلات الإنتاج المحلي من النفط والغاز، مما ساعد على خفض فاتورة الاستيراد.
تعود المفاوضات بين مصر وصندوق النقد إلى تسعينيات القرن الماضي، إذ طالبت مصر مراراً بالحصول على قروض من صندوق النقد الدولي، ولم يتم الاتفاق حتى عام 2016، حين أعلنت القاهرة تبني برنامج للإصلاح الاقتصادي مدته ثلاثة أعوام، حصلت بموجبه على قرض بقيمة 12 مليار دولار على ست شرائح لمدة ثلاثة أعوام، وبموجب هذا الاتفاق، عوم الجنيه المصري في نوفمبر 2016، وانخفضت قيمته من سبعة جنيهات إلى 16 جنيهاً مقابل الدولار.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وخلال الأعوام التالية لـ2016، تأرجحت قيمة العملة المصرية أمام الدولار، ما بين 15 و18 جنيهاً، حتى عام 2022، بعد اندلاع الحرب الروسية - الأوكرانية، إذ شهدت العملة انخفاضاً حاداً جديداً، وبلغ سعر الصرف حينها 24 جنيهاً للدولار الأميركي الواحد.
وفي أكتوبر (تشرين الأول) 2022، وقعت مصر اتفاقاً جديداً مع صندوق النقد الدولي، تحصل بموجبه على 3 مليارات دولار لمواجهة أزمة نقص النقد الأجنبي في البلاد، بعد خروج استثمارات أجنبية غير مباشرة بأكثر من 20 مليار دولار في أعقاب الحرب الروسية - الأوكرانية.
وفي مارس 2024، وقعت مصر اتفاقاً جديداً لزيادة قيمة القرض من 3 إلى 8 مليارات دولار، وكان الحفاظ على سعر صرف مرن هو الشرط الأساس لكل هذه الاتفاقات مع صندوق النقد الدولي، وخلال الأعوام الأخيرة استمرت قيمة الجنيه المصري في الانخفاض حتى بلغت حالياً 48.2 جنيه مقابل الدولار.
تحرير سعر الصرف لم يكن الشرط الوحيد للاتفاقات مع الصندوق، بعدما اشترط الصندوق أيضاً إجراء حزمة من الإصلاحات المالية والضريبية، وخفض الدعم عن الطاقة والمحروقات، وخفض الإنفاق على مشروعات البنية التحتية، وخروج الدولة والشركات المملوكة للجيش من الاقتصاد، مقابل زيادة تمكين القطاع الخاص.
المواطن المصري تضرر
وقال المحلل الاقتصادي محمد النجار لـ"بي بي سي" إن "تجربة القاهرة مع صندوق النقد الدولي خلال الأعوام الـ10 الماضية أخرجتها من أزمة كادت تودي بها"، موضحاً "مصر استفادت من تحرير سعر الصرف، وتحرير أسعار الطاقة والغذاء، وذلك زاد من قدرتها على جذب تدفقات استثمارية جديدة، لكن من الناحية الأخرى كان هناك تداعيات سلبية على المواطن"، وأضاف "المواطن المصري كان يواجه تطورات الأزمة الاقتصادية بحال من الغضب وعدم التعاون، لكنه استطاع التأقلم من طريق إعادة هيكلة حاجاته، والتخلي عن المنتجات التي كانت تعتمد على الاستيراد"، قائلاً "الاقتصاد استفاد من تجربة التعاون مع صندوق النقد الدولي لكن المواطن المصري تضرر".
خلال الأعوام الـ10 الماضية ارتفع التضخم في مصر مرات عدة، إذ تجاوز 30 في المئة في بعض الأعوام، وعادة ما يصاحب الارتفاع في معدلات التضخم زيادة في أسعار الغذاء وكل السلع.
وتجاوز حجم ديون مصر الخارجية 150 مليار دولار بنهاية عام 2024، وهو ما يشكل 90 في المئة من إجمال الناتج المحلي بحسب تقارير صندوق النقد الدولي.
وحول دور "السردية الوطنية للتنمية الاقتصادية" قال النجار إن "خطة الحكومة لما بعد الاتفاق مع صندوق النقد الدولي لا تعني تخليها عن سياسة الاستدانة، موضحاً "كل الدول تعتمد على الاستدانة، لكن الأمر المهم هو كم تمثل نسبة الديون والقروض مقارنة بإجمال الناتج المحلي"، متوقعاً أن الحكومة المصرية ستعمل على تنويع طرق الاستدانة، مثل إصدار الصكوك أو محاولة التوجه إلى أسواق جديدة للاقتراض.
