Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

سوريا تترنح بين عدالتين انتقالية وانتقائية

ميول المكونات الأساسية للاستقلال أو الانفصال أو طلب الفيدرالية في أضعف الأحوال بعد كل الأحداث التي ألمت بهم

حظيت لجنة التحقيق بأحداث السويداء بصلاحيات مطلقة (أ ف ب)

ملخص

تفكيك التركة لم يكن سهلاً على الإطلاق، وبعد مرور عام على سقوط النظام السابق لم تنجح السلطات الجديدة في إحراز تقدم حيوي لافت وصاعد يعتد به على الصعيد الداخلي، بحسب ما يراه مراقبون، خلاف الإنجازات التي حققتها على المستوى الدبلوماسي الخارجي، الذي تمثل بانفتاحات خارجية وقبول دولي مترافق مع ترحاب بالواقع الجديد.

ورثت السلطات السورية الحالية واحدة من أعقد التركات السياسية والاقتصادية والاجتماعية من النظام السابق، تركة قائمة على سيول من الدماء والفساد والمسارات المعقدة وامتهان الكرامات والحقوق والانتهاكات الواسعة والتعسف السلطوي في استغلال المنصب والنفوذ والتجبر لإخضاع الواقع السوري كاملاً تحت إرادة الحكم البعثي المتجذر في أدق مفاصل ومؤسسات ويوميات البلد وسكانها.

تفكيك التركة لم يكن سهلاً على الإطلاق، وبعد مرور عام على سقوط النظام السابق لم تنجح السلطات الجديدة في إحراز تقدم حيوي لافت وصاعد يعتد به على الصعيد الداخلي، بحسب ما يراه مراقبون، خلاف الإنجازات التي حققتها على المستوى الدبلوماسي الخارجي، الذي تمثل بانفتاحات خارجية وقبول دولي مترافق مع ترحاب بالواقع الجديد، وإن كان مع مرور الوقت يتقلص أو يتنامى تبعاً للمتغيرات على الأرض. فالحكام الجدد القادمون من خلفية تجربة الحكم في إدلب شمال غربي سوريا، لم يتمكنوا من التعامل بصورة مثالية مع الواقع الماثل أمامهم على كامل الجغرافيا، وهو ما قادهم لمواجهات دموية مع العلويين غرباً والدروز جنوباً والأكراد شرقاً، ترافقت مع انتهاكات وأحداث عنف يومية لم تتوقف ولم يجد أحد حلاً لها، وهو ما كان يضع شرعية السلطة نفسها على المحك مراراً، وذاك المحك كان بميول المكونات الأساسية للاستقلال أو الانفصال أو طلب الفيدرالية في أضعف الأحوال بعد كل الأحداث التي ألمت بهم.

أحداث الساحل

بين الـ6 والـ10 من مارس (آذار) الماضي أقدمت قوات السلطة السورية بمؤازرة فزعات عشائرية قدر عددها بـ200 ألف شخص، على صد هجوم نفذه نحو 300 ممن يطلق عليهم "فلول النظام السابق" على حواجز الأمن العام، بحسب الرواية الرسمية، لكن حصيلة الرد، وصلت إلى حد الإبادة والتطهير والجرائم ضد الإنسانية بمقتل 1500 علوي وإصابة واختطاف أعداد آخرين، بحسب ما وثقت منظمات حقوقية دولية وتحقيقات صحافية محايدة، بل إن بعضها ذهب إلى أن رقم الضحايا قد يكون مضاعفاً.

تحت الضغط الشعبي الهائل وفداحة الموقف والإنذارات الخارجية، وجهت دمشق بتشكيل لجنة تحقيق محلية بأحداث الساحل في لحظات يشوبها التوتر البالغ. ذلك التشكيل الهدف منه بعث رسائل طمأنة للداخل والخارج حول مسار المحاسبة، وكذلك بعد بدء تداول كميات كبيرة من الصور والمقاطع المرئية لعمليات الإعدام الوحشية على أسس طائفية. حينها أعطت السلطة اللجنة كامل الصلاحيات، ومددت فترة عملها مرتين حتى انتهت في شهر يوليو (تموز) وأصدرت بيانها النهائي.

منذ إعلان أسماء أعضاء اللجنة، بدأت المخاوف تتسلل إلى قلوب المتضررين، فهي لجنة "سلطوية بامتياز"، كما كان يراها الناس، المجتمع الدولي كان يريد لجنة مستقلة وحيادية بصلاحيات مطلقة، وهو ما أشارت إليه صحيفة "الغارديان" في حينه. في النهاية مارست اللجنة المحلية أعمالها، ولكنها أبدت تقصيراً فادحاً في العمل، فلم تستمع لكثيرين ولم توثق كثيراً واستثنت ريف حماه الغربي كاملاً من التحقيقات، باعتباره شهد مجازر مرتبطة بالساحل، وكذلك أكدت أنها خلال ولاية عملها لم تستلم أي إبلاغ عن اختطاف فتيات علويات، فيما عملت "رويترز" على ملف يؤكد أن تلك الفترة شهدت عمليات اختطاف فعلية.

مضمون تقرير اللجنة المحلية

تزامن صدور التقرير النهائي للجنة الساحل بالتزامن مع أحداث السويداء في يوليو، وقد حاول التقرير قدر المستطاع التملص من الأحداث الرئيسة، فرأى أن "الفلول" الذين هاجموا حواجز السلطة كانوا أقل من 300 شخص، وأن المتورطين بأعمال القتل ضد العلويين أيضاً كانوا أقل من 300 شخص.

اللجنة اعترفت في تقريرها بسقوط 1426 مدنياً في أحداث الساحل، فيما قتل 238 من العناصر الأمنية على أيدي من يطلق عليهم "الفلول"، وأشارت إلى أن هذه الانتهاكات لم تكن منسقة تحت مرجعية موحدة، بل اتسمت بالاتساع العشوائي، مؤكدة أن الدوافع الطائفية كانت غالباً ثأرية لا أيديولوجية. كذلك صنفت بعض الانتهاكات بأنها "جرائم قتل عمد ضد مدنيين، فضلاً عن حالات موثقة من السلب والحرق والشتم والتعذيب".

وأوضحت أنها وضعت تقريرها الموسع بين أيدي رئيس الجمهورية لاتخاذ الإجراءات المناسبة من دون الإفصاح عن أسماء وهويات الجناة لأسباب قضائية، مشيرة إلى أنها زارت في سياق تحقيقاتها 33 موقعاً، واستمعت لـ938 إفادة تتعلق بالقتل أو السلب والسرقة والعنف، وكذلك جرى الاستماع لـ23 إفادة من مسؤولين حكوميين، وأضافت اللجنة أنها تأكدت من أن حركة "الفلول" كانت "تهدف إلى سلخ الساحل عن سوريا وإقامة دولة علوية عبر تنظيم هرمي وأفقي مترابط".

تلقى أهالي الساحل تقرير اللجنة حينها بعين الريبة والاستغراب، معتبرين إياه بمثابة ذر الرماد في العيون. مأمون حسن كان أحد الناجين من مجازر بانياس قال "الرأي الجماعي هنا أن تلك اللجنة كانت تمارس دوراً وظيفياً لا أكثر ولا أقل، وكانت تعلم ما ستقوله مسبقاً، بل كان مجهزاً، الأمر كله كان محضراً لامتصاص غضب الناس، الفزعات قدمت من كل حدب وصوب، مئات آلاف المسلحين المتطرفين ومعهم قوات السلطة هاجموا قرانا ومدننا، ثم وجدت اللجنة أن من ارتكب بنا كل هذه المجازر والدمار هم 298 مقاتلاً فقط؟ نحن نعلم أنها لن تجرؤ على محاسبة جمهورها وعشائرها ولا مقاتليها الأجانب ولا قادتها، ولا حتى كبدت نفسها عناء إعلان أسماء المتهمين، إذا كان من هاجمنا عددهم يفوق 200 ألف، فماذا فعلوا إن كان من قتلنا فقط 298 شخصاً، هل كان البقية يتفرجون؟ ذلك التقرير مسيس وسخيف، فلول ماذا وهجوم ماذا ودولة علوية ماذا، هل في الساحل أصلاً سلاح ليكون هناك تمرد تقوم بموجبه دولة مستقلة؟".

