ملخص
تستكشف هدى عبدالحليم في مجموعتها القصصية "سماء بلون اللاڤندر" تيمة الفقد عبر رمزية الألوان، فتتنوع فيها صور الغياب بين فقد الحبيب والأب والأم، في توظيف فني يجعل من اللون وسيلة لتحليل الذات واستكناه أعماقها.
تركز القاصة المصرية هدى عبدالحليم في مجموعتها القصصية "سماء بلون اللاڤندر" (دار المحرر) على تيمة الفقد والغياب، التي تتوزع في ثنايا النصوص عبر تمثيلات متعددة للحرمان الأبوي والعاطفي والوجودي. ويتجلى ذلك في صور متكررة لغياب الأب أو الأم أو الأخ أو الحبيب، وما يخلفه كل شكل منها من أثر نفسي عميق يظهر في سلوك الشخصيات وتكوينها الداخلي وتعاملها مع العالم الخارجي.
تعتمد الكاتبة في إبراز جوانب الفقد نفسياً على دلالات الألوان، مانحة كل قصة اسم لون يعبر عن الحالة الوجدانية الكامنة فيها، مثل: "قميص أسود"، "أبيض هو لون الموت"، "اقتفاء أثر اللون الرمادي"، "بقعة خضراء داكنة"، و"سماء بلون اللاڤندر".
كما تتبدل دلالات الألوان تبعاً لصورة الفقد التي تختبرها الساردة في كل قصة، لتصبح مرايا تكشف عمق الجرح الداخلي وتحولاته. ففي القصة التي تحمل عنوان المجموعة "سماء بلون اللاڤندر"، تعاني الساردة من فقد الحبيب، وهو زوجها الرسام التشكيلي الذي غادر المنزل إثر خلاف شجر بينهما، لتكتشف بعد رحيله أن اللون الذي اختارته لجدران بيتها (اللاڤندر)، لم يعد كما كان، "لم تحسب وهي تختار يوماً هذا اللون لجدران بيتها أنها ستراه لوناً خانقاً داكناً، ينافس في ظلمته ظلمة حجرتها في منزل والدها". يتغير معنى اللون من رمزيته المبهجة والحالمة للبهجة إلى علامة قاسية على الغياب والخسارة، فبعدما كان يفيض بالدفء والسكينة في حضور الحبيب، صار بعد رحيله داكناً خانقاً لا يربت على كفها ولا يحتويها.
ازدواجية وجدانية
تقدم القصة تعريفاً للون اللاڤندر، "يمتلك سر الفرح والحزن بكل درجاتهما، ربما كلوحة الموناليزا، ترى في هذا اللون الابتسامة والحزن، البهجة والألم ودرجات كثيرة بينهما". فقد ارتبط هذا اللون في وعيها بلوحة لزهور اللاڤندر شاهدتها في أحد المعارض، فكان هو البوابة الأولى لعالمها الجمالي والعاطفي معاً، لكن خلف هذا الحس الرومانسي تكمن تجربة أسرية مأزومة، فبطلتها تعاني تفككاً أسرياً بعد طلاق والديها، وتعيش مع زوجة الأب التي تعاملها بتمييز واضح، بينما يظهر الأب بصورة البخيل عاطفياً ومادياً، يقطع عنها المصروف فور تخرجها، في وقت يشتري فيه شقتين لولديه وهما لا يزالان في المرحلة الابتدائية، ويغدق بالهدايا والمشغولات الذهبية على زوجته. فاللاڤندر في هذه القصة يقدم صورة دقيقة لروح البطلة التي تعيش عالمين متناقضين حس حالم وواقع قاس.
يتجلى الفقد الممتزج بالألوان والتشتت الأسري أيضاً في قصة "اقتفاء أثر اللون الرمادي"، حيث تعيش بطلتها شيرين صدمة غياب الأب الذي هاجر بحثاً عن لقمة العيش ولم يعد، تاركاً وراءه جرحاً غائراً في نفس الأم والابنة معاً. يتحول هذا الغياب إلى ندبة رمادية تظهر في التفاصيل اليومية، وفي الملابس الرمادية الداكنة التي ترتديها شيرين كدرع صامتة تخفي الألم، "هذا اللون الرمادي الذي يحيط بها في صمت وبرود ليزيد إحساسها بالبرود والخواء، هذا الإحساس الذي يملأ حياتها ويومها وسنوات عمرها" (ص68).
يصبح اللون الرمادي عنواناً لحياة السارة بأكملها، لون الأمل المعلق والمخلص الذي لا يأتي، لون الحياد القاتل الذي يطفئ الأحلام ببطء وقسوة، ويحول الذاكرة إلى مساحة غائمة بين الماضي والمستقبل، يستبدل الحيوية بالجمود والفراغ. ويتكرر هذا الشعور حين يقرر حبيبها الطبيب السفر إلى الخارج، فتنقطع سبل التواصل بينهما، لتجد نفسها من جديد في منطقة رمادية لا تستطيع مغادرتها أو التكيف معها، تماماً كما لم تستطع من قبل تجاوز غياب الأب.
لون الموت
ويأتي اللون الأبيض مرتبطاً بفقد الأم والأب في "أبيض هو لون الموت" التي تتناول حكاية أسرة سعيدة، بعد وفاة الأب ينحدر مستواهم الاقتصادي والاجتماعي، فيضطرون إلى ترك سكنهم الفسيح والعيش في قبو مظلم بلا نوافذ، وتترك البنت الكبرى/ الساردة المدرسة لتفرغ للعناية بجدتها وأخيها وأختها الصغيرين، بينما تخرج الأم إلى العمل مرتدية خماراً أسود، من دون تعرف الابنة ما هو مجال عملها، وفجأة تختفي الأم لتحمل الابنة عبء الأسرة ويرتبط اللون الأبيض معها بالموت منذ أن امتهنت تغسيل الموتى خصوصاً من هم كبار السن.
وفي قصة "قميص أسود" يرتبط اللون الأسود في قصة بدلالة الفقد، تحكي عن توأم فقد شقيقه، فيدفعه الحزن الشديد إلى فقدان الاتزان النفسي وتقمص شخصية الراحل، لينتهي به الأمر في مستشفى للأمراض العقلية. وتكشف القصة، من خلال هذا الحدث المركزي، عن أبعاد نفسية واجتماعية أعمق تتعلق بظاهرة التفرقة في المعاملة بين الأبناء وما تخلفه من آثار سلبية على التوازن النفسي وتكوين الهوية الفردية. فالمتقمص لشخصية أخيه يرصد الحياة بعين أخيه "لا فارق يلحظ بينك وبينه، ولكنه سيظل هو منصور النابغ المتميز مثار اهتمام الجميع، بينما أنت لا شيء، لا شيء على الإطلاق" (ص15).
رسخ هذا التمييز الأسري لدى الأخ المهمش شعوراً بالدونية والاغتراب داخل محيطه العائلي، وهو ما يتفاقم مع إصابة الأخ المفضل بمرض مناعي مزمن استدعى اهتماماً مضاعفاً من الأسرة، فيفسر الأخ هذا الاهتمام تجاهلاً لشخصه، فينطوي على ذاته ويكبت مشاعره، مما يقوده إلى الانهيار النفسي. ففي هذه القصة يتخذ اللون الأسود في القصة بعداً مركباً يعبر عن الحداد على فقد الأخ من خلال الملابس السوداء التي يرتديها أفراد الأسرة حدداً على الراحل، ويجسد أيضاً الفقد الداخلي المتمثل في انهيار الذات لدى الأخ الباقي على قيد الحياة.
نسج خيال
وتتداخل في "بقعة خضراء داكنة" قصتان عبر لونين هما الأحمر والأخضر الداكن. تتعلق الأولى بكراسة عثر عليها مدرس لغة عربية متقاعد، كتب فيها أحد طلابه قصة لا يعرف المدرس إن كانت حقيقية أم من نسج الخيال. تحضر في هذه القصة مظاهر العنف الأسري في أكثر أشكالها قسوة، يتهم فتى مراهق والده بقتل أمه بعدما اعتاد إيذاءها وتعنيفها. كما يخوض معه صراعاً حول الشقة التي ورثها الابن عن أمه، رغبة في الاستيلاء عليها وبيعها، عارضاً على ابنه إغراءات غير أخلاقية لإقناعه. يعيش الصبي إثر ذلك أشكالاً متعددة من الفقد، فقد الأم، وفقد الأمان الأسري. ويأتي اللون الأحمر الداكن رمزاً لمشهد الأم الأخير وهي تنزف بعد اعتداء الأب عليها، فيحمل دلالة الجرح النفسي والمادي معاً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أما القصة الثانية المضفرة بها فتتناول المدرس المتقاعد الذي يعيش في عزلة ويتساءل عن جدوى حياته بعد التقاعد، فيقرر إكمال قصة الصبي التي وجدها في أحد مراكز الدروس الخصوصية، محاولة للتخفيف من وحدته وجعل لحياته معنى، ويشترك المدرس مع الصبي في رمزية اللونين الأحمر والأخضر الداكن، يحيل الأول إلى العنف والدم والموت، بينما يحيل الثاني إلى الخمول والإحباط والموت البطيء. ومن خلال تداخل اللونين تتجسد دلالات الفقد والانكسار الإنساني في بعديها النفسي والاجتماعي.
بنية دائرية
يتناوب ضميرا المتكلم والغائب في السرد داخل قصص المجموعة، وغالباً ما يتشارك الصوتان في سرد القصة الواحدة. يمنح هذا التناوب بطل القصة فرصة للتعبير عن مشاعره وتجربته الذاتية، سواء عبر الكتابة كما في قصتي "أسود وأبيض" و"بقعة خضراء داكنة"، أو من خلال السرد المباشر كما في بقية القصص. ثم يتدخل السارد العليم ليقدم وصفاً للعوالم المحيطة بالشخصية من منظور خارجي، كاشفاً التباين بين ما يدور في داخل الشخصية من أفكار ومشاعر، والصورة التي يعكسها العالم الخارجي عنها. لتتقاطع في السرد صورتان متوازيتان تعرضان أمام القارئ الصورة الذاتية الداخلية، والصورة الخارجية الموضوعية التي يكونها المجتمع.
تعتمد المجموعة على بنية زمنية دائرية تنطلق من لحظة راهنة ثم تعود إلى الماضي لاستحضار الأحداث السابقة، قبل أن تعود مجدداً إلى الحاضر. وتستخدم هذه التقنية وسيلة لاستطراد السرد واستكناه حياة بطل القصة، بما يرسم له صورة كلية تبين كيف وصل إلى اللحظة الراهنة من حياته، وكيف أسهم الماضي في تشكيل ملامح شخصيته الراهنة. ويتجلى هذا الأسلوب بوضوح في قصة "أبيض، اللون هو لون الموت"، التي تكشف كيف احترفت الساردة سعاد مهنة تغسيل الموتى، مدفوعة برغبتها في البحث عن أمها التي اختفت فجأة.
وفي الأخير تبقى الإشارة إلى أن حبكة أحداث قصص المجموعة اعتمدت على عنصر المصادفة، كما في "اقتفاء أثر اللون الرمادي"، التي تزخر بسلسلة من الأحداث يصعب تحققها في الواقع، على رغم الطابع الواقعي الذي يميز المجموعة عموماً. يلتقي السارد، وهو طبيب، بالفتاة التي كان معجباً بها في طفولته مصادفة في المستشفى الذي يعمل فيه، ثم بعد سفره للخارج ينهدم منزل أسرتها فلا يتمكن من الاهتداء إلى مكانها. غير أنه يلتقيها مرة أخرى بالمصادفة ذاتها في المستشفى حين تحضر مع ابنة أختها المريضة، ليكون هو الطبيب المعالج، وبذلك تجمع المصادفة بين الحبيبين من جديد، وهذا التكرار للمصادفات يضعف من تماسك الحبكة ويجعلها أقرب إلى الافتعال منه إلى البناء الواقعي المتماسك.