وشهدت مصر تراجعاً في إيرادات قناة السويس خلال العام الماضي بنسبة بلغت 61 في المئة لتسجل 3.99 مليار دولار، مقابل 10.25 مليار دولار في عام 2023، بسبب التوترات في البحر الأحمر، وهجمات جماعة الحوثيين في اليمن على السفن، مما دفع كثيراً من شركات الشحن لتحويل مسار عبورها من قناة السويس.
وحول أهمية "السردية الوطنية للتنمية الاقتصادية"، أوضحت وزيرة التخطيط والتنمية الاقتصادية والتعاون الدولي الدكتورة رانيا المشاط، أن "السردية أداة للتنافس العالمي لجذب الاستثمارات"، مشيرة في تصريحات إعلامية إلى إنفاق مصر كثيراً خلال العقد الماضي لتطوير البنية التحتية لتصبح مركزاً للطاقة الجديدة والمتجددة، ولتدفع الاقتصاد الكلي نحو الانطلاقة، قائلة "السردية تعني تقديم قصة اقتصادية متكاملة مقارنة بالنماذج الدولية الأخرى".
وأكدت أنها "تجمع تحت مظلتها الرؤى والبرامج والإستراتيجيات والأهداف الكمية، إذ تضيف أية إستراتيجية جديدة في أي قطاع مثل الشباب والرياضة على سبيل المثال تحت مظلتها لضمان الترابط"، مضيفة أن خطة الدولة الاقتصادية والاجتماعية المقدمة إلى مجلس النواب يجب أن تحتوي على جميع هذه العناصر للحصول على الموافقة اللازمة.
"عقد اجتماعي جديد"
المستشار الاقتصادي السابق لوزير التخطيط والمتابعة والإصلاح الإداري في مصر عبدالفتاح الجبالي قال إن "السردية الوطنية للتنمية الاقتصادية التي أطلقتها الحكومة المصرية أخيراً، تمثل محاولة لتقديم رؤية متكاملة للمديين القصير والمتوسط، خصوصاً في ضوء التساؤلات حول مستقبل الاقتصاد المصري بعد انتهاء برنامج صندوق النقد الدولي".
وأوضح الجبالي أن "السردية ترتكز على ثلاثة محاور أساسية، المحور الأول لتعزيز استقرار الاقتصاد الكلي، بينما المحور الثاني لزيادة القدرة التنافسية، في حين المحور الثالث والأخير لتحسين بيئة الأعمال مع دعم التحول إلى الاقتصاد الأخضر".
وأشار إلى أن الحكومة تستهدف قطاعات ذات أولوية مثل الصناعة والزراعة والسياحة والطاقة والاتصالات، مع تبني إطار موازني متوسط الأجل لضمان كفاءة التخطيط والاستثمار، مضيفاً أن "الوثيقة تظهر توجهاً واضحاً نحو تقليص الدور التشغيلي للدولة لصالح القطاع الخاص، عبر الشراكات أو التخارج، بما يتماشى مع وثيقة ملكية الدولة، وتفعيل أدوار جهات مثل صندوق مصر السيادي ووحدة الطروحات، لرفع النمو إلى سبعة في المئة بحلول عام 2030 وزيادة مساهمة القطاع الخاص إلى 82 في المئة".
لكن الجبالي أكد أن السردية، على رغم كونها خطوة إيجابية، تظل إطاراً إصلاحياً اقتصادياً لا يرتقي بعد إلى مستوى "رؤية تنموية شاملة"، قائلاً "مصر تحتاج إلى نموذج تنموي جديد قائم على تنمية احتوائية مستدامة، توفر فرص عمل لائقة، وتحقق عدالة في توزيع الدخول، مع تحسين الخدمات الأساسية مثل التعليم والصحة".
وشدد المتخصص في شؤون الاقتصاد على أهمية وجود دور حكومي واضح ومحدد، بجانب قطاع خاص ديناميكي يعمل وفقاً لقواعد السوق في ظل مؤسسات رقابية فعالة، قائلاً "المطلوب ليس فحسب إصلاحاً اقتصادياً، بل تحولاً جذرياً نحو عقد اجتماعي جديد يعزز العدالة والتنمية الحقيقية".