Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

التصوف: رحلة الروح عبر الأديان والتاريخ

الكابالا والفرنسيسكان والدراويش خرائط للصوفية بين اليهودية والمسيحية والإسلام

يستخدم مصطلح "التصوف" لوصف مجموعة واسعة من الظواهر الاجتماعية والثقافية والسياسية والدينية المرتبطة بالصوفية (أ ف ب)

ملخص

 التصوف إذا صار شعبوياً أعادنا للعمل بما هو أصيل عندنا، وبهذا سنتخلص من عدوى الحضارة الغربية التي أصبحت بلا أخلاق ولا أعراف، وإنما صارت تنحدر بالبشرية نحو البهيمية المحض كما يقول بعضهم، وكل محاولة لاسترجاع عافيتنا الاجتماعية من غير علاج ناجع للقلوب فإنها ستؤول إلى الفشل حتماً، فالتصوف هو المشفى القلبي الذي لا يضاهى.

من بين أهم الكلمات التي عرفتها المسيرة البشرية الروحانية كلمة التصوف، والصوفية لوصف تيار إنساني ووجداني وإيماني بعينه، فيما المنتسب إلى هذه الدائرة الروحية يطلق عليه المتصوف، ولعل من أكثر الأمور إثارة هو أن فكرة التصوف ليست قاصرة على دين بعينه من الأديان التوحيدية المعروفة بالكتب السماوية، مثل اليهودية والمسيحية والإسلام، ذلك أنه حتى بالنظر إلى المذاهب الوضعية الحديثة مثل البوذية والهندوسية والطاوية والماوية، نجد تيارات مشابهة بدرجة كبيرة، والأغرب والأعجب أنه قبل ظهور التوحيد وُجد أتباع لهذه الحركة، حتى وإن لم يطلق عليهم لفظة الصوفيين، فقد عرف المصريون القدماء قبل آلاف الأعوام كهنة بعينهم في معابد خاصة منقطعين للخلوة والزهد، متنسكين في معابدهم ومتطلعين نحو العالم الآخر ولا تشغلهم الحياة الدنيا.

على أن الحديث عن التصوف والصوفية غير متفق عليه من حيث المنشأ بداية، ثم التعريف والتوصيف تالياً، عطفاً على التشابهات والاختلافات بين التيارات الصوفية المختلفة المنتشرة حول العالم في حاضر أيامنا، شرقاً وغرباً، وسيل الكتب التي تناولت الظاهرة وحاولت تقديم رؤية في شأنها، فمن أين للمرء البداية في هذا الدرب الطويل والعميق والذي يصل الأرض بالسماء عقلاً ونقلاً وبحثاً عن حياة روحية وإنسانية أنفع وأرفع؟

من أين جاءت كلمة صوفية؟

في كتابه "الصوفيون" يقدم لنا الكاتب والمتصوف الأفغاني الشهير إدريس شاه (1924- 1996) رؤية عن جوهر الصوفية تجمع أنصار هذا التيار من كل الملل والنحل والطوائف، على رغم الاختلاف الكبير بينها، ويرى شاه أن جوهر الصوفية التي يراها أوسع الأديان، أو كما يرى المتصوف العراقي الأشهر أبو منصور الحلاج، تلك الحقيقة الجوانية لكل الديانات الصادقة من دون تفريق بين ديانة وأخرى، أو بين ديانة سامية وأخرى غير سامية من ديانات الشرق، ومن ثم تكون الصوفية دعوة إلى الحب بمعناه ومبناه الواسع، وبخاصة حب الخالق، ليس طمعاً في جنة ولا خوفاً من نار، وحب البشر الذي يبدأ من عند حب الرجل للمرأة التي رفعتها التقاليد الصوفية إلى منزلة عالية تقترب من التقديس، وبخاصة عند المتصوف الأندلسي الأشهر ابن عربي، وقد كان هذا التقديس للنصف الآخر يسير ضد التيارات السائدة في العصور الوسيطة، سواء في الشرق الأوسط أو أوروبا، بعد أن سادت فيهما وعليهما ثقافة الساميين التي تقول بدونية المرأة في الحياتين الباقية والفانية على السواء.

وعند الكاتب الأميركي الشهير روبرت ديفز يعد الصوفيون فرقة روحية قديمة لم يستطع أحد أن يتتبع جذورها الأولى أو يجد تاريخاً لبدايتها، ويزعم أن الصوفيين ليسوا فرقة تلتزم بعقيدة دينية مغلقة، على ما هم عليه من رقة الحال وعدم اتخاذهم مكاناً منتظماً للعبادة، كما أنه لا يعرف للصوفيين مدينة مقدسة ولا تنظيمات رهبانية ولا نصوص دينية لا يأتيها الباطل، بل يستهجنون إسباغ أي اسم شامل عليهم مما قد يدخلهم في سياق مذهبي.

وكثرت التعريفات الخاصة بأصل ومنشأ كلمة الصوفية والصوفيين، فهناك من يرجع الأمر للكلمة اليونانية "سوفيزم" أي محب الحكمة، وهناك من يرى أنه من الصوفة لأن الصوفي مع الله، كالصوفة المطروحة، لاستسلامه لله تعالى، وبعضهم يقول إنه من الصوف لأنهم كانوا يؤثرون لبس الصوف الخشن للتقشف، فيما فريق آخر قطع بأنه من الصفاء، فلفظة صوفي على وزن "عوفي" أي عافاه الله، وأكثر من ذلك أن يرجع بعضهم اسم "التصوف" إلى رجل زاهد متعبد في الجاهلية كان يلقب بـ"صوفه"، واسمه الغوث بن مر بن أد، كما أشار الزمخشري.

ويرى المستشرقون أن كلمة صوفي مأخوذة من "صوفيا" الكلمة اليونانية التي تعني الحكمة، وعندما فلسف العرب عبادتهم حرفوا الكلمة وأطلقوها على رجال التعبد والفلسفة الروحية، وقد تكون وثيقة ولصيقة الصلة من كلمة "ثيوصوفيا" بمعنى الإشراق.

الصوفية... أي معنى اصطلاحي للكلمة؟

يوقر الصوفيون شعائر الديانات طالما كانت تعزز التناغم الاجتماعي لكنهم في الوقت نفسه يوسعون الأساس الأولي الذي تقوم عليه استطاعتهم، ومن هذا المنطلق تعددت المفاهيم الاصطلاحية لمعنى الصوفية، فمنهم من قال إنه علمُ تعرف به أحوال تزكية النفوس وتصفية الأخلاق وتعمير الظاهر والباطن لنيل السعادة الأبدية، وهناك من يرى أن التصوف علم قصد لإصلاح القلوب وإفرادها لله تعالى عما سواه، فيما يرى مفسرون وشرّاح آخرون أن التصوف هو استعمال كل خُلق سني وترك كل خلق دني، فيما الإمام أبو الحسن الشاذلي يعتبر أن التصوف تدريب النفس على العبودية وردها لإحكام الربوبية، أما الإمام ابن عجيبة فيرى أن التصوف هو علم تعرف به كيفية السلوك إلى حضرة ملك الملوك، وتصفية البواطن من الرذائل وتحليتها بأنواع الفضائل.

والصوفية تمنح بحسب إدريس شاه الفرد المتفاني "جنينة سرية" لتنمية قدراته على الفهم والاستيعاب، لكنها لا تطلب منه بأي حال من الأحوال أن يصير ناسكاً أو راهباً على نحو ما يفعل الباطنيون الأشد تقليدية، ويرتبط الفهم العميق للتصوف بفكرة التذوق انطلاقاً من العبارة الشهيرة "من ذاق عرف"، أي أن المرء لا يستطيع الوصول إلى المعرفة الصحيحة عبر الجدال الفلسفي، وأقدم نظرية معروفة في تطور الوعي هي تلك النظرية الصوفية الجذور، والصوفية تتشابك بقوة مع مفهوم الإشراق الذي يأتي مع الحب بالمعنى الشعري.

