Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

بولندا... النسر الاقتصادي الأوروبي الصاعد

تجاوز ناتجها المحلي عتبة التريليون دولار أميركي

النمو الاقتصادي المتواصل أكسبها تسمية "المعجزة البولندية" (صور أنسبلاش)

ملخص

النمو الذي حققته بولندا خلال العقود الثلاثة الماضية استثنائي بكل المقاييس، إذ نجحت في التحول من اقتصاد منهك إلى قوة أوروبية صاعدة لتصبح بين أكبر 20 اقتصاداً في العالم، مما يشكل قفزة هائلة لبلد كان قبل 35 عاماً يرزح تحت نير النظام الشيوعي.

شهدت بولندا خلال الأعوام الأخيرة نمواً اقتصادياً لافتاً جعلها محط أنظار أوروبا. فوفقاً لبيانات حديثة من صندوق النقد الدولي، تجاوز إجمال الناتج المحلي البولندي عتبة التريليون دولار أميركي للمرة الأولى، إذ من المتوقع أن يبلغ نحو 1.04 تريليون دولار عام 2025، مما يضع بولندا رسمياً ضمن أكبر 20 اقتصاداً في العالم، متقدمة على سويسرا. ويشكل ذلك قفزة هائلة لبلد كان قبل 35 عاماً فقط يخرج من عباءة النظام الشيوعي.

ومع هذا الإنجاز بدأ الحديث أخيراً عن أحقية بولندا في الحصول على مقعد في "مجموعة الـ20" للاقتصادات الكبرى، إذ صرّح وزير الخارجية البولندي رادوسلاف سيكورسكي بأن لبولندا هذا الحق "ليس فقط لأنها واحدة من أكبر 20 اقتصاداً عالمياً، بل أيضاً كدولة قدمت نموذجاً سياسياً وفكرياً ناجحاً في التحول من اقتصاد موجه إلى اقتصاد حر".

ولم يكُن صعود بولندا الاقتصادي نتاج صدفة، بل حصيلة مسار طويل من النمو والإصلاحات خلال العقود الثلاثة الأخيرة. فمنذ انهيار المعسكر الشرقي عام 1989، بدأت بولندا بإصلاحات اقتصادية واسعة النطاق قادتها إلى اقتصاد السوق. وخلال هذه الفترة، ارتفع الناتج المحلي الحقيقي أكثر من ثلاثة أضعاف.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وتشير بيانات تاريخية إلى أن بولندا كانت تحتل المرتبة 38 عالمياً في حجم الاقتصاد عام 1990 (أقل من باكستان والجزائر آنذاك)، لكنها تقدمت إلى المرتبة 27 بحلول عام 2000 ثم 25 في 2010، لتصل الآن إلى مشارف نادي الـ20 الكبار. واكتسب هذا النمو المتواصل تسمية "المعجزة البولندية" في الأوساط الإعلامية، خصوصاً مع تمكن بولندا من تجنب الركود الاقتصادي منذ انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي عام 2004 (باستثناء انكماش عابر بسبب جائحة "كوفيد-19" عام 2020).

ويروي جان بارتك، وهو موظف في معرض سيارات بالعاصمة وارسو، ذكرياته عن تلك الفترة لصحيفة "إل بايس" الإسبانية، قائلاً "خرجنا من نظام شيوعي كبلد فقير، وكان علينا أن نعوض الكثير... أما اليوم فالبلد يوفر فرصاً لم تكن قبل 10 أعوام متاحة إلا في أوروبا الغربية".

عوامل قوة

أولاً، تعتمد بولندا على سوق داخلية قوية، إذ يشكل الاستهلاك المحلي نحو 60 في المئة من الناتج الإجمالي. وهذا الاعتماد على الطلب الداخلي جعل الاقتصاد أكثر مرونة أمام الأزمات العالمية، مقارنة بدول مجاورة تعتمد على التصدير، مما أسهم في انخفاض البطالة وارتفاع الأجور وعزز إنفاق الأسر ودفع عجلة النمو.

ثانياً، ساهمت الاستثمارات الأجنبية ودخول الشركات الغربية في تحديث الصناعة والخدمات، فصارت وارسو وكراكوف ضمن مراكز رئيسة لشركات التكنولوجيا والتمويل.

ثالثاً، يتميز الاقتصاد البولندي بالتنوع، إذ لا يعتمد على قطاع واحد، بل يشمل الصناعة التقليدية والتكنولوجيا والخدمات المالية. وساعد النظام التعليمي الجيد في توفير قوة عاملة ماهرة، مما سهّل انتقال العمالة إلى قطاعات متقدمة وربط الاقتصاد البولندي بشبكات الإنتاج الأوروبية.

رابعاً، تبنت بولندا سياسات مالية متوازنة، فنجحت في ضبط التضخم واستقرار العملة، مع الحفاظ على نسبة دين عام منخفضة نسبياً. وهذا الانضباط المالي، إضافة إلى ارتفاع الإنتاجية وثقة المستهلكين، خلقت مناخاً إيجابياً للاستثمار والنمو المستدام.

دعم الاتحاد الأوروبي

شكل انضمام بولندا إلى الاتحاد الأوروبي عام 2004 نقطة تحول مفصلية، إذ اندمجت بعمق في مؤسساته واستفادت من تدفقات مالية هائلة، فكانت على مدى الأعوام أكبر مستفيد صافٍ من صناديق الدعم الهيكلي الأوروبية التي مولت تحديث البنية التحتية من طرق وسكك حديد ومشاريع تنموية. ويعد الطريق السريع "أي12" A12 على الحدود البولندية- الألمانية مثالاً حياً على مشاريع أنجزت بتمويل أوروبي.

وأشار ياكوب كيركغارد من معهد "بيترسون" للاقتصاد الدولي في حديثه إلى "دويتشه فيله" الألمانية إلى أن بولندا "استخدمت التمويل الأوروبي بصورة مثالية لتطوير بنيتها التحتية ومحاربة الفساد على المستويات الدنيا، مما خلق مناخاً اقتصادياً جذاباً".

فعلى مدى العقود الماضية، استثمرت بولندا في تحديث صناعاتها التقليدية وفتح أبوابها أمام الاستثمارات الأجنبية، بالتوازي مع تطوير قطاعات حديثة كالتكنولوجيا والخدمات المالية. واستفادت كذلك من قوة عاملة ماهرة ومتعلمة حافظت عليها عبر نظام تعليمي جيد، مما سهل انتقال العمالة إلى قطاعات متقدمة. ويشير الخبراء إلى أنه منذ التسعينيات جرى توظيف هذه القوى البشرية في صناعات عصرية وبناء روابط تجارية ورأسمالية وثيقة مع أوروبا الغربية. وأكسب هذا الأداء المتوازن بولندا لقب "النمر الأوروبي على أعتاب ألمانيا" كما وصفها المحلل ماتيوس أوربان من مؤسسة "أوكسفورد إيكونوميكس"، في إشارة إلى قوتها الاقتصادية المتنامية بمحاذاة أكبر اقتصاد أوروبي (ألمانيا).

وعام 2024، وبعد سقوط الحكومة اليمينية المحافظة في وارسو وتحسن العلاقة مع بروكسل، أفرج الاتحاد الأوروبي عن 137 مليار يورو من صندوق التعافي الاقتصادي بعدما كانت مجمدة سابقاً بسبب خلافات حول سيادة القانون، مما أعطى دفعة إضافية للنمو.

وعلى الجانب الآخر من المعادلة، فإن نجاح بولندا الاقتصادي عاد بالفائدة على الاتحاد الأوروبي نفسه، إذ أصبحت بولندا خامس أكبر دولة في الاتحاد من ناحية عدد السكان، وها هي تقترب أيضاً من المراتب الأولى اقتصادياً (حالياً سادس أكبر اقتصاد في الاتحاد من ناحية الناتج الاسمي). وازداد الثقل السياسي لبولندا داخل مؤسسات الاتحاد تدريجاً مع ازدياد قوتها الاقتصادية، لتصبح صوتاً مؤثراً، خصوصاً ضمن مجموعة دول شرق ووسط أوروبا. وأسهم ازدهار بولندا أيضاً في توسيع السوق الأوروبية نحو الشرق وخلق فرص للشركات الغربية للاستثمار والتصدير إليها (على سبيل المثال تجاوزت صادرات ألمانيا إلى بولندا نظيرتها إلى الصين في النصف الأول من عام 2024).

بهذا المعنى، يمكن القول إن التكامل الأوروبي كان صفقة رابحة للطرفين: بولندا تنمو بدعم أوروبي، وأوروبا تستفيد من سوق بولندية نشطة ونموذج ناجح للتوسع.

الهجرة الدائرية

ومن الظواهر اللافتة في مسيرة بولندا الاقتصادية ما يُعرف بـ"الهجرة الدائرية"، أي خروج ملايين البولنديين إلى أوروبا الغربية بعد عام 2004 ثم عودة جزء كبير منهم بخبرة ورأس مال، فغادر نحو مليوني بولندي إلى بريطانيا وألمانيا وأوروبا الغربية، مستفيدين من حرية التنقل داخل الاتحاد. وهذه الهجرة التي عدّت في بدايتها نزيفاً للعمالة الشابة، تحولت لاحقاً إلى رافعة اقتصادية.

فقد ساعدت في تخفيف البطالة خلال أعوام التحول الأولى، وساهمت التحويلات المالية التي بلغت أكثر من 6 مليارات يورو سنوياً بحسب البنك الوطني البولندي، في دعم الاستهلاك الداخلي وتمويل مشاريع صغيرة.

لكن الأثر الأعمق جاء لاحقاً مع عودة عشرات آلاف المهاجرين المهرة بعد الأزمة المالية العالمية عام 2008، وقد اكتسبوا خبرة في بيئات عمل متقدمة ونظم إدارة حديثة، وعاد هؤلاء ليؤسسوا شركات صغيرة ومتوسطة، أو ليتولوا مناصب قيادية في قطاعات الصناعة والخدمات في وطنهم، مما ساعد في رفع مستوى الإنتاجية والانضباط المهني داخل السوق البولندية.

ويصف الخبير الاقتصادي من بنك "بيكاو" Pekao البولندي بيوتر بارتكيفيتش هذه الظاهرة بأنها "إحدى أهم الهدايا غير المتوقعة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي"، مشيراً إلى أن العائدين "جلبوا معهم ثقافة العمل الأوروبية إلى الداخل البولندي".

التجاذبات السياسية

لا يمكن فصل النجاح الاقتصادي البولندي عن المشهد السياسي، فخلال حكم حزب القانون والعدالة PiS حصل توتر مع بروكسل حول استقلال القضاء، مما أدى إلى تجميد أموال أوروبية كبيرة، إلا أن فوز التحالف الليبرالي بقيادة دونالد توسك عام 2023 أعاد الدفء للعلاقات مع الاتحاد، ونتج منه الإفراج عن التمويل المجمد.

لكن المشهد الداخلي ازداد تعقيداً بعد فوز المرشح القومي المحافظ كارول نافروتسكي (المقرب من حزب القانون والعدالة) بالانتخابات الرئاسية عام 2025، مما خلق حالاً من الازدواجية في السلطة بين حكومة مؤيدة لأوروبا ورئيس دولة ذي توجه مشكك في بعض سياسات الاتحاد، تنذر بصدام سياسي قد تكون له تداعيات اقتصادية. وبالفعل، حاولت حكومة توسك إقرار تشريعات لإصلاح النظام القضائي وإبعاد بعض القضاة المحسوبين على حزب القانون والعدالة، فقوبلت تلك الخطوات بمعارضة وعرقلة من قبل نافروتسكي.

وإذا استمر هذا التجاذب، فيخشى مراقبون أن يعود التوتر مع بروكسل للواجهة، مما قد يؤثر في تدفق الأموال الأوروبية مستقبلاً أو يضعف ثقة المستثمرين.

المستقبل

تمكنت بولندا خلال عقود قليلة من التحول إلى قوة اقتصادية أوروبية صاعدة، ويتوقع صندوق النقد الدولي أن تسجل نمواً بنسبة 3.3 في المئة عام 2025، مع بقاء فرصها قوية للحاق باقتصادات كبرى مثل ألمانيا خلال العقود المقبلة.

ويرجح الباحث ياكوب كيركغارد أنه "إذا عجزت ألمانيا عن تنفيذ الإصلاحات واستمرت بولندا في التطور كما فعلت منذ انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي قبل 20 عاماً، فإنها في نهاية المطاف ستتفوق على دول مثل ألمانيا". وعلى رغم أن هذا السيناريو لا يزال افتراضياً وبعيد المدى، فإنه يعكس الثقة بقدرات بولندا الكامنة وبأن فجوة اللحاق بركب الغرب تضيق بوتيرة أسرع مما كان متوقعاً.

لكن استمرار هذا النجاح يتطلب توازناً دقيقاً بين ضبط المالية العامة والحفاظ على النمو، فضلاً عن استثمار أكبر في التعليم والابتكار ومعالجة الشيخوخة السكانية.

أخيراً، تقدم التجربة البولندية دروساً مهمة للدول النامية والمتقدمة على حد سواء، ففي غضون 30 عاماً انتقلت بولندا من اقتصاد منهك إلى محرك للنمو في أوروبا، مستفيدة من الانفتاح والتكامل والإدارة الرشيدة.

اقرأ المزيد