التقرير المضاد

في أواسط أغسطس (آب) أصدرت اللجنة الأممية تقريرها في شأن أحداث الساحل، وهو ما أبرز فجوة عميقة الاتساع بين التقرير المحلي والأممي. فالتقرير الدولي تجاهل التقرير المحلي تماماً، مؤكداً وجود نمط واضح لاعتداءات موجهة ضد تجمعات مدنية، وقد نشرت المفوضية السامية لحقوق الإنسان تفاصيل التقرير كاملاً، الذي شكل ضربة للجنة المحلية من حيث لا تتوقع.

وقال رئيس اللجنة باولو سيرجيو بينيرو في بيان صدر مع التقرير "إن حجم ووحشية العنف الموثق في تقريرنا أمر مقلق للغاية". ووثق فريق الأمم المتحدة أعمال تعذيب وقتل وأعمالاً وحشية متعلقة بالتعامل مع جثث القتلى، واستند إلى أكثر من 200 مقابلة مع ضحايا وشهود وزيارات لمواقع مقابر جماعية وصور أقمار اصطناعية ومقاطع فيديو.

 

وجاء في بيان مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان: "أحداث الساحل شملت أعمال العنف التي استهدفت في المقام الأول المجتمعات العلوية، وبلغت ذروتها في مجازر وقعت في أوائل مارس - القتل والتعذيب والأفعال اللاإنسانية المتعلقة بمعاملة الموتى والنهب على نطاق واسع وحرق المنازل، مما أدى إلى نزوح عشرات الآلاف من المدنيين. وجرى تصوير بعض هذه الأعمال المروعة ونشرها على وسائل التواصل الاجتماعي، إلى جانب لقطات لمدنيين يتعرضون للإساءة والإذلال. وقد ارتكبت هذه الانتهاكات من عناصر قوات الحكومة الموقتة وأفراد عاديين عملوا إلى جانبهم، وكذلك من مقاتلين موالين للحكومة السابقة أو من يطلق عليهم ’الفلول‘. وشملت الانتهاكات أفعالاً قد ترقى إلى جرائم حرب".

وجاء في التقرير الدولي أنه بداية جرى فصل الرجال العلويين عن نسائهم ومن ثم تصفيتهم مباشرة، قبل تصفية نسوة أيضاً لاحقاً، وكذلك أطفال، كما أجبر المسلحون الأهالي على ترك جثث ذويهم لأيام في الشوارع ومنعهم من إقامة طقوس الدفن أو العزاء، فيما دفن آخرون في مقابر جماعية، مع اكتظاظ هائل بنسبة الجثث في المستشفيات لاحقاً. كذلك أقدم أفراد من فصائل معينة دمجت أخيراً مع قوات الأمن التابعة للحكومة الموقتة، على إعدام مدنيين خارج نطاق القضاء وتعذيبهم وإساءة معاملتهم في عدد من القرى والأحياء ذات الغالبية العلوية بطريقة منهجية وواسعة النطاق.

التقرير الذي اشتمل على عشرات الصفحات دان عناصر السلطة الحالية في مواقع عدة، وتحدث موسعاً عن عدم ضبط الانتهاكات المتنامية وعن فداحة المجازر التي تحصل باستمرار على شكل انتهاكات يومية، ومنها ما يتعلق باختطاف فتيات. وفي الملخص، فإن التقرير الأممي قد يكون تلاقى في بعض الجزئيات مع التقرير المحلي، ولكن الأكيد أنه نسف جوهر رواية الأخير.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ولعل اللافت في كل ذلك، هو أنه مع صدور التقرير الأممي نشرت معرفات وزارة الخارجية السورية رسالة قالت فيها: "رسالة شكر وتقدير من معالي وزير الخارجية والمغتربين أسعد حسن الشيباني إلى رئيس لجنة التحقيق الدولية المعنية بالجمهورية العربية السورية، سعادة السيد باولو سيرجيو بينهيور، على جهوده في إعداد التقرير، مؤكداً أن ما ورد فيه ينسجم مع ما توصلت إليه لجنة تقصي الحقائق الوطنية المستقلة". وهو ما قرأه متابعون للشأن السوري بعين الغرابة وعدم الفهم ربما، فخلاصة التقرير تدين السلطة لا تؤيد نتائج تحقيقاتها.

لجنة السويداء

على النقيض من لجنة أحداث الساحل التي جاءت في لحظة مركبة سياسياً ومبكرة من عمر السلطة الجديدة، فإن اللجنة الخاصة للتحقيق بأحداث السويداء التي وقعت في يوليو (تموز) الماضي، وبلغت ذروتها يومي الـ15 والـ16، قامت على دروس مستفادة من لجنة تحقيق الساحل، وتحت وابل ضغط مجتمعي ودولي واسع للغاية، خصوصاً أن عدد الضحايا هناك قارب 2000 شخص، بحسب توثيقات حقوقية ومنظمات معنية.

في أواخر يوليو، جرى تشكيل لجنة التحقيق بأحداث السويداء، وكذلك أعطيت الوعود بأن تعمل ضمن صلاحيات مطلقة، وأن تقدم الجناة والمتورطين للمحاكمة. اللجنة مؤلفة من سبعة أشخاص، قاضيان وأربعة محامين وضابط برتبة عميد. وبحسب القرار، تحدد مهمات اللجنة بالكشف عن الظروف والملابسات التي أدت إلى الأحداث في السويداء والتحقيق في الاعتداءات والانتهاكات التي تعرض لها المواطنون وإحالة من تثبت مشاركته فيها إلى القضاء، وحتى الآن لم يصدر تحقيق اللجنة، لكنه من المتوقع أن يصدر خلال الأيام القليلة المقبلة.

 

العفو الدولية تقدم روايتها والسلطة ترفضها

مطلع شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، أصدرت منظمة العفو الدولية تقريرها عن أحداث السويداء مؤكدة أن "القوات الحكومية والقوات التابعة لها تتحمل مسؤولية إعدام أشخاص دروز خارج نطاق القضاء في الـ15 والـ16 من يوليو في السويداء. وتشمل هذه الأدلة مقاطع فيديو جرى التحقق منها تظهر رجالاً مسلحين يرتدون بذلات أمنية وعسكرية، يحمل بعضها شارات رسمية، يعدمون رجالاً عزلاً في منازل وساحة عامة ومدرسة ومستشفى".

وأضاف تقرير العفو الدولية "الانتهاكات المروعة لحقوق الإنسان في السويداء ما هي إلا تذكير آخر مرير بالعواقب المميتة للإفلات من العقاب على عمليات القتل الطائفية في سوريا، التي شجعت القوات الحكومية والقوات التابعة لها على القتل من دون خشية المساءلة. وفي أعقاب عمليات القتل غير المشروع لمئات المدنيين من الأقلية العلوية واستمرار غياب العدالة، يترك هذا العنف ضد أبناء الأقلية الدرزية أثراً مدمراً في مجتمع آخر، ويؤجج مزيداً من الاضطرابات، ويقوض الثقة في صدقية الحكومة بالكشف عن الحقيقة وتحقيق العدالة وتقديم التعويضات إلى جميع الأشخاص في البلاد، الذين تحملوا عقوداً من الجرائم المشمولة بالقانون الدولي وغيرها من الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان".

ولكن سرعان ما جاء الرد على تقرير العفو الدولية من لجنة السويداء المحلية، واصفة إياه بـ"المجتزأ والمنافي للمسؤولية القانونية والأخلاقية لعدم تناوله انتهاكات كل الأطراف". وقال المتحدث الرسمي باسم اللجنة عمار عز الدين، في تصريح صحافي، إنه "كان يتوجب على المنظمة أن تضمن العدالة والموضوعية في تقريرها عبر الإشارة للانتهاكات من كل الأطراف"، مشيراً أنهم في صدد التعاون مع وزير العدل لإعداد رد على تقرير المنظمة.

وائل الحجلي أحد أبناء مدينة السويداء قال "منظمة العفو الدولية قالت الحقيقة كاملة، وكان بإمكانها أيضاً أن تتوسع أكثر وتذكر فظائع لم تصل إليها ربما، كحادثة إلقاء الشبان الأربعة من شرفة الطابق الرابع، وحالات الاغتصاب والاختطاف وأشياء يندى لها الجبين، نحن هنا نرى تقريرها منطقياً، بقدر ما نشكك سلفاً بتقرير اللجنة المحلية التي رأينا نظيرتها ماذا تبين معها في مجازر الساحل، غداً سيقولون إن دروزاً إرهابيين هاجموا بدواً في المدينة، ثم تدخل الأمن ليفض الخلاف فقمنا بقتلهم، نعرف سلفاً ماذا ستقول، لم يعد هناك مكان للتوافق مع سلطة دمشق، هذه قناعة عامة في السويداء".

المظالم السورية والحقوق المدنية

كان النظام السابق قد صادر آلافاً من ممتلكات السوريين بذرائع مختلفة، وقد أديرت بأشكال مختلفة، منتزعين بذلك الحقوق المدنية الأصلية للمواطن وفق تهم متنوعة، فضلاً عن كل عمليات التزوير والاستملاك بالقوة. اليوم تحاول السلطات الجديدة معالجة هذا الإرث المعقد لكنها تصطدم بالهيكلية القانونية - القضائية الهشة، وبالاستملاك الذي وقع بحكم الأمر الواقع من اختفاء سجلات الملكية الأصلية للعقارات، ومعظم التجارب الدولية الشبيهة تشير إلى أن الأمر يتطلب الدخول في مسارات قانونية تفض النزاعات الأولية عبر تنظيمها ضمن أصول قواعد القضاء المدني، الذي يزيده تعقيداً تشابكه مع محاكم الإرهاب السابقة التي كانت توعز بمصادرة أملاك المتهم أو المدان أو المسجون.

وبحسب المحامي نجيب مالك، فإن مركز التحدي في استعادة الحقوق الملكية يبدأ من الحديث عن الأحكام القضائية التعسفية السابقة ونقص الخبرات القضائية والشرطية الحالية، "يجب تشكيل هيئة وطنية عليا سريعاً لمعاودة النظر في مخلفات الماضي، لئلا يكون الاحتكام الموقت لمذكرات تصحيح قضائية قصيرة الأجل ولو كان بإمكانها إلغاء أحكام غيابية سابقة. اليوم هناك أسماء ما زالت مطلوبة أو ممنوعة من السفر، لأنها مثلاً تخلفت عن الخدمة الإلزامية في العهد السابق. الأمر يحتاج إلى ترتيب وزارياً وعدلياً كاملاً مع هيكلية منظمة وواسعة، ولا بأس بالاستعانة بالخبرات لتشكيل موضع تقويم شامل من الأسفل للأعلى، بعيداً من خسارة كثير من القضاة وظائفهم والاستعانة بشرعيين كثر ليحلوا مكانهم. على العموم، السلطة تحاول لكننا هنا نتحدث عن مئات آلاف الحالات وربما أكثر، لذلك نحتاج إلى وقت كبير جد".

 

الواقع والنص بين الماضي والحاضر

خلال نحو عقد ونصف عقد من الحرب السابقة، طغت محاكم الإرهاب والمحاكم الميدانية والأوامر الأمنية والقضائية التعسفية على أفراد المجتمع السوري، وهذه الأمور اليوم تعالج بصورة سليمة في مسار العدالة الانتقالية كأول اختبار حقيقي ملزم لها، فآلاف أوامر مصادرة الأملاك والحجر والتجريد من الحقوق المدنية قد صدرت في حق أناس كثر، هؤلاء المتضررون بأعدادهم الكبيرة ينشدون معالجة سريعة للمسألة، وعليه قررت وزارة الداخلية أخيراً أن تكون المراجعات الأمنية والشرطية المرتبطة بفترة ما قبل 2025 مبسطة وعبر الشرطة لتخفيف العبء والضغط ريثما تعالج فوضى الأعوام الماضية.

كان ذلك عن ضحايا الأمس، أما اليوم بعد انتصار الانتفاضة السورية، بات هناك ضحايا جدد، أولئك الذين يجري الاستيلاء على أملاكهم بقوة السلاح والترهيب، ذلك الاستيلاء يكون إما عبر التهديد المباشر لإرغام المالك على التنازل لصاحب السلاح عن ملكية العقار أو عبر إجباره بقبول البيع برقم لا يعادل شيئاً من ثمن المنزل الأساس، ويحدث ذلك حالياً في أحياء بيت الطويل والورود في حمص. وربما الأخطر هو التهجير بلا تفاوض أساساً، كما حصل عبر تهجير نحو 20 قرية علوية في محافظة حماة وسط سوريا، والاستيلاء عليها لصالح مقاتلين وعائلاتهم، بكل ما في تلك الأراضي من خيرات وفيرة تقوم على زراعة الزيتون والفستق الحلبي.

بين العدالتين الانتقالية والانتقائية

يرى كثيرون من مناصري السلطة الحالية أن مسار العدالة الانتقالية يسير بصورة جيدة، فيما يرى معارضوها، وهم مكونات مجتمعية متكاملة أن تلك العدالة تسير بأسوأ صورها ما دام أنها تعتمد الامتياز الطائفي معياراً.

قبل أيام، روجت وزارة الداخلية لمؤتمر صحافي رفيع يشرح واقع اختطاف الفتيات في سوريا، الفتيات العلويات تحديداً، من دون أن يشار إلى ذلك صراحة، لكن المؤتمر ركز على أن الوزارة تقصت الأمر في حمص وحماه وطرطوس واللاذقية، وخلصت إلى وجود 42 حالة اختفاء، واحدة منها فقط اختطاف، أما الـ41 الباقية فهي إما حالة هرب مع عشيق، أو خلاف أسري، أو دعارة ومخدرات، ليكون المؤتمر صادماً بكل المقاييس، مما دفع بالناشطين على الفور لنشر عشرات أسماء المختطفات مجهولات المصير منذ سقوط النظام وحتى الآن بصورة متواترة ومستمرة. واعتبر سوريون متابعون ذلك المؤتمر بـ"السقطة الفادحة والجارحة لكرامة العوائل السورية في مجتمع محافظ"، خصوصاً أن وكالات أنباء عالمية أفردت مساحات واسعة في أوقات سابقة لتحقيقات صحافية موثقة تتناول عمليات اختطاف النساء.

الحديث عن العدالة الانتقالية في سوريا يطول للغاية، لكن يمكن القول إنها انتقائية في قضايا كثيرة، فهي تقبل مصالحة رؤوس الأموال الذين كانوا أذرع تمويل النظام السابق عسكرياً، كما تقبل أن تقرب منها عرابي مجازر سابقة في حق سوريين، فيما تغض الطرف ملياً عن مدينة اشتعلت الحرب فيها فعلاً، والحديث هنا عن حمص، المدينة التي صارت عبارة عن دراجات نارية بملثمين يقتلون الناس على أسس انتقامية أو ثأرية أو طائفية.

وفي مفهوم العدالة عينه، ليس هناك اليوم في وزارتي الدفاع والداخلية، علوي أو درزي أو مسيحي، ربما قد يكون هناك شخص أو اثنان، والعدالة ذاتها هي التي صادرت سلاح مجتمع غرب سوريا، وتركته متاحاً بمئات آلاف القطع لدى العشائر في المحافظات الأخرى.

وعلى رغم ذلك قد تبدو تلك الأحداث على ضخامتها تفاصيل إذا ما قورنت بأساس المشكلة التي انبثقت من تشكيل اللجنة العليا للعدالة الانتقالية، التي نصت على محاسبة مجرمي عهد الأسد، ليتساءل السوريون ماذا عن مجرمي عهد ما بعد الأسد، خصوصاً مع مجزرتي الساحل والسويداء وتفجير كنيسة دمشق.

يقول القاضي عمران عرب إن سوريا اليوم بحاجة إلى إطار قانوني متكامل ومتوازن ومدروس يحكمه العدل لا رؤية الشيخ، ليؤسس لمسار عدالة انتقالية حقيقية لا يوجد فيها مواطن من عرق صاف وآخر نخب ثان وثالث وعاشر، وأضاف "يجب العمل على رأب الصدع المجتمعي وإطلاق حوار وطني حقيقي وليس استعراضياً كما حصل سابقاً ومعالجة الانتهاكات ومصالحة المكونات وتعديل الإعلان الدستوري وإلغاء التعسف وفرط استخدام القوة وضبط الفصائل وتحديد مهماتها وضمان حقوق جميع السوريين تحت مظلة القانون وإيجاد تشريع مركزي منظم. الدولة حتى اليوم رفضت وترفض استقبال أي وفد من طائفة بعينها، على رغم أنها تستقبل الجميع، الاستعداء يورث أحقاداً تجعل من العدالة الانتقالية بحد ذاتها وبالاً مستقبلياً".

بدوره يرى الأستاذ الجامعي عبدالرحمن صبوح أن السلطات الحالية تعمل ما بوسعها لتحقق عدالة انتقالية جامعة، لكنها تحتاج إلى وقتها وعلى السوريين الصبر، فإرث عقود من الطغيان لا يمحى بأشهر، "هناك أخطاء نعم وهذا طبيعي، قيادتنا اليوم انتقلت من حالة حصار في محافظة إلى حكم بلد كامل، هي تبلي أفضل بلاء في الخارج وتقدم وعوداً تعمل عليها قدر المستطاع، تواجه سلسلة متشابكة من التحديات التي تمتد من البنية القانونية وصولاً إلى التوازنات المجتمعية والأمنية، وهو ما يجعل مسار الانتقال معقداً وطويلاً".

ويتابع "المشكلات الرئيسة اليوم تكمن في تشتت السلطة بفعل الضغوط الداخلية والخارجية وضخامة الملفات أمامها، وآخرها الانضمام للتحالف الدولي لمكافحة الإرهاب، وهذا بحد ذاته موقف معقد جداً داخلياً. هناك مشكلة مع بعض الفصائل المحلية أو قادتها ومع الأجانب أحياناً، ولدينا نقص هائل في الوثائق الرسمية مع سجلات ضائعة أو متضررة بالجملة، وهذا يؤثر كثيراً في المعاملات اليومية، إضافة إلى الإرث النفسي والاجتماعي للصراع السابق، ولربما الأهم هو الجانب الاقتصادي المتهالك، إلى جانب التحديات السياسية والتوازنات الإقليمية والدولية، وكل تلك الأشياء تلعب دوراً في تحديد مسار العدالة وسلوكها، لذا فالأمر ليس كن فيكون".

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير