Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

محاولة في التفكير الأخلاقي بعد ربع قرن من الأزمات

حين تدار الحياة بمنطق الغلبة تمحى الحدود بين السياسة والافتراس ويتحول المجتمع إلى ميدان للمنافسة العمياء

داخل مبنى متضرر بعد يوم من الضربات الإسرائيلية على العاصمة صنعاء، 26 سبتمبر 2025 (أ ف ب)

ملخص

بين منطق البقاء ومنطق المعنى، يظل الخيار الأخلاقي في تصوري هو الذي يمنح للحياة قيمتها. فالإنسان، في نهاية المطاف، لا يختبر بما يملك من قدرة على النجاة، بل بما يحتفظ به من إنسانية في وجه النجاة نفسها.

أتصور أن الحروب التي شهدتها شخصياً في عدن لم تكن مجرد وقائع عادية أو عابرة في الذاكرة، بل كانت امتحاناً للإنسان في داخلي قبل أن تكون صراعاً على أرض أو سلطة. يمكنني القول إنني رأيت كيف يمكن للألم أن يعيد تشكيل الوعي، وكيف تترك الحرب في الروح ندوباً لا ترى. لكنها في الحقيقة تغير نظرتك إلى العالم وإلى ذاتك معاً. منذ ذلك الحين، لم أعد أرى في الخراب نهاية الأشياء بل سؤالاً أخلاقياً مفتوحاً كيف يمكن للإنسان أن يظل وفياً لإنسانيته وسط كل هذا العصف؟

من رماد التجربة، تبلورت قناعتي بأن الفكر لا يثمر ما لم يستند إلى ضمير، وأن الكتابة أمر شاق بلا شك، لكنها لا تكون حقيقية إلا إذا حملت مسؤوليتها الأخلاقية تجاه الحياة. لقد جعلتني الحرب في عدن أدرك أن النجاة ليست كافية، وأن القيمة الحقيقية تكمن في ما نختار أن نكونه بعد أن ننجو.

لذلك، أصبحت الأخلاق بالنسبة إليّ ليست موضوعاً للفكر وحسب، بل هي في اعتقادي جوهر الوجود الإنساني نفسه، ومعياراً يقيس معنى أن نكون بشراً في عالم يزداد ابتعاداً من روحه.

إن هذا العالم، بعد نحو ربع قرن من الحروب والإرهاب والأوبئة والكوارث المناخية، يتبدى لي وكأنه يعيش أزمة في قدرته على تذكر ذاته قبل تأملها، فالقيم التي شيدت عليها الإنسانية الحديثة وعودها الكبرى كالحرية والمساواة والتضامن لم تعد مبادئ فاعلة، بل ألفاظاً معلقة في فراغ أخلاقي واسع.

وما كان يعد أساساً للتمدن أصبح اليوم موضوعاً للمساءلة، هل ما زالت هذه القيم ممكنة، أم أن الإنسان انزلق مجدداً إلى منطق القوة بوصفه قانون البقاء الوحيد؟ أين مكمن الخلل بالضبط؟

تبدو الإجابة معقدة، أو هكذا تتراءى لي لأن الأزمات في اعتقادي لم تقتصر على السياسة، بل أصابت فكرة الإنسان في جوهرها، فحين تتكرر المآسي من دون أن توقظ فينا حس العدالة، يتحول الألم إلى عادة، والنجاة إلى غاية بحد ذاتها، وهنا يفقد الإنسان قدرته على التعاطف.

ولم تعد الحرب في تصوري حدثاً استثنائياً، بل نمطاً من التفكير والإدارة، وعند هذه النقطة تحديداً يغدو الحديث عن القيم أقرب إلى الترف النظري ما لم يستعاد المعنى الأخلاقي للحياة المشتركة، أي ذلك الرابط الذي يجعل الإنسان مسؤولاً عن مصير غيره لا فقط عن سلامته الفردية.

في اليمن، هذا البلد المغلوب على أمره، تحديداً في مدينة عدن مسقط رأسي حيث شهدت الحرب مرتين، الأولى عام 1986 وكنت حينها في الصف الثالث الثانوي وكان عمري 18 سنة، والثانية عام 2015 وكان عمري 47 سنة، تبدو هذه الأسئلة ملموسة أكثر من أي مكان آخر. فالحرب هناك، أو بعبارة أدق، كل الحروب هناك لم تكن مواجهات عبثية بين جيوش بقدر ما كانت صراعاً على حق الناس في البقاء. وكنت دائماً ما أسأل نفسي، لماذا علينا أن ندور على نحو تائه في فلك حروب وصراعات لا تريد أن تنتهي؟ هل يختلف ساسة اليمن عن الساسة في دول العالم؟ ألا يدعونا هذا الأمر الصادم والمحبط في آن إلى التوقف ولو قليلاً لنتأمل وحسب؟

منذ حرب عام 1986 وحتى حرب عام 2015، وما بينهما حرب عام 1994، تمزق المجتمع اليمني بين أيديولوجيات متصارعة وصراعات مناطقية، ففقد قدرته على إنتاج سياسة توازن بين السلطة والضمير.

أتصور أن الدولة حين تتحول إلى غنيمة يصبح المواطن وقوداً، ويتراجع كل معنى للانتماء باستثناء ما تفرضه القوة، ويعم الخراب.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

في مثل هذا السياق الشديد الأهمية، يختبر جوهر الإنسان لا كفاعل سياسي بل ككائن أخلاقي يقاوم التفكك، ويقف وجهاً لوجه أمام ضميره الإنساني، مما كان مفقوداً في هذا الجزء الجنوبي المهم في شبه جزيرة العرب. بعبارة أخرى موجزة شديدة الوضوح على رغم ما فيها من وجع، انعدم الاستقرار وباتت القدرة على البناء مستحيلة.

لكن في شبه جزيرة العرب ليس الأمر كله يشبه ما حدث ويحدث في جزئه الجنوبي، ففي الواقع تقدم دول مجلس التعاون الخليجي (السعودية والإمارات والبحرين وقطر والكويت وعمان) نموذجاً آخر عن العلاقة بين الاستقرار والقدرة على البناء. فمهما اختلفت طبيعة أنظمتها ومن يحكم (ملك أو سلطان أو أمير أو رئيس)، فقد أدركت أن حفظ التوازن الداخلي مقدمة لا بد منها لأية تنمية مستدامة.

وليست المسألة في نوع النظام وماهيته، بل في وعيه بوظيفته الأخلاقية تجاه الناس وما تتطلبه حاجاتهم المعيشية في مناحي الحياة شتى، فحين يصبح الاستقرار وسيلة لحماية كرامة المواطن لا أداة لكبحه، يتحول النظام إلى عامل استقرار إنساني قبل أن يكون سياسياً.

وهذا الدرس لم تغب أهميته عن دول آسيوية مثل اليابان والصين وكوريا الجنوبية وسنغافورة وماليزيا التي جعلت من الاستقرار قاعدة للنهوض، وبعد مآسي الحرب العالمية الثانية أعادت هذه الدول بناء ذواتها من فكرة بسيطة للغاية، أن الكارثة ليست نهاية التاريخ بل بدايته الأخلاقية الجديدة.

لاحظوا معي من فضلكم وتأملوا. لم يكن التطور هناك فعلاً اقتصادياً وحسب، بل فعلاً قيمياً أعاد ترتيب العلاقة بين الإنسان والعمل، وبين الدولة والواجب، وبين القوة والمسؤولية، مع الأخذ في الاعتبار التباينات في كل دولة تبعاً لخصوصية كل مجتمع من هذه المجتمعات وثقافاته المختلفة بالضرورة.

وتظهر هذه التجارب أن تقدم الأمم لا يقوم على وفرة الموارد بقدر ما يقوم على انتظام الضمير الجمعي، فحيث تغيب الأخلاق، تنهار المؤسسات مهما بلغت قوتها، وحيث يحضر الوعي بالعدالة يزدهر الإنسان حتى في الفقر.

ليست الأخلاق هنا وعظاً كما أتصور، بل نظام معرفة يحدد كيفية استخدام "السلطة" و"الثروة" و"المعرفة" في آن. إنها الميزان الحقيقي الذي به يقاس المعنى، لا فقط الأداء.

لقد جعلت العولمة الإنسان يظن أنه تجاوز حدود الحاجة، غير أنها أعادته لهشاشته الأولى حين داهمته الأوبئة والأزمات البيئية والاقتصادية، ومع كل اختبار جديد يكتشف الإنسان أنه لا يملك إلا ضعفه المشترك مع الآخرين.

من هنا، تحديداً، تنبع القيمة الأخلاقية لفكرة التضامن، فهي في اعتقادي ليست شعاراً سياسياً يمكن المتاجرة به والتربح منه، بل إنها اعتراف ضمني بأن خلاص الفرد لا ينفصل عن خلاص الجماعة. لكن التضامن من وجهة نظري لا يقوم بلا حرية، والحرية مسؤولية لا تستقيم بلا مساواة في الكرامة الإنسانية.

وحين يختل هذا التوازن يصبح المجتمع أرضاً خصبة للأنانية وللعنف، فالفرد الذي يقصى من العدالة ولا يجد الإنصاف يبحث عن القوة كتعويض وربما كانتقام، والسلطة التي تنسى العدالة لا شك في أنها تزرع بذور سقوطها، وبهذا المعنى فإن الأزمة الأخلاقية في عالم اليوم ليست في تعدد الأيديولوجيات، بل في غياب مركز إنساني ثابت يضبطها.

إن العودة لمنطق "البقاء للأقوى" لا تعني مجرد قسوة في الواقع، بل اختزالاً مكثفاً للإنسان في غريزته الدنيا، فحين تدار الحياة بمنطق الغلبة تمحى الحدود بين السياسة والافتراس، ويتحول المجتمع إلى ميدان للمنافسة العمياء. وهنا يفقد الإنسان ذاته مرتين، مرة حين يهمش وأخرى حين يشارك في تهميش غيره.

ومع ذلك، لا تزال هناك فرص لاستعادة التوازن، شرط أن نعيد التفكير في مفهوم القوة ذاته. فالقوة ليست نقيض الأخلاق، بل قد تكون ذروتها حين تمارس بضبط ومسؤولية. القوة التي تحمي، لا التي تخيف. التي تبني، لا التي تُخضع.

إن جوهر التجربة الإنسانية في التاريخ، كما أرى، هو البحث الدائم عن تلك الصيغة التي تجعل القوة خادمة للمعنى لا بديلة عنه. وعليه، وفق ما هو موضح أعلاه، تتضح وظيفة الفكر الأخلاقي في زمن الأزمات، ليس أن يعظ أو يدين بل أن يذكر الإنسان بقدرته على الفعل المسؤول.

فضلاً عن ذلك، أرى أن التفكير الأخلاقي لا يطلب مثالية مستحيلة، بل يضع معياراً يقي المجتمعات من السقوط في اللامعنى. حين تعي الأمم، بصرف النظر عن ماهية أنظمتها، أن العدالة هي شرط وجودها لا زينتها، تبدأ مرحلة الشفاء الحقيقي لأن الإنسان عندئذ يستعيد إحساسه بإنسانيته، وضميره بالضرورة.

ربما لن ينجو العالم من أزماته القريبة، مما يضعني في خانة المتشائمين، لكن ما يمكن أن ينجو هو "الفكرة الأخلاقية" عن الإنسان، فكل حضارة تنهض حين تكتشف أن قوتها لا تقاس بما تملكه من أدوات، بل بما تملكه من وعي بحدودها.

وبين منطق البقاء ومنطق المعنى، يظل الخيار الأخلاقي في تصوري هو الذي يمنح للحياة قيمتها. فالإنسان، في نهاية المطاف، لا يُختبر بما يملك من قدرة على النجاة، بل بما يحتفظ به من إنسانية في وجه النجاة نفسها.

اقرأ المزيد

المزيد من آراء