 

 

وقد أدخل مصطلح التصوف في اللغات الأوروبية خلال القرن الـ18 على يد علماء المستشرقين الذين اعتبروه أساساً مذهبياً فكرياً وتقليداً أدبياً يتعارض مع التوحيد في الإسلام، وكثيراً ما أسيئ فهمه على أنه تيار على النقيض من صحيح الإسلام، وخلال الآونة الأخيرة جادل المؤرخ نايل غرين ضد مثل هذه التمييزات قائلاً إنه "في العصور الوسطى كان التصوف والإسلام متماثلين إلى حد كبير، وفي الاستخدام العلمي الحديث بات يستخدم المصطلح لوصف مجموعة واسعة من الظواهر الاجتماعية والثقافية والسياسية والدينية المرتبطة بالصوفية"، فهل كان التصوف في الشرق هو الجذر الأكبر للتصوف اللاحق في الغرب؟

غالب الظن أنه كذلك، ولا سيما بعد أن وجد التصوف طريقه إلى الأندلس منذ القرن الثاني للهجرة، وذلك تحت تأثير الاتصال بحركة التصوف عبر الشمال الأفريقي أو من طريق الصلات المباشرة مع المشرق الإسلامي، إذ كانت حركة العلماء لا تنقطع، فكان هناك من يغادر الشام للإقامة في الأندلس، كما كان علماء الأندلس يقصدون شبه الجزيرة العربية لأداء فريضة الحج فيتصلون بالمتصوفة في مكة والمدينة، بل ويسافرون للتباحث مع علماء ومتصوفة العراق وبلاد الشام وبلاد فارس أيضاً، وقد ازدهر التصوف في الأندلس بدخول القرن السابع الهجري وأصبح محي الدين ابن عربي أحد رؤوس الصوفية حتى لقب بالشيخ الأكبر، ولكن ماذا عن هذا الرمز الصوفي العربي الجذور الأندلسي المولد بنوع خاص؟

ابن عربي الشيخ الصوفي الأعظم

يعد الصوفي ابن عربي الذي يلقب في اللغة العربية بـ "الشيخ الأعظم" صاحب أحد أعمق نفوذ ميتافيزيقي على كل من العالمين المسيحي والإسلامي، ويرجع نسب ابن عربي إلى حاتم الطائي الذي يشتهر عند العرب حتى اليوم بأنه أكرم من في شبه الجزيرة العربية، وقد ورد ذكره في رباعيات عمر الخيام، واستمرت إسبانيا بلداً عربياً لأكثر من أربعة قرون من الزمان، وخلال تلك الحقبة جاءت ولادة ابن عربي وتحديداً في سنة 1164، وقد حمل لقب "الأندلسي" ضمن ما حمل من ألقاب، ويقول مؤرخو السير إن نشأته الصوفية ترجع لاتصال والده بالصوفي الكبير عبدالقادر الجيلاني الملقب بـ "سلطان الخلان"، ويقال إن بزوغ ابن عربي نفسه إنما جاء نتيجة للنفوذ الروحي للجيلاني الذي تنبأ لابن عربي منذ الصغر بأن هامته ستعلو بها مواهب بارزة.

وهناك تشابه في جوانب معينة بين ابن عربي والغزالي، فعلى غرار الغزالي انحدر ابن عربي من عائلة صوفية وكان مطلعاً مثله على الفكر في الغرب، ثم تفقه مثل الغزالي في تراث الإسلام، إلا أن الغزالي كان قد أتقن في البداية درس التقاليد الإسلامية ووجدها غير كافية وعندئذ تحول إلى الصوفية في ذروة نضجه، بينما حافظ ابن عربي منذ البدء على اتصال مستمر مع التيار الصوفي من خلال أشعاره من جانب ومخالطة الصوفيين من جانب آخر، وآمن أن رسالته كامنة في خلق أدب صوفي وجعلِه قابلاً للدرس حتى يدخل الناس بذلك إلى روح الصوفية، ويكتشفوها في وجودهم وتعبيرهم عن هذا الوجود أياً كانت خلفياتهم الثقافية.

ويظل جانب كبير من كتابات ابن عربي طي صندوق مغلق حتى يومنا هذا، اللهم في ما يتعلق بالصوفيين الأقحاح، فبعضها يخاطب أولئك الذين يُلمُون بعض الإلمام بالأساطير القديمة، ولذلك تجد هذه الكتابات مصاغة في عبارات أسطورية، وبعضها الآخر مما يتصل بالديانة المسيحية مصاغ على نحو أشبه بمدخل لأولئك الذين يدينون بالمسيحية ويلتزمون بفرائضها.

على أن هناك أشعاراً كتبها الصوفي العظيم كي ييسر على المبتدئين في الطريق الصوفي من خلال الاستمتاع بقصائد الحب والغزل، فليس في طوع فرد أياً كان أن يفك خبايا كل الأعمال التي أبدعها ابن عربي من طريق أدوات مدرسية أو دينية أو رومانسية أو عقلية، فهل ظهر في التاريخ الإسلامي كوكب آخر في سماء الصوفية لا يقل إشعاعاً أو إشراقاً عن ابن عربي؟

ابن الرومي القطب الصوفي الأشهر

من بين أهم الشخصيات الصوفية المشرقية يأتي مولانا وآخرون يلقبونه بـ "سيدنا"، وهو مؤسس طريقة الدراويش وقد ولد في إقليم باكتريا بأفغانستان لأسرة تنتمي لطبقة النبلاء مطلع القرن الـ 13، وعاش ودرس في إيكونيوم بآسيا الصغرى قبل نشأة الإمبراطورية العثمانية التي تقول التقاليد إنه رفض الجلوس على عرشها، وكتب أعماله باللغة الفارسية ولذلك قدرها الإيرانيون لمضمونها الشعري والأدبي والباطني إلى الحد الذي توصف معه بأنها "قرآن اللسان البهلوي"، مع أنها تتعارض مع العبادة القومية الفارسية، العقيدة الشيعية، فهو يقف موقف النقد من روحها التي تقوم على الاستبعاد.

وتشمل تأملات الرومي بعض الأفكار المصممة التي تجعل السالك يستوعب الحقيقة التي تقول إنه فقد وبصورة موقتة كل اتصال بالواقع، حتى ولو بدت الحياة العادية وكأنها مجمل الواقع نفسه، إذ يغني الرومي في إحدى قصائده "أنت تنتمي إلى عالم الأبعاد، ولكنك جئت من عالم اللاأبعاد، فأغلق المحل الأول وافتح الثاني".

 وهكذا نجد رؤية جديدة وشاملة لكل مظاهر الحياة والمخلوقات، فالعامل إذا كان لنا أن نستخدم خيال "المثنوي" مخفي في ورشة العمل، بمعنى أنه كامن وراء عمله الذي يكون كما هو عليه الحال وقد نسج عش عنكبوت عليه، فالورشة هي مطرح الرؤية وخارجها مطرح الظلام.

وتكشف حياة الرومي عن المزج بين الحكمة المنقولة وبين الإشراق الشخصي، وهو ما يعد أساسياً بالنسبة إلى الصوفية، فاتصل الرومي بالقطب الأعظم ابن عربي الإسباني الذي كان يقيم في بغداد ذلك الوقت، وجاء الاتصال من خلال برهان الدين وهو واحد من الذين تلقى الرومي العلم على أيديهم، وكان قد شق طريقه إلى بلاد السلاجقة كي يجد والد الرومي قد لقي ربه قبل وقت قصير من وصوله، وبذلك حل برهان الدين محل الوالد كولي أمره ومعلمه، فاصطحبه معه إلى حلب ودمشق، غير أن الرومي لم يبدأ إلقاء تعاليمه الباطنية شبه العلنية قبل أن يبلغ الـ40 من عمره، ولقد ألهمه الدرويش الغامش شمس الدين التبريزي كي ينتج كما هائلاً من أرق الاشعار، وأن يغلف تعاليمه بأسلوب وشكل استمراره على قيد البقاء طوال حياة الطريقة المولوية، وعلى هذا النحو أنجز الدرويش مهمته واختفى بعد ثلاثة أعوام من دون أن يعثر له أحد على أثر، وهنا أيضاً يعن لنا أن نتوقف معه وعنده من متصوفة الشرق والإسلام تحديداً؟ فماذا عن بعض من أهم رموز التصوف في المسيحية الغربية، هذا إن خلينا المسيحية الشرقية جانباً؟

فرنسيس الأسيزي والتصوف المسيحي

من بين أهم وقصص التصوف المسيحي الغربي نجد اسم فرنسيس الأسيزي والذي يعرف الجميع قصته في زمن الحروب الصليبية، غير أن الأسيزي صاحب قصة صوفية مثيرة، ذلك أنه كان من بين الشعراء الذين يعرفون باسم شعراء الـ "تروبادور" وهي كلمة عربية الأصل وردت إلينا من الأندلس ومنشأها تعبير "الطرب في الدار".

وفي سيرته التي كتبها توما الشيلاني نقرأ عن الأسيزي بوصفه شاعراً وفارساً وابن رجل من أثرياء إيطاليا، كان شاغله الوحيد المبارزة والفروسية والسعي وراء اللهو وحياة العالم، غير أن تجربة إيمانية روحية غيرت مساره ليترك المسار العالمي ويتفرغ للعبادة، ومن ثم إنشاء جماعة تنشد الفقر وتتعلق بالروحانيات، والتي ستصبح لاحقاً واحدة من أهم الجماعات الرهبانية في العالم كله، الرهبنة الفرنسيسكانية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

والثابت أن هناك كثيراً من الأوراق في حياة هذه الجماعة الرهبانية وغيرها من الجماعات ذات النزعة الصوفية المسيحية، تقطع بأنها تأثرت إلى حد كبير بوجود منظمات الدراويش المسلمين في الأندلس، وربما كان فرنسيس بدوره من الذين احتكوا بصورة كبيرة بالتجار العرب الذين باشروا تجارتهم مع نظرائهم في البندقية التي كانت مركزاً لامعاً في إيطاليا وعموم أوروبا بين القرنين الـ11 والـ 15.

ولعل تجربة تصوف الأسيزي كانت قد اكتسبت بعداً إضافياً حين زار مصر، وتحديداً دمياط التي قصدها بنوع خاص من أجل تحذير رجالات الحملات الصليبية من شر أعمالهم، وفي مصر التقى الملك الكامل ابن الملك العادل الأيوبي، وهذا بدوره كان تلميذاً ومريداً روحياً لقطب كبير من أقطاب الصوفية في العالم الإسلامي وهو الشيخ أبو الحجاج الأقصري، وبدا واضحاً أن تفاهمات روحية كبرى جرت بينهما وأثبتت أنه من الممكن جداً حدوث نوع من التلاقح الفكري الصوفي بين أطراف من أديان مختلفة، وأكثر من ذلك أن هناك من يرى أن تجربة الأسيزي الصوفية قد تماثلت بصورة أو أخرى مع بعض تجارب مولانا جلال الدين الرومي.

وفي عام 1224 ألّف فرنسيس أهم أناشيده وأكثرها جمالاً وحملاً لسماته الشخصية، وقد عرف باسم نشيد الشمس، والمعروف أن ابن الرومي كان قد كتب من قبل قصائد عدة نذرها للشمس ومنها قصيدته "شمس تبريز"، بل أطلق على أحد دواوينه الشعرية اسم "ديوان شمس تبريز"، وفيه وردت كلمة الشمس مرة تلو الأخرى.

والثابت أنه إذا كان صحيحاً أن الأسيزي كان يسعى في سبيل إقامة اتصال مع مصادر شعره الـ "تروبادري" فقد جاز لنا أن نتوقع منه أن يزور الشرق، كما يجوز أيضاً أن يحسن الشرقيون وفادته متى وصل إلى ديارهم، أضف إلى ذلك أن يكتب أشعاراً صوفية نتيجة لسفراته الشرقية.

ولعل ما هو غير معروف للعوام أن الأسيزي قد بلغ من الزهد والتصوف أن يرفض أن يسمى قسيساً واكتفى بأقل درجات الكهنوت المعروفة باسم الشماسية، ليجد متسعاً من الوقت للدخول في تعليم البسطاء من القرويين الأوروبيين، وقد مضى في هذا المدى على نمط الصوفيين الشرقيين، مغايراً لما كانت رتب ومدارك الكنيسة الغربية في ذلك الوقت تمضي فيه، ومعززاً بذلك الانتماء إلى روحانية البساطة وبعيداً من عظمة موظفي الله.

الـ "كابالا" وطريق التصوف اليهودي

يتساءل القارئ إذا كان للصوفية حظ ونصيب في الإسلام والمسيحية على النهج الذي رأيناه أعلاه، فهل يعني ذلك أنه لم يكن هناك تصوف في اليهودية السابقة للمسيحية والإسلام؟

 الجواب مركب وغير بسيط ويستلزم نوعاً من الغوص العميق في تكوينات اليهودية والكتب الرسمية مثل التوراة، والجانبية مثل التلمود والمشنا وغيرهما، غير أن كلمة بعينها تمثل مذهباً قائماً بذاته في اليهودية الصوفية ونعني بها الـ "كابالا"، فماذا عنها؟ وما الذي تحمله في دروب التصوف عبر التاريخ اليهودي؟

يزعم أتباع هذا المذهب من الكباليين أن فلسفتهم قديمة قدم البشرية وأنها بدأت مع آدم ثم نقلت عنه إلى نوح ثم إلى النبي إبراهيم الذي يقولون إنه تأمل في عظمة ومعجزة الوجود الإنساني وبنية الكون وعمل قوانين الطبيعة، فظهر له العالم الأعلى من خلال الوحي والإلهام، فقام بنقل جزء من أسرار هذه المعرفة إلى أتباعه الذين نقلوها بدورهم شفهياً عبر الأجيال، كما كان كل معلم يضيف براهين تجربته الشخصية.

وعند العارفين بتاريخ الفكر الصوفي اليهودي أن حركة الـ "كابالا" جاءت كرد فعل لمحاولات علماء الكلام اليهود من أمثال موسى بن ميون صياغة العقيدة اليهودية صياغة فلسفية صارمة، ومن جهة أخرى فإن تعاليم الـ "كابالا" وما فيها من دعوة إلى إنكار الذات والتطهر كانت الملجأ الذي أوى إليه اليهود في أوروبا بعد حملات القتل والتشريد والإبادة الجماعية وألوان الاضطهاد التي تعرضوا لها، وما كانوا يتعرضون له من حملات اضطهاد للأملاك والمخاوف التي كانت تحيط بهم من كل جهة، ولعل أفضل من قدم رؤية موثقة عن الـ "كابالا" كتيار صوفي في اليهودية الباحث المصري الكبير عبدالوهاب المسيري في موسوعته عن اليهود واليهودية.

ويقول المسيري إن الـ "كابالا" هي مجموعة التفسيرات والتأويلات الباطنية والصوفية عند اليهود، وأن اسمها "مشتق من كلمة عبرية تعني التواتر أو القبول أو التقبل أو ما تلقاه المرء عن السلف، أي التقاليد والتراث"، وكان يقصد بها أصلاً تراث اليهودية الشفوي المتناقل في ما يعرف باسم "الشريعة الشفوية"، ثم أصبحت الكلمة تعني منذ أواخر القرن الـ12 أشكال التصوف والعلم الحاخامي المتطور، وقد أطلق العارفون بأسرار الـ "كابالا" على أنفسهم لقب العارفين بالفيض الرباني، ويمكن القول إن هذا المذهب يمثل الجانب الصوفي الباطني لليهودية.

 

 

ولعل من أشد العوامل تأثيراً في انتشار تعاليم الـ "كابالا" ظهور المدونة الصوفية الجامعة الكبرى المعروفة بالزوهار في القرن الـ13 الميلادي، والمكتوبة في أجزاء منها ما هو بالآرامية وأخرة بالعبرية، فقد اعتبر الزوهار المنبع والمصدر للنزعات الروحية بين اليهود في اتجاهيها الرئيسين، التأملي الفلسفي والممارسة العملية.

والمتواتر عند مؤرخة الفكر الديني اليهودي أن أول من جمع مادة الزوهار من مصادر متنوعة ومختلفة هو موسى الليوني القرطبي المتوفى عام 1305، والذي نسب مادتها وما فيها من رؤى وأحلام وأساطير إلى الراباي سيمون بن يوخاي، والمعروف أن الفرصة قد تهيأت لتعاليم الزوهار لتنتشر وتسيطر على عقول كثر بعد طرد اليهود جبراً من الأندلس عام 1492، إذ حمل تعاليمها المهجرون عنوة إلى الشرق حيث تركيا ومصر وفلسطين، وإلى دول أوروبا الغربية مثل إيطاليا وألمانيا وهولندا وإنجلترا، وحيثما حل أتباع الزوهار عمدوا إلى نشر تعاليمها وترسيخ مفاهيمها وتعميم طرائق السلوك الخاصة به.

ومن أكثر الحركات التي خدمت الصوفية اليهودية حركة الـ "حسيدية" التي تبنت الـ "كابالا"، فهي حركة روحانية اجتماعية يهودية نشأت في القرن الـ17، ويعد بعل سيم نوف مؤسس الطائفة الرئيس وناشرها في أنحاء شرق أوروبا، والفكر الـ "حسيدي" وخصوصاً في الأجيال الأولى تميز بالدعوى إلى عبادة الرب وطاعته ومحبة إسرائيل وأتباعها الصالحين.

على أن هناك علامة استفهام تخص حديث الصوفية بعامة وفي المذاهب والملل والنحل كافة، وهو هل الصوفية على الدوام حركة عامة منهجية لها قواعد وثوابت؟ أم هناك تيارات شعبوية نشأت عبر الزمان على جانب تلك الصيحات الروحية؟

في إشكال التصوف الشعبوي

على رغم أن للحركات الصوفية تاريخاً طويلاً من الحضور على الصعيد النخبوي لكن الحوار أخيراً كان حول إشكال تحول ذلك النوع الراقي والخلاق من العبادات والتأملات والميل إلى المذاهب الفلسفية الباطنية العميقة، إلى ضرب من ضروب الخروج عن الأنساق العقلانية وفتح كثير من المسارات الاستهلاكية المنبتة الصلة بفكرة الوجد الروحي أو التجليات الوجدانية، وفي هذا الإطار فإن هناك اتجاهين في تحليل الظاهرة، الأول يرى أن تيار التصوف الشعبي هو فعل محمود لا مذموم، وأن التصوف إذا صار شعبوياً أعادنا للعمل بما هو أصيل عندنا، وبهذا سنتخلص من عدوى الحضارة الغربية التي أصبحت بلا أخلاق ولا أعراف، وإنما صارت تنحدر بالبشرية نحو البهيمية المحضة كما يقول بعضهم، وكل محاولة لاسترجاع عافيتنا الاجتماعية من غير علاج ناجع للقلوب فإنها ستؤول إلى الفشل حتماً، وأن التصوف هو المشفى القلبي الذي لا يضاهى.

والثاني يرى أن تحول الاحتفالات الصوفية إلى ما يشبه المهرجانات الشعبية والموالد السوقية أمر لا يليق، ذلك أنه يخرج الفكر الصوفي من دائرة الروحانية إلى المادية، حتى لو تذرع بعضهم بأن الأمر يعود بالنفع على أصحاب تلك الطرق الصوفية، ويجعلهم متحررين من الضغوط الاقتصادية للقائمين على الأمر من الجهات الرسمية.

 وفي كل الأحوال تبقى قضية الفكر الصوفي واحدة من القضايا الجدلية، ولا سيما في أزمنة باتت البشرية فيها على عتبات مرحلة مغايرة من التطور، أي أزمنة الذكاء الاصطناعي وما بعده من ذكاءات فائقة، يمكن أن تختصر الكثير جداً مما كان معروفاً وموصوفاً بل مألوفاً من دروب ومسالك روحية، فهل ستتعرض الصوفية في مقبل الأيام إلى حال من حالات الاضمحلال والتراجع؟ أم أنها ستتعاظم هرباً من المد التقني العالمي؟

ربما نجد الجواب عند الكاتب الإيرلندي الشهير جورج برنارد شو حين يقول "عند العاصف يلجأ المرء إلى أقرب مرفأ"، وليس أقرب إلى الإنسانية من الأديان والسماء في أزمنة المحن.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات