Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

المال مقابل الحياة... شهادات لناجين من مجزرة "الدعم السريع"

أحصى الأستاذ الجامعي أثناء رحلته 37 جثة متناثرة في مناطق مختلفة وأوقات متفاوتة على الطريق

قدر عدد المفقودين منذ اجتياح قوات الدعم السريع لمدينة الفاشر بنحو 170 ألف (أ ب)

ملخص

يقول آدم إسحق، "خرجت من الفاشر متخفياً مع مجموعة من الفارين، وفي بداية الطريق نحو طويلة على أطراف المدينة، فوجئنا بوابل من الرصاص يطلق علينا، حيث قتل كثيرون وجرح آخرون، لكن لم يكن في مقدورنا تقديم أي مساعدة للجرحى أو المصابين، تركناهم وواصلنا الركض بأقصى ما نستطيع، كما أنهم ظلوا يطاردوننا من الصباح حتى الساعة الخامسة مساء".

على رغم الأخطار الكبيرة وفي وقت أظهرت صور فضائية حديثة مؤشرات على استمرار عمليات القتل الجماعي داخل مدينة الفاشر ومحيطها، لا يزال كثير من العالقين يسعون إلى الفرار من المدينة، فعلى طول الطريق بين الفاشر وبلدة طويلة الذي اشتهر بـ "طريق الموت" تتنشر عناصر من قوات الدعم السريع على ظهور الجمال والدراجات النارية، يترصدون النازحين وسط الأشجار ويقومون بدوريات تجوب وتمسح الطرق الفرعية والمنعطفات التي يتسلل عبرها الفارون للتخفي.

ومن جملة 260 ألفاً كانوا موجودين في المدينة، فرّ من الفاشر ما لا يقل عن 62 ألف شخص عقب سيطرة قوات الدعم السريع عليها في الـ 26 من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، وبينما تتواصل عمليات النزوح تخفياً لا يزال مصير من هم داخل المدينة مجهولاً بسبب قطع شبكات الاتصال لتغطية عمليات القتل الجماعي المستمرة، وفقاً لمراصد عالمية.

170 ألف مفقود

بحسب المرصد الحقوقي لـ "منظمة شباب دارفور" (مشاد) فقد قدر عدد المفقودين منذ اجتياح قوات الدعم السريع مدينة الفاشر بنحو 170 ألفاً، وأكد بيان للمرصد أن معلومات جُمعت من ناجين وصلوا إلى مدينة طويلة والمناطق المجاورة تقدر عدد الفارين من الفاشر حتى الآن بأكثر من 63 ألف مدني، فقد معظمهم ما بين اثنين إلى ثلاثة من أفراد أسرهم خلال موجات الهجوم الأخيرة التي شنتها الميليشيات على المدنيين العزل.

وطالب المرصد بإيفاد بعثة تحقيق دولية مستقلة لتقصي الحقائق حول المقابر الجماعية والانتهاكات ضد المدنيين وتوفير الحماية الإنسانية الفورية للنازحين واللاجئين، وتأمين ممرات آمنة لإيصال المساعدات ومحاسبة المسؤولين عن الجرائم، وفقاً لأحكام القانون الدولي ومبدأ عدم الإفلات من العقاب.

تفادي المصائد

على رغم أن المسافة بين الفاشر وطويلة 50 كيلومتراً إلا أن الفارين غالباً ما يقطعون ما بين 60 و 70 كيلومتراً لاتخاذهم طرقاً فرعية بغية تفادي شراك "الدعم السريع" على الطريق الرئيس، ووفقاً لتقرير "منظمة أنقذوا الأطفال" فإن مئات الأمهات تمكنوا من الفرار مع أطفالهن الرضع سيراً على الأقدام لمسافة تجاوزت 70 كيلومتراً للوصول إلى محلية طويلة، في رحلة استمرت أربعة أيام وسط الجوع والعطش والمطاردة، وبحسب منظمة "أطباء بلا حدود" فإن قوات الدعم السريع تمنع وصول الفارين من الفاشر إلى مناطق آمنة، فيما تعرض بعضهم للقتل والتعذيب أثناء نزوحهم.

تجارب مرّة

الأستاذ في "جامعة زالنجي" (م -ص) تعرض خلال رحلة خروجه من الفاشر وحتى وصوله إلى بلدة طويلة لسلسلة مرعبة من المواقف والأخطار، ولم ينقذه سوى دفع مال الفدية بعد مقايضة حياته بمبلغ 5 مليارات جنيه (الدولار يعادل 3700 جنيه في السوق الموازية)، طالب محتجزوه بسدادها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وحول بديات رحلة الفرار يقول إن "الفارين من المدينة يتسللون عقب صلاة المغرب ويتجمعون غرب المطار وينتظرون حلول الظلام لبدء التحرك نحو منطقة طويلة تحت جنح الليل، في رحلة وسط الظلام تستغرق ما بين 10 و11 ساعة سيراً على الأقدام، ولما كنت أجهل مداخل ومخارج الطريق فقد قررت أن أتحرك مع المجموعة بعد صلاة المغرب".

مصيدة "شقرات"

تمر الرحلة بما يعرف بـ "حلال شقرات"، وهي مجموعة من القرى المتجاورة الفارغة من السكان بعد أن طردت قوات الدعم السريع جميع سكانها وتحولت إلى منطقة يتخذها الفارون استراحة لبعض الوقت ثم مواصلة السير مرة أخرى، بحسب الأستاذ الجامعي، مضيفاً أنها "كانت مصيدة، ففور خروجنا من هذه المنطقة فوجئنا بعناصر 'الدعم السريع' يفتحون علينا نيراناً كثيفة أدت إلى سقوط قتلى كثر، وتشتتت المجموعة مهرولة في اتجاهات مختلفة"، ومتابعاً أنه "عقب توقفي من الجري الطويل وجدت منفسي وحيداً وقررت الانتظار قليلاً لعل بعض من كانوا معنا ضمن المجموعة التي تحركت من الفاشر يظهرون، ومع الإرهاق والتعب والعطش والجوع تخفيت تحت بعض الشجيرات وغلبني النوم فنمت"، ثم ذكر أنه "عندما استيقظت وقبل أن أتابع السير من جديد، رأيت مجموعة من الرجال على ظهور الجمال على مسافة بعيدة، فأدركت أنهم الجنجويد وعدت سريعاً للاختباء تحت شجيرات صغيرة وبقيت كذلك من الـ 10 صباحاً وحتى المساء وحلول الظلام، ثم واصلت المسير مجدداً حتى صباح اليوم التالي".

مفروش بالجثث

ويستطرد الأكاديمي أنه "في صباح اليوم التالي حملت لي الرياح رائحة غريبة اعتقدت في البدء أنها دليل وجود حياة في المنطقة، وربما تكون هناك قرية بالجوار قد أجد فيها بعض الأكل، فأنا لم أتناول أي طعام أو ماء منذ أن تحركنا من الفاشر في اليوم السابق، وبتتبعي مصدر الرائحة وجدت نفسي أمام كومة من الجثث البشرية بعدد 17 جثة يبدو أن أصحابها قضوا قبل نحو أسبوع بالنظر إلى مستوى تحللها، فعدت أدراجي مصدوماً من حيث أتيت وجلست تحت إحدى الأشجار لفترة، ثم في المساء واصلت السير".

 

وأحصى الأستاذ الجامعي أثناء رحلته 37 جثة متناثرة في مناطق مختلفة وأوقات متفاوتة على الطريق، ولاحظ أن بينهم 11 جثة ممن كانوا معه عند مغادرتهم الفاشر، مستكملاً أنه "في اليوم الثالث شعرت بأن قدرتي على المشي بدأت تتناقص فاستلقيت تحت شجيرة صغيرة، وأمام حدة الجوع والإنهاك بدأت آكل من العشب الأخضر، وأثناء ذلك وعلى نحو مفاجئ وقف أمامي شخص يمتطي جملاً وهو يصيح 'ثابت مكانك'، ثم نزل مشهراً بندقيته ونهب كل أشيائي حتى ملابسي التي كنت أرتديها وتركني فقط بسروالي الداخلي، ثم هددني بأنه في مشوار وسيعود من الطريق نفسه وسيقتلني في حال وجدني هنا عند عودته"، مضيفاً "ذهب الرجل وتركني عارياً تحت الشجيرات، وأنا على هذه الحال ظهر مرة أخرى صبي يافع لا أدري من أين جاء، ثم خاطبني بلطف: 'تبدو على وشك الموت' ومنحني ملابس واصطحبني إلى قرية صغيرة وقدم لي بعض الماء وطبق عصيدة".

المال في مقابل الحياة

وبحسب الأستاذ الجامعي فقد اتضح لاحقاً أنها "أيضاً مصيدة لمقايضة حياتي بالمال، وأخبروني بأن التعليمات التي عندهم هي قتل كل من يجدونه، ثم طالبوني بعدها بدفع 5 مليارات جنيه في مقابل حياتي ونقلي إلى منطقة أم جلباق القريبة من طويلة، وقبل ذلك سألوني عن وليد جنا، وهو أحد قادة القوات المشتركة، فأخبرتهم بأنني لا أعرفه، ثم سألوني هل أنت من قبيلة البرتي ذات أصول أفريقية، قلت نعم، قالوا لي هل ستدفع قلت نعم، ثم وفروا هاتفاً للتواصل مع أهلي لسداد المبلغ، وبعد التأكد من الدفع بالتحويل البنكي نقلوني بدراجة نارية إلى مشارف طويلة، ولم أكن أصدق أنني نجوت فعلاً".

تركنا الجرحى

أما آدم إسحاق فيقول "خرجت من الفاشر متخفياً مع مجموعة من الفارين، وفي بداية الطريق نحو طويلة على أطراف المدينة فوجئنا بوابل من الرصاص يطلق علينا، حيث قتل كثر وجرح آخرون، لكن لم يكن في مقدورنا تقديم أية مساعدة للجرحى أو المصابين، فتركناهم وواصلنا الركض بأقصى ما نستطيع، كما أنهم ظلوا يطاردوننا من الصباح حتى الساعة الخامسة مساء"، مضيفاً "وصلنا طويلة جوعى من دون أكل وعطشى بلا شراب ولا نملك حتى ملابس، وكل النازحين كانوا في حال إعياء كامل، وبعض من نجا من الرصاص سقط لاحقاً ومات من الجوع، فهم أصلاً مصابون بسوء التغذية بسبب اعتمادهم على وجبة العلف الحيواني لأشهر عدة مضت، إذ لم يكن هناك شيء يؤكل غيره".

 

تقول النازحة التومة حسن عبدالله إن "الوضع كان مرعباً وشبح الموت يخيم على أنحاء المدينة، وقررنا في يوم الـ 27 من أكتوبر الماضي عقب دخول قوات الدعم السريع إلى المدينة بيوم واحد، الفرار والتحرك سيراً على الأقدام، واضطررنا للمبيت في العراء في منتصف الطريق"، مضيفة أنه "في اليوم التالي تحركنا مجدداً حتى وصلنا إلى منطقة قارني، ومن وجدناهم هناك قدموا لنا وجبة، لكن في المساء جاء رجال واقتادوا أبنائي، وعلى رغم كل دموعي وتوسلاتي أفرجوا عن الأصغر سناً (زكريا) واحتفظوا بالكبير (محمد)، ولا نعرف حتى الآن مصيره فقد انقطعت أخباره تماماً وهو الابن الذي كنت أعتمد عليه بعد وفاة والده، وأنا كبيرة في السن ومريضة بالكلى وليس هناك من يعينني".

قتلوهم كلهم

أما حليمة نورالله فتحكي والأسى يمزقها والعبرات تخنقها عن مقتل جميع أبنائها، "صفوا كل أبنائي، قتلوهم كلهم وجميع من معنا من الشباب ضمن رحلة الفرار في الطريق إلى طويلة، كما نهبوا كل ما كان معنا ولم يتركوا لنا شئياً"، وتشكو نورالله من أنه عند وصولهم إلى منطقة طويلة لم يجدوا شئياً يأكلونه ولا أغطية للنوم، وتتحسر "أنا امرأة مسنة فقدت الآن جميع أبنائي، لم كل هذا الظلم، هذا حرام، ماذا فعلنا لنستحق كل ذلك".

ووفق الأمم المتحدة فقد فرّ من مدينة الفاشر منذ استولت عليها قوات الدعم السريع أكثر من 65 ألف شخص، بينما لا يزال عشرات الآلاف عالقين داخلها، وخلال الأيام الخمسة الماضية استقبلت بلدة طويلة أكثر من 5 آلاف نازح، وهناك آلاف تقطعت بهم السبل في منطقة قرني (13 كيلومتراً من الفاشر) بعضهم مرضى وجرحى وأطفال انفصلوا عن أسرهم، وعند مدخل بلدة طويلة أنشأت منظمة "أطباء بلا حدود" مركزاً صحياً يقدم خدمات الطوارئ والجراحة لاستقبال المرضى الذين يعاني معظمهم إصابات ناجمة عن إطلاق النار والتعذيب.

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير