ملخص
"صحيح أن النار تهدم ولكنها أيضاً تبلور اشكالاً جديدة، وصحيح أنها تهلك الأرواح وتلتهم المدن، لكنها تخلف وراءها آثاراً يحولها الفنانون إلى ذكرى"، بهذه العبارة يقدم ملتقى دلّول للفنانين (المرفأ- بيروت)، لمعرض "شواهد النار: شهادات من الفن العربي" الذي يستكشف كيف يواجه الفنانون العرب عنف المجازر والحروب، محوِّلين الدَّمار إلى شهادات وروائع.
يضم المعرض أعمالاً معظمها من مقتنيات خاصة بمؤسسة دلول، لوحات ومنحوتات وأعمال تجهيزية، لـ 23 فناناً، بعضهم من مشاهير العرب المحدثين والمعاصرين (لبنان والعراق وسوريا وفلسطين والمغرب)، مما يتيح الوقوف أمام أعمال اكتسبت مع الوقت صفة "الأيقونية"، بعدما وُضعت على منصّات التداول العالمية وعُرضت في المزادات الدولية، بوصفها تجسيداً لفن منبثق من بؤر الصراع والتّوتر في العالم العربي. وهو فن بطبيعته سياسيّ واحتجاجيّ وإشكاليّ، يحمل ندوبه وجروحه، كما يحمل خطاب الهوية في مواجهة الحرب والتدمير وطمس الحقائق والنسيان. وعلى مدى أكثر من نصف قرن من المقاربات الفنية للأحداث الدموية والتحولات الأيديولوجية والشتات والنزوح، اكتسب هذا الفضاء الفني العربي أهميته من قدرته على أن يكون مرآة نرى فيها ذواتنا بحسب تعبير نيتشه.
إنها النار التي أضحت رمزاً لوحشية الزمن الراهن وثقافته وفنونه وشعاراً لمرحلة مأزومة من تاريخ الفن الحديث والمعاصر في العالم العربي، وهي تتبدى في أوجها على نحو دراماتيكي، في لوحة تغريد درغوث، من سلسلة "ألمع من ألف شمس"، والعنوان مستمد من عالِم الفيزياء ج. روبرت أوبنهايمر، التي اقتبسها من كتاب "البهاغافاد غيتا" الهندوسي المقدس، وذلك لدى مشاهدته أول انفجار ذريّ عام 1945. وتمثل اللوحة سحابة عملاقة متوهجة بالنار تشبه انفجاراً نووياً مرعباً لا يمكن احتواؤه، حيث تهيمن الألوان المتقدة بألسنة اللهب على سطح اللوحة (عