ملخص
لا أحد يشكك في المستوى المتقدم للعلاقات الروسية - الصينية، وفي حجم المصالح المشتركة للبلدين، لكن مثلما تبقى علاقة روسيا مع أميركا محورية لضمان الهدف في أوكرانيا وأوروبا ورفع الحصار عن روسيا، تجد الصين في أميركا شريكاً أساساً في ضمان استمرار نهوضها الاقتصادي والمالي.
لا تبدو نتائج القمة الأميركية - الصينية التي انعقدت في كوريا الجنوبية منتصف الأسبوع الماضي سيئة بالنسبة إلى الطرفين اللذين تبادلا طوال الأشهر الماضية تهديدات الحرب التجارية، قبل أن ينتقلا في القمة إلى الحديث عن تفاهمات ويعبران عن تقارب في وجهات النظر يمهد لإنهاء مرحلة التوتر السائد بينهما منذ تولي الرئيس الأميركي دونالد ترمب مهام منصبه.
تلك النتائج تسمح بالاستنتاج أن النظريات المتتالية عن صدام حتمي بين البلدين ليست دقيقة، وتعيد إلى الأذهان الأسس التي بنيت عليها العلاقات الأميركية - الصينية منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي، مما أثار في حينه ذهول وغضب الاتحاد السوفياتي، وهو ما نشهد ملامح له الآن في سلوك معلقين روس على اللقاء بين الرئيسين الأميركي والصيني، حرصوا على تأكيد فشل هذا الاجتماع صراحة أو تلميحاً، حتى قبل أن تتضح نتائجه، على رغم أن الوقائع المتاحة لم تكن على هذا النحو.
ففي قمة كوريا الجنوبية، أعلن الرئيس الصيني شي جينبينغ أنه توصل إلى توافق في شأن حل النزاعات التجارية الرئيسة مع واشنطن، فيما أكد ترمب أن "علاقات البلدين ستكون رائعة".
جينبينغ أوضح أنه توصل "إلى إجماع أساس في شأن معالجة القضايا الرئيسة التي تهمنا وأحرزنا تقدماً مشجعاً". وأنه "على مر الأعوام، أكدت مراراً أن الصين والولايات المتحدة يجب أن تكونا شريكتين وصديقتين، لقد علمنا التاريخ هذا، والواقع يفرض ذلك".
وذهب الزعيم الصيني أبعد من ذلك في "مغازلة" الرئيس الأميركي، عندما توجه إليه قائلاً إن "تطور الصين ونهضتها يتوافقان ولا يتعارضان مع رؤية ’لنجعل أميركا عظيمة مجدداً‘، وينبغي (على البلدين) أن يظلا صديقين وشريكين".
لم يكن ترمب أقل تفاؤلاً. تنبأ في بداية اللقاء أنه "سيكون ناجحاً للغاية"، ثم أعلن التوصل "إلى اتفاق في شأن عدد من القضايا"، مع "صديقي العزيز، رئيس الصين المحترم، شي جينبينغ القائد العظيم لبلد عظيم".
"ستكون لدينا علاقات رائعة وستدوم طويلاً"، قال ترمب الذي سيعلن أثناء وقت لاحق أنه سيزور بكين خلال أبريل (نيسان) 2026، على أن يعقب هذه الزيارة أخرى مماثلة يقوم بها جينبينغ إلى الولايات المتحدة.
بدا من المعطيات المتوافرة أن أبحاث القمة تركزت على العلاقات الثنائية، لكن أوضاع العالم لم تغب عنها. ترمب كشف عن أن الرئيس الصيني وعده بالمساعدة للتوصل إلى "شيء ما" في شأن أوكرانيا، وإن لم يناقش معه مسألة شراء الصين النفط الروسي.
في المقابل، أكد جينبينغ أنه "يمكن للصين والولايات المتحدة العمل معاً لتحقيق أهداف أكبر لمصلحة العالم"، متحدثاً عن محطتين مقبلتين للعمل المشترك و"لتحقيق نتائج إيجابية"، قمة منتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادئ عام 2026 في دورتها المقبلة برئاسة الصين، وستعقد في مدينة تشنتشن الصينية، وقمة مجموعة الـ20 التي ستستضيفها أميركا.
لا مفاجآت كبرى ولا انقلابات في مسار العلاقات الصينية - الروسية على رغم التوتر التجاري الذي أثاره ترمب، وكالعادة في خلاصة لقاءات الرئيسين الأميركي والصيني تظهر دائماً تلك الرغبة بتطبيع، بل وبتعاون، لا يتوافقان مع اللهجة المتوترة حيناً والتحليلات المتتالية خلال الأعوام السابقة عن انتقال الاهتمامات الأميركية من أوروبا والشرق الأوسط إلى مواجهة التنين الصيني الصاعد جنوب شرقي آسيا.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتثبت تطورات الأشهر والأعوام القليلة الماضية أن الاهتمام الأميركي بمصائر الشرق الأوسط، والقارة الأوروبية وأخيراً منطقة الكاريبي وأميركا اللاتينية، لا يزال أولوية أميركية، من دون إغفال سعي الولايات المتحدة لموازنة الصين وتمكين وجودها وتحالفاتها في المحيط الهادئ وشرق آسيا.
سارت العلاقات الأميركية مع الصين الشيوعية منذ انطلاقتها مطلع عام 1972 على حبل مشدود. كانت الولايات المتحدة حتى ذلك الحين تعتمد الصين الوطنية (تايوان وقبلها جزيرة فورموزا المستمرة البرتغالية السابقة) ممثلة شرعية للصين الكبرى منذ أن لجأ إليها تشان كاي تشك وجيشه المهزوم أمام ماو تسي تونغ وقواته عام 1949.
كان مستشار الأمن القومي الأميركي هنري كيسنجر هو الشخص الذي هندس استئناف العلاقات بين البلدين. سافر سراً من باكستان إلى بكين خلال يوليو (تموز) 1971 ليلتقي رئيس الوزراء شو إن لاي، وعلى مدى 17 ساعة من المحادثات وضع الأسس التي ستقوم عليها العلاقات المستقبلية التي ستكرسها زيارة الرئيس ريتشارد نيكسون خلال الـ21 من فبراير (شباط) 1972.
كان تأكيد وحدة أراضي الصين، بما في ذلك تبعية تايوان للصين الموحدة، حجر الأساس في الاتفاقات الأميركية - الصينية، ولم تتراجع أميركا عن هذا الاتفاق وإن كانت تعترض على اجتياح صيني مسلح، لم تقم به الصين يوماً، للجزيرة.
منذ ذلك الوقت تطورت الصين وشهدت تحولات كبرى سيقودها دين شياو بينغ وتلامذته، وبدا وكأن شعار ماو تسي تونغ عن أن "الإمبريالية الأميركية نمر من ورق" دُفن معه، وباتت الصين ذات النظامين الاقتصاديين في نظام سياسي واحد، شريكاً للغرب سيشهد نمواً مطرداً في مختلف المجالات، ويعود إلى المسرح الدولي من باب الحضور التجاري والاقتصادي، بدلاً من غزوه بواسطة كتاب ماو "الأحمر" ونظريته في أن "السلطة تنبع من فوهة البندقية".
لم تكن العلاقات الصينية - الروسية (السوفياتية في حينه) على ما يرام لحظة هبوط كيسنجر في بكين. قيل يومها إن المسؤول الأميركي زود شو إن لاي معلومات عن تحركات عسكرية سوفياتية على الحدود الصينية التي كانت شهدت اشتباكات مسلحة قبل عامين.
تلك كانت إشارة إلى رغبة الولايات المتحدة في توسيع الشرخ بين بكين وموسكو واستغلاله لمصلحتها، وما كانت بكين في حاجة إلى دوافع، فقد استمرت علاقاتها متوترة مع روسيا أو باردة حتى لحظة انهيار الاتحاد السوفياتي، ولم تعد أبداً إلى أعوام الدفء الستاليني، على رغم كل الجهود اللاحقة التي بذلها الرئيس فلاديمير بوتين ورهاناته على إقامة تحالف مع الصين في مواجهة أميركا.
لقد تغيرت الصين منذ شياو بينغ وتغيرت روسيا منذ سقوط النظام الشيوعي. البلدان باتا محكومين بمصالح جيوسياسية وثنائية ورأسمالية، ولم يعد للتقارب الأيديولوجي والتضامن الأممي وجود في قاموسهما.
على رغم ذلك بذل الجانبان جهوداً كثيفة بحثاً عن أرضية مشتركة. مواجهة الآحادية الأميركية كانت دائماً أحد عناوينها. زار بوتين بكين أكثر من 40 مرة، وزار شي جينبينغ موسكو أكثر من 11 مرة. وخلال المرة الأخيرة حرص بوتين على لقاء نظيره الصيني في بكين بعد أسبوعين من اجتماعه مع ترمب في ألاسكا. ضمن ذلك اللقاء حرص بوتين على إبلاغ بينغ أن "علاقاتنا الاستراتيجية وصلت إلى مستوى غير مسبوق"، ورد بينغ ببرودة صينية يسهل تأويلها "علاقاتنا صمدت في وجه التغيرات الدولية"، وكأنه كان يتساءل عما جرى في أنكوراج قبل أسبوعين.
لا أحد يشكك في المستوى المتقدم للعلاقات الروسية - الصينية، وفي حجم المصالح المشتركة للبلدين، لكن مثلما تبقى علاقة روسيا مع أميركا محورية لضمان الهدف في أوكرانيا وأوروبا ورفع الحصار عن روسيا، تجد الصين في أميركا شريكاً أساساً في ضمان استمرار نهوضها الاقتصادي والمالي.
ومع ابتعاد الصين من الانخراط ضمن نزاعات مسلحة، تكتسب موقعاً حاسماً في أولويات السياسة الخارجية الأميركية، وربما تضيء أقوال بينغ لترمب عن تشابه أهدافهما في "جعل أميركا أقوى" و"نهوض الصين" معالم الطريق أمام التطور الفعلي لعلاقتهما اللاحقة، بعيداً من السيناريوهات السوداء عن حتمية الصدام بين القوتين العظميين.