Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

إيران في مصير موزع بين تراكمات داخلية وخسارات إقليمية

ما شهدته الجبهة اللبنانية وسقوط نظام الأسد فتحا الطريق أمام الهدف الإسرائيلي - الأميركي الأساس والمشترك بتوجيه ضربة لرأس المشروع الإقليمي في طهران

المرشد الإيراني علي خامنئي (أ ف ب)

ملخص

إيران الساعية اليوم إلى إعادة تعريف دورها في الإقليم، ستكون مشغولة أيضاً بإعادة تعريف العلاقات الإستراتيجية التي تربطها بالحلفين الشرقيين الروسي والصيني، وضرورة أن تدرك بأن هذه الدول لن تقدم مصالح إيران على مصالحها الأولوية، مع إمكان أن تدخل هذه الدول في صفقات على حسابها تجعل منها ورقة مساومة في صراع المصالح بينها وبين واشنطن.

لطالما بنى النظام الإسلامي في إيران سلطته خلال العقود الثلاثة الماضية على تخادم بين عاملين مكملين لبعضهما، الأول ينطلق من تثبيت إسلامية النظام وضمان استمراره في يد الجماعة الحاكمة، وهذا البعد الأيديولوجي هو الذي يوفر له الغطاء والمدخل العقائدي لرفع شعارات وتبنى قضايا ذات طابع إسلامي وإقليمي من خارج القضايا الداخلية، والعامل الثاني هو النفوذ الإقليمي الذي تراكم على مدى هذه الأعوام وجعل منه أحد اللاعبين الأساس في المعادلات الإقليمية وحتى الدولية، من خلال شبكة الحلفاء والأذرع التي نسجها مع قوى وعواصم إقليمية، مستفيداً ومستغلاً الأزمات الداخلية التي سمحت له بسد الفراغ السياسي والعسكري نتيجة تراجع الدولة وسلطتها في هذه العواصم والدول.

راهن النظام الإسلامي وقيادته ومنظومة السلطة في إيران على أن يلعب هذا التخادم بين العاملين دوراً إيجابياً في تعزيز وتكريس مفهوم العمق الإستراتيجي للنظام، ولذلك دخل في صراعات مفتوحة مع العواصم الدولية والإقليمية، وتحديداً الدول العربية في الإقليم، التي رفضت هذه الطموحات التي تشكل تهديداً لمصالحها واستقرارها وسيادتها ودورها وموقعها في المنطقة والمعادلات الدولية، إلا أن هذا التخادم جاء على عكس التوقعات بعيدة المدى أو الإستراتيجية، بعد أن فرط بالفرصة التي شكلها وصول محمد خاتمي إلى رئاسة الجمهورية عام 1997، والذي استطاع أن يخرج إيران ونظامها من العزلة الدولية التي كانا يعيشانها نتيجة الاتهامات الدولية بضلوعهما في دعم العمليات الإرهابية في كثير من العواصم الغربية، خصوصاً في الأرجنتين وتفجير الكنيس اليهودي في بيونس أيريس، و"عملية ميكونوس" في برلين الألمانية، إضافة إلى دعمه الحروب التي خاضها "حزب الله" اللبناني عامي 1993 و1996 مع إسرائيل، والتي وظفها النظام للدخول على المعادلات الإقليمية التي استبعد منها بعد "مؤتمر مدريد للسلام" وإعلان "اتفاق أوسلو" بين إسرائيل و"منظمة التحرير الفلسطينية".

وصول خاتمي بخطاب إصلاحي إلى قيادة السلطة التنفيذية شكل صدمة لمنظومة السلطة والجماعات المحافظة الممسكة والقابضة على النظام والدولة، إضافة إلى التحدي العقائدي والأيديولوجي الذي وجدته الجماعات الراديكالية التي كانت تنتظر الفرصة المناسبة للانقضاض على مفهوم الجمهورية والتأسيس لحكومة إسلامية، على غرار حكومة "طالبان" حينها، ولم يجد رئيس مجلس صيانة الدستور أحمد جنتي حرجاً خلال خطبة الجمعة في جامعة طهران من المقارنة ب، "طالبان" الأفغانية وأن النظام لا ينقصه أي شيء لتشكيل حكومة وسلطة مماثلة وشبيهة في إيران.

 

وفي موازاة التحدي الذي جاء به الخطاب الإصلاحي، وبتعبير أدق يتناسب مع أدبيات تلك المرحلة وهو "اليسار الإسلامي"، والاستنفار الذي دخلت فيه منظومة السلطة الدينية لمواجهته، بدأت مرحلة جديدة من الإستراتيجية الخارجية للنظام مع تولي قاسم سليماني قيادة "قوة القدس" في "حرس الثورة السلامية" عام 1997، من خلال تصعيد النشاط على الساحتين اللبنانية والفلسطينية، وبناء منظومة نفوذ عسكري تعتمد على تعزيز وتعميق العلاقة مع "حزب الله" في لبنان وحركتي "حماس" و"الجهاد الإسلامي" في فلسطين، وانتقلت هذه الجهود إلى مرحلة متقدمة ومتطورة مع التغيير الذي حصل في رأس السلطة السورية بعد وفاة الرئيس حافظ الأسد ووصول ابنه بشار إلى السلطة، وتحولت معه سوريا من حاجة إيرانية إلى حديقة خلفية ورأس جسر لنفوذ الإيراني، مما سمح لطهران بالتأسيس لما يسمى "حلقة النار" حول إسرائيل، تهدف بالدرجة الأولى إلى تثبيت أركان المشروع الإقليمي لإيران في مواجهة المشروع الإسرائيلي، وإن كان الشعار الأيديولوجي المرفوع من قبل الجماعات المتحالفة قد ذهب إلى "العمل من أجل إزالة الكيان" من المنطقة.

الاحتلال الأميركي للعراق وانهيار الدولة في هذا البلد وصعود قوى جديدة كانت في معظمها متحالفة أو تدور في الفلك الإيراني، شكلت مدخلاً وفرصة لتعزيز النفوذ الإقليمي لإيران، وهو ما عرقل الإدارة الأميركية عن تركيب نظام جديد ينسجم مع أهدافها ورؤيتها ومشروعها في المنطقة، فأُجبرت على الذهاب إلى سياسة التقاسم في النفوذ مع طهران والتي تكرست مع إدارة الرئيس باراك أوباما الذي أضاف إلى هذه المعادلة الساحة اليمنية مع استيلاء الجماعة الحوثية على اليمن، والساحة السورية التي شهدت انتفاضة شعبية قبل أن تتحول إلى حرب بين النظام وإيران وحلفائها من جهة، والجماعات الإرهابية من جهة ثانية، وهو ما سمح لطهران بالادعاء بسيطرتها على أربع عواصم عربية، واعتبار القوى التابعة لها في هذه الدول والساحات جزءاً من "قوة القدس" وجنوداً في خدمة النظام الإسلامي وأهدافه على الساحتين الإقليمية والدولية.

هذا التوسع الإيراني في الإقليم، وعلى رغم أنه يصب في رؤيتها لمصالحها وعمقها الإستراتيجي، فإنه يشكل باباً للاستنزاف الاقتصادي، وعلى حساب الوضع الداخلي الذي يشكل البعد الأخطر والأبرز في مفهوم هذا العمق، فعلى رغم العنوان المعلن لقرارات مجلس الأمن وهو الأنشطة النووية وتخصيب اليورانيوم والمخاوف من تصنيع سلاح نووي، والتي فرضت عقوبات اقتصادية خانقة على إيران واقتصادها، لكن التوسع الإقليمي والتهديد الذي بات يشكله النفوذ الإيراني في الإقليم يعتبران من أهم وأبرز الخلفيات لهذه القرارات والعقوبات.

وضع إيران تحت العقوبات الدولية والأميركية وتحول الملف الإيراني إلى أزمة دولية تشغل اهتمام عواصم القرار الدولية وواشنطن ومعهم مجلس الأمن، تزامن مع وصول الرئيس محمود أحمدي نجاد إلى رئاسة الجمهورية، والذي كان نتيجة مسار طويل من عمل دؤوب قامت به منظومة السلطة والجماعات المحافظة والمتشددة في محاصرة الخطاب الإصلاحي التغييري من أجل استعادة المبادرة والإطباق مجدداً على مراكز القرار في الدولة ومؤسسات الدولة، وإعادتها لتكون في خدمة الرؤية الأيديولوجية والعقائدية للسلطة والنظام الإسلامي، وبعد سياسة محاصرة قاسية مارستها أجهزة النظام ضد القوى والأحزاب التي أسست لخطاب معارض، ومارست إرهاباً إعلامياً وسياسياً عليها عندما أقفلت المنابر والصحف الإعلامية ولاحقت الناشطين وزجت بهم في السجون، وسهلت سفر من أراد منهم إلى الخارج ليسهل عليها تصنيفهم أعداء للثورة والنظام، وعملاء للخارج وأجهزة الاستخبارات.

 

وصول أحمدي نجاد إلى السلطة أدخل إيران في حال من الإحباط الاجتماعي والسياسي وحتى الاقتصادي، وبدأت ملامح الأزمات السياسية والاقتصادية بالظهور وانعكست بصورة واضحة على الوضع المعيشي للمواطن الإيراني واقتصاده، بخاصة أن أحمدي نجاد حول الاقتصاد الإيراني إلى اقتصاد ريعي مستفيداً من المخزون المالي الذي تركه الرئيس السابق خاتمي وبلغ أكثر من 700 مليار دولار، وأيضاً من ارتفاع أسعار النفط الذي لم يكن بعد قد دخل في العقوبات الدولية، إذ بلغت الواردات الإيرانية في عهده أكثر من 600 مليار دولار، صرفت كلها من خلال التوزيع المباشر والقروض الضخمة التي هربت إلى الخارج من خلال منظومة الامتيازات التي منحها لبعض الموالين له ولمنظومة السلطة، سواء المؤسسة العسكرية أو القوى السياسية والجماعات المحافظة ومؤسساتهم الخاصة، إذ تحولت قوات حرس الثورة إلى شريك اقتصادي ضخم وعملاق للقطاعين العام والخاص، واستحوذت على أكثر من 40 في المئة من الاستثمارات والمشاريع الاقتصادية ومؤسساتها التي من المفترض أن تكون منتجة، وتسببت هذه السياسات في تراجع النمو الذي وصل إلى ما تحت الصفر بعد أن وصل في عهد خاتمي إلى نحو 12 في المئة، وارتفاع مستوى التضخم الذي وصل إلى أكثر من 49 في المئة بعد أن سلمه خاتمي أقل من 10 في المئة، وإضافة إلى سياسة كم الأفواه والتطهير العقائدي في الإدارات والمؤسسات التعليمية والسياسية والاجتماعية، فقد جاءت انتخابات عام 2008 التي أعادت منظومة السلطة إنتاج أحمدي نجاد لدورة رئاسية جديدة، على حساب المرشح هاشمي رفسنجاني الذي يعتبر أحد أبرز أقطاب الثورة والنظام، وأحد رافعات سلطة المرشد والداعمين له تاريخياً، لتؤكد أن النظام لن يتساهل في التعامل بقسوة مع أية محاولة لإضعافه أو فرض شراكة معه، وهو ما وضعه أمام انقسام سياسي واضح بين القوى المحافظة، وبخاصة المرشد وفريقه في الدولة العميقة، وبين القوى السياسية التي رفعت شعار التغيير والإصلاح والانفتاح، وهو ما أنتج ما يسمى "الثورة الخضراء" التي سقط فيها أكثر من 300 قتيل مع اعتقال آلاف من المتظاهرين، إضافة إلى سجن غالبية القيادات السياسية والإعلامية في التيار الإصلاحي وأحزابه، وعطلت البلاد أكثر من ستة أشهر نتيجة التظاهرات المعترضة على نتيجة الانتخابات والمطالبة بإزاحة أحمدي نجاد لمصلحة مرشحها مير حسين موسوي الذي لا يزال خاضعاً لقرار الإقامة الجبرية منذ ذلك الحين، وهي المرحلة أو الحقبة التي أسست لتنامي وجرأة الجماعات الداعية إلى إنهاء مفهوم الجمهورية في تركيبة وتسمية النظام، والانتقال إلى الحكم الديني المحض الذي يؤسس لمفهوم ومبدأ الحكومة الإسلامية برعاية روحية من رجل الدين المتشدد والراديكالي محمد تقي مصباح يزدي.

هذه الانتفاضة السياسية هزت أركان السلطة والنظام إلا أنه كان قادراً على تجاوزها من خلال استخدام العنف "المقدس" المغطى بالأيديولوجيا والشرعية الدينية باعتباره دفاعاً عن الدين والنظام الإسلامي في مواجهة أعداء الثورة وعملاء أجهزة الاستخبارات، واستطاع العبور من هذه المرحلة محملاً بكثير من الجراح التي فرضت عليه البحث عن آلية لإعادة ترميم أوضاعه وتنفيس الاحتقان الشعبي والاعتراض السياسي، إضافة إلى ترميم التصدعات التي أصابت جسده المحافظ بعد التمرد الذي مارسه أحمدي نجاد خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة من رئاسته الثانية، وأجبر المرشد والدولة العميقة على التعامل ببراغماتية معه بانتظار انتهاء رئاسته، وبالتالي لم يكن أمام هذه المنظومة سوى القبول بوصول حسن روحاني إلى الرئاسة لقطع الطريق على عودة رفسنجاني الذي بات على الضفة الأخرى من النظام.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وصول حسن روحاني إلى الرئاسة عام 2013 كان تحت شعار المفتاح الذي لم يكن يعني سوى الاستعداد للحوار مع الإدارة الأميركية، وما يشكله من بوابة للخروج من دائرة العقوبات الاقتصادية التي باتت تهدد بوضوح قدرة النظام على الاستقرار والاستمرار، حين باتت الأزمات الاقتصادية تشكل هاجساً وتهديداً بانفجار داخل بدأ يتبلور بين شرائح المجتمع الإيراني بجميع طبقاته.

نجح روحاني ووزير خارجيته محمد جواد ظريف في التوصل إلى اتفاق مع "السداسية الدولية" وخصوصاً إدارة الرئيس الأميركي أوباما ووزير خارجيته جون كيري، ووضع خريطة طريق لحل أزمة البرنامج النووي وأنشطة التخصيب، من دون أن يقارب الطموحات الإقليمية الإيرانية ونفوذها في المنطقة، وإذا ما كان روحاني قد استطاع خلال العامين الباقيين من رئاسة أوباما أن يحقق نقلة في الاقتصاد الإيراني ويعيد الحيوية لدورة الإنتاج والتجارة الدولية والعائدات المالية، لكن النفوذ الإقليمي تحول إلى مادة للصراع بينه وبين الدولة العميقة، وتحديداً "حرس الثورة" و"قوة القدس"، عندما رفض الموافقة على حجم الاستنزاف الذي يشكله هذا النفوذ والعمليات العسكرية التي يقوم بها سليماني داخل الإقليم، سواء في الحرب السورية أو الدعم الذي يقدمه لـ "حزب الله" مالياً وعسكرياً، إضافة إلى ما شكلته الساحة العراقية وفصائلها الموالية لـ "حرس الثورة" من باب آخر لمصروفات كبيرة، أو ما شكلته الساحة اليمنية من أعباء مالية جديدة.

روحاني أعطى الأولوية للأوضاع الداخلية الاقتصادية التي تمس الحياة اليومية للمواطن الإيراني ومصالح الحياتية على أي أعباء تذهب إلى دعم الجماعات والقوى الإقليمية، وفرض أن يكون الدعم المالي الذي يخرج من خزانة الدولة الإيرانية إلى النظام السوري بمثابة ديون على دمشق عبر فتح خطوط اعتماد وصلت قيمتها عند سقوط نظام بشار الأسد إلى نحو 30 مليار دولار، أما المصروفات المالية الأخرى التي كانت تصل إلى الساحات والقوى التابعة فكان يجري تأمينها من خلال آليات خاصة يقوم بها مكتب المرشد و"جماعة الحرس" في الدولة العميقة، باعتبار الحفاظ عليها جزءاً من المصالح الإستراتيجية والقومية للنظام وموقعه في المعادلات الإقليمية والدولية، وعلى رغم هذه الإجراءات والمواقف التي اتخذها روحاني فإن ذلك لم يمنع تصاعد الأزمات الاقتصادية، بخاصة أواخر عام 2018 بعد قرار الرئيس الأميركي دونالد ترمب خلال رئاسته الأولى الانسحاب من الاتفاق النووي والعودة لسياسة العقوبات المشددة والخانقة التي حرمت إيران كثيراً من عائداتها المالية من بيع النفط والتجارة الدولية، وهي ضغوط لم تكن منفصلة عن ضغوط داخلية مارستها الجماعات المتشددة والمحافظة التي حاولت محاسبته على إنجازه في الاتفاق النووي، وقطع طريق العودة لطاولة التفاوض وما يمكن أن يؤدي إليه من حل للأزمة مع الإدارة الأميركية، وبالتالي قد يعرقل أي حل مشروع عودة هذه الجماعات لقيادة السلطة التنفيذية، فكان أن انفجرت تظاهرات شعبية من مدينة مشهد شرق إيران على خلفية انهيارات مالية لمؤسسات اعتبارية، وضياع مدخرات صغار المودعين، وما لبثت أن اتسعت لتشمل غالبية المدن الكبيرة وتحولت إلى ما يشبه الثورة الشعبية ضد الأوضاع الاقتصادية، مما دفع النظام للتدخل واستخدام العنف والقتل لإعادة فرض سيطرته ومنع اتساعها، وأدى إلى سقوط مئات القتلى وآلاف الاعتقالات، وهذا التحرك قتل نحو 350 شخصاً باعتراف وزير الداخلية حينها عبدالرضا رحماني فضلي.

 

مكابرة النظام ورفض الاعتراف بأنه وصل إلى أزمة حقيقية في ترميم شرعيته الداخلية وضعته وجهاً لوجه مع حقيقة أن مستوى الرفض الداخلي له وصل إلى مراحل متقدمة، وهي المرحلة التي لم يعد فيها الاعتراض ناتجاً من أزمات سياسية أو اقتصادية ومطلبية وأزمات معيشية، بل بات ثقافياً وفكرياً من جهة ثنائية التشدد والراديكالية الدينية الأيديولوجية وبين الحريات الشخصية والسياسية والاجتماعية، ومن جهة أخرى بين منظومة سلطة قائمة على العقائدية وموقف يرى فشل السلطة الدينية ووصولها إلى نهايات تجربتها في السلطة والإدارة، بخاصة بعد اتهام السلطة القائمة بإعطاء الاولوية للشعارات الأيديولوجية والمصالح الخارجية على المطالب الداخلية، وحاجات الاجتماع الإيراني الاقتصادية والسياسية والحريات والتعددية بعيداً من سلطة الدين واستخدامه أداة لقمع المختلفين وعدم الاعتراف بحقوقهم، بخاصة بعد أن حاولت المنظومة استعادة سيطرتها وترميم خسائرها من خلال انتخاب إبراهيم رئيسي رئيساً للجمهورية والسلطة التنفيذية، فشكل مقتل الفتاة مهسا أميني في الـ 16 من سبتمبر (أيلول) 2022 على يد شرطة الأخلاق الشرارة التي فجرت بركان الغضب والرفض الشعبي، وتحولت شوارع المدن الإيرانية إلى ساحات سيطر عليها الجيل الشباب الذي لم يتأثر بكل الخطاب الأيديولوجي والديني الرسمي وغير الرسمي، واختبأت وراءه الأجيال الأقدم حتى من الذين أسهموا في الثورة وتثبيت النظام، في تعبير واضح على الانقسام العمودي الثقافي والفكري، فرفعوا شعار "المرأة والحياة والحرية"، وتطايرت معه كل القيود المفروضة رسمياً من السلطة في الحجاب والستر، وأجبرت النظام ومنظومته على التراجع بعد أن عجزت عن إعادة فرض قراءتها للسلوكيات الاجتماعية، ووقفت حكومة الرئيس الجديد مسعود بزشكيان إلى جانب المطالب الرافضة إقرار "قانون الحجاب" الجديد من منطلق إدراكها ما وصل إليه الاحتقان الاجتماعي، وأيضاً خوفاً من حصول انفجار قد يؤدي إلى نتائج لا يمكن تقدير مآلاتها، وهو موقف جاء مدعوماً من تقديرات "المجلس الأعلى للأمن القومي" الذي لا تصدر قراراته من دون مواقف واطلاع المرشد الأعلى.

 

 

هذه التطورات الداخلية وارتفاع حدة الأزمات الاقتصادية والانقسام العمودي ثقافياً وفكرياً وسياسياً تلاقت مع انفجار المواجهة بين حركة "حماس" وإسرائيل في علمية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 التي فاجأت القيادة الإيرانية التي وجدت نفسها في موقف يفرض عليها الاصطفاف إلى جانب "حماس"، بخاصة مع دخول "حزب الله" و"جماعة الحوثي" و"الحشد الشعبي" معركة الإسناد، مع قناعة بصعوبة التعامل مع هذا الحدث في ظل غياب قاسم سليماني، العقل المدبر لإدارة هذه الساحات، والذي اغتالته واشنطن مطلع عام 2020 في العراق.

حاول المرشد الإيراني قيادة التطورات بكثير من الحذر المدرك لعمق الأهداف والتداعيات التي ستنتج من هذه الحرب، وأن خطر خسارة كل الاستثمارات التي راكمها خلال العقود الثلاثة الماضية باتت في دائرة الخطر، فحاول ضبط إيقاع المعركة كي لا تتحول إلى حرب إقليمية شاملة ويكون قادراً على الالتزام بموقفه وشعاراته التي أسس عليها نفوذه الإقليمي وبنى قدرات حلفائه العسكرية في المنطقة من أجل المعركة الفاصلة التي يكون قادراً فيها على إنهاء إسرائيل ثانياً، والدفاع عن استمرار بقاء نظامه الذي يشكل جوهر هذا النفوذ الذي يضمن له دوراً في المعادلات الإقليمية.

وإذا ما كانت خسارة سليماني قد وجهت ضربة لرأس المشروع الإقليمي للنظام في طهران وأنهت طموحاته في إعادة ترميم أوضاعه الداخلية عندما كانت كل الأنظار تتجه لسليماني، باعتباره الرئيس الذي يعمل المرشد على رعايته، فإن عملية اغتيال الأمين العام لـ "حزب الله" في لبنان حسن نص الله كانت أشد قسوة على المرشد ومشروعه الإقليمي الذي أسس له تحت عنوان "محور المقاومة" أو "بناء الهلال الشيعي"، فقد خسر درة تاج المحور والشخص الأقدر على إدارة الأوراق الإقليمية للنظام بعد سليماني، لأن مقتله أسس لكل التطورات التي أصابت المحور وطهران، فالضربة القاسية التي تعرض لها "حزب الله" عسكرياً ونفسياً لم تقتصر ارتداداتها على قدرات الحزب في الساحة اللبنانية، بل ظهرت نتائجها في هرب الرئيس السوري ليلاً من دمشق بعد أيام من توقيع "اتفاق وقف الأعمال العدائية" بين لبنان وإسرائيل، وكان أحد الأسباب التي أقنعت بشار الأسد بمغادرة دمشق هو مقتل نصرالله وانعدام الوزن الذي وصل إليه الحزب، وبالتالي النفوذ الإيراني في الإقليم، وأنه فقد الجهة التي من المفترض أنها قادرة على مساندته واستمرار نظامه وسلطته، وما شهدته الجبهة اللبنانية وسقوط نظام الأسد فتحا الطريق أمام الهدف الإسرائيلي - الأميركي الأساس والمشترك بتوجيه ضربة لرأس المشروع الإقليمي في طهران، وقد أدركت القيادة الإيرانية أن الضربة التي تعرضت لها في الـ 13 من يونيو (حزيران) 2025 لم يكن هدفها التأديب بل القضاء على النظام وإنهائه، بعد أن وصل إلى مستوى من الضعف نتيجة خساراته الإقليمية وما يعانيه من أخطار نتيجة سيره على حافة الانفجار، بعد الحصار الاقتصادي الذي عاد ليشد الخناق حول رقبة المجتمع الإيراني والحكومة على السواء.

وبعد الخسارات التي لحقت بالمحور الذي تقوده طهران وتداعيات الضربة التي استهدفت قدراتها النووية والعسكرية، لم يعد النظام صاحب مشروع أنتجته أعوام من الردع والمقاومة والقدرة على إدارة الملفات السياسية، وتحول إلى واحد من اللاعبين في المعادلات الإقليمية بعد أن كان مؤثراً وصانعاً لها أو شريكاً في ترتيبها، وباتت كل استثماراته الهادفة إلى تخفيف النفوذ الأميركي والغربي في الإقليم أو إنهائه، عبر التفاوض أو صفقة سياسية بعيدة المنال، لأن الوجود الأميركي وبقاءه في الإقليم بات ضرورة للدفاع عن مصالحه ومصالح حلفائه، بخاصة أن حرب بين إسرائيل و"حماس"، إضافة إلى الحرب مع "حزب الله" وما أظهرته طهران من قدرة على الرد المؤلم، أعادت تكريس الدور الوظيفي لإسرائيل بعد أن كان طموح قادتها بدور الشريك الذي يتولى مهمة الحفاظ على المصالح الأميركية، وليس أدل على هذا الدور الوظيفي مما قاله أخيراً نائب الرئيس الأميركي دي فانس عن أولوية المصالح الأميركية حتى على المصالح الإسرائيلية، من دون أن يكون ذلك تخلياً عن العلاقة الإستراتيجية بين الطرفين.

وعلى رغم رفض القيادة الإيرانية لما يقال عن أن معركة النظام الآن هي من أجل البقاء، بعد أن خسر ما كان يتمتع به من قدرات، وبعد أن دمر برنامجها النووي الذي شكل أبرز أوراق قوتها، بخاصة أن إعادة تشغيله أو ترميم المنشآت التي دمرت قد يستغرق أعواماً عدة، فإن المتغيرات التي حصلت في الإقليم وبخاصة ما تعرض له المحور الذي تقوده إيران، ومدى الانكشاف الأمني والاستخباراتي وحتى العسكري الذي ظهر نتيجة الهجوم الإسرائيلي، وهشاشة القدرات الدفاعية التي انهارت في الساعات الأولى، يؤكد أن النظام الإيراني يواجه تحدياً وجودياً، سواء على المستوى الداخلي، أو على مستوى الجهود التي يبذلها لإعادة ترميم ما بقي من نفوذ إقليمي، فالالتفاف الداخلي الذي ظهر بين أبناء الإيرانية لم يكن من أجل النظام وإنما من أجل إيران، وقد كان الرئيس السابق محمد خاتمي واضحاً في تأكيد هذه النقطة، بأن الإيرانيين التفوا حول إيران وليس النظام الإسلامي، وأن ما ظهر من مواقف وطنية في خطابات المسؤولين والمرشد الأعلى قد لا يكون كافياً خلال المرحلة المقبلة للحفاظ على إيران واستقرارها ووحدتها، ولا بد من خطوات أكثر جرأة تأخذ بعين الاعتبار المطالب الشعبية في الاقتصاد والانفتاح والحوار والاعتراف بالتعددية السياسية والقومية والإثنية، إضافة إلى التخلي عن السياسات التقليدية في استعداء القوى الخارجية والتعايش مع الشروط العالمية والدولية، وخوض معارك لا طائل منها.

والنظام الذي يسعى إلى ترميم نفوذه الإقليمي، بناء على منطلقات جديدة لم يعد فيها مكان للطموحات الكبيرة، بل أصبحت محكومة بضرورة الحفاظ على هذا النفوذ واستمرار قدرة الحلفاء والموالين للبقاء ضمن المعادلات السياسية في أوطانهم، خصوصاً في لبنان والعراق، يقترب داخلياً من حافة الانفجار نتيجة التأثيرات السلبية للعزلة الدولية وتراجع مؤشرات حصول تسوية مع واشنطن بعيداً من الشروط والشروط المقابلة، وما يعنيه ذلك من ارتفاع مستوى التأثيرات السلبية للعقوبات الاقتصادية، وأيضاً نتيجة تصاعد حدة الصراعات الداخلية التي يحاول فيها التيار الراديكالي المتشدد في "المحافظين" استعداد المبادرة ومحاصرة الحكومة وتعطيل مشاريعها من خلال الضرب على وتر ترميم الوجه الإسلامي والديني للنظام، عبر إجبار الحكومة على تطبيق "قانون الحجاب"، بغض النظر عن تقدير المصلحة والأخطار الذي اعتمده "المجلس الأعلى للأمن القومي"، إضافة إلى اختراع معارك سياسية وهمية على خلفية الدفاع عن المصالح الإستراتيجية للنظام في علاقاته مع روسيا التي باتت تشكل العمق الإستراتيجي للنظام مع الصين، انطلاقاً من الهجوم على المواقف التي صدرت عن الوزير ظريف والتي تحدث فيها عن دور نظيره الروسي سيرغي لافروف في إقرار مبدأ "آلية الزناد" في الاتفاق النووي.

 

ولا تقتصر جهود الترميم على الحفاظ على ما بقي من قدرات "محور المقاومة" أو "هلال النفوذ الإيراني"، بل تشمل أيضاً الانشغال بترميم القدرات الدفاعية التي تهاوت في أول اختبار لها لتكون قادرة على التقليل من الآثار السلبية للهجمات الجوية على عمقها بالحد الأدنى، في حال نشوب حرب جديدة، إضافة إلى إعادة تأهيل قدراتها الصاروخية التي تمثل خط الدفاع الردعي الأول والأخير، مع تراجع قدرات المحور على مساندتها.

وإيران الساعية اليوم إلى إعادة تعريف دورها في الإقليم ستكون مشغولة أيضاً في إعادة تعريف العلاقات الإستراتيجية التي تربطها بالحلفين الشرقيين الروسي والصيني، وضرورة أن تدرك بأن هذه الدول لن تقدم مصالح إيران على مصالحها الأولوية، مع إمكان أن تدخل هذه الدول في صفقات على حسابها تجعل من طهران ورقة مساومة في صراع المصالح بينها وبين واشنطن.

وإذا ما كانت سلوكيات النظام الإيراني على الساحتين الإقليمية والدولية تشكل محل اهتمام للإدارة الأميركية، فإن موقع إيران في المعادلة الروسية لا يخرج عن إطار إستراتيجية واضحة لا ترغب في أن تتحول إلى قوة مؤثرة حتى لا تشكل تهديداً لها، وألا تضعف بحيث تندفع باتجاه الحضن الغربي، وعلى هذه المنطلقات جاءت كل السياسيات الروسية وحتى الصينية من طموحات إيران النووية وعدم رغبتهما في مساعدتها لتحقيق هذا الهدف، وما الدعم الروسي والصيني لإيران في مرحلة ما بعد الضربة الإسرائيلية - الأميركية سوى نتيجة الخوف من سقوطها وسقوط نظامها الذي قد يتحول إلى مصدر زعزعة في منطقة غرب آسيا لا تصب في مصالحهما الإستراتيجية، بخاصة أنها قد لا ترى في إطار الدفاع عن مصالحها حاجة إلى تكريس شريك لها في حال أقر المجتمع الدولي نهاية الأحادية القطبية والذهاب نحو أقطاب عدة على المستويين الدولي أو مناطق النفوذ الإقليمي للقوى الأخرى.

رهانات النظام ما بعد التطورات الشرق أوسطية وما تعرض له من ضربات، تقوم أو تسعى في أقصى طموحتها إلى بناء منظومة مصالح مشتركة مع روسيا والصين، أو اتحاد وتحالف اقتصادي أوراسي (في منطقة أورآسيا) يساعده في إعادة توازنه ضمن المعادلات الإقليمية، وتوافر له إمكان التعامل مع التأثيرات السلبية للعقوبات الاقتصادية، وقد يكون على القيادة في طهران الاستثمار في تعزيز الثقة والانفتاح على محطيها العربي وطمأنته، لأنه الأقدر على لعب دور إيجابي في التخفيف من الضغوط الأميركية، وإبعاد شبح الحرب وتأمين النظام من السقوط، انطلاقاً من مصلحة إستراتيجية وأمن قومي، لما لسقوطه من تداعيات على المنطقة بأكملها، وأن تذهب القيادة الإيرانية إلى الواقعية البعيدة من الغرق والاستمرار في الشعارات القديمة في قراءتها للتطورات والمتغيرات التي شهدتها المنطقة، وما صارت عليه أوضاع قوى المحور الذي تتزعمه، وليس بالضرورة أن يستدعي ذلك التخلي عن الموقف العقائدي والأيديولوجي الذي يقف عند حدود العداء مع إسرائيل، والمتوافق مع عدم تبني النظام منذ تأسيسه لإستراتيجية القضاء عليها، وهو ما قد يشكل بداية جديدة لها تساعد في إخراج طهران وإبعادها من دائرة الخطر، لتتحول إلى عامل استقرار في المنطقة، بخاصة أن خطابات ومواقف المرشد الإيراني بعد ديسمبر (كانون الأول) 2024 وسقوط سوريا وضربة "حزب الله" لم تعد تتحدث عن العمق الإستراتيجي لإيران، وأن هدفها هو فرض الانسحاب الأميركي من منطقة غرب آسيا، بل تحولت إلى مواقف ارتفع فيها منسوب الوطنية والقومية، مما يجعل التركيز على الداخل باعتباره العمق الإستراتيجي الأهم، وأن الحفاظ عليه أحد أهم أسباب التمدد في الإقليم، والمحرك والمتحكم في المواقف والسياسات الإيرانية خلال المرحلة المقبلة، بخاصة إذا ما استطاعت هذه المنظومة مع حكومة بزشكيان تجاوز الفخاخ التي بدأ نصبها التيار الراديكالي المنزعج من التوجهات الجديدة للنظام على صعيد السياسات الداخلية والنظرة إلى آلية الحكم، والمخاوف من أن تؤسس لمرحلة جديدة ومغايرة في طبيعة النظام والسلطة في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقبلة التي قد لا يكون لهؤلاء الراديكاليين مكان فيها، بخاصة أن وجودهم في السلطة جاء نتيجة المقاطعة الشعبية للانتخابات وحصولهم على نسبة أربعة في المئة من أصوات 55 مليون ناخب إيراني.

المزيد من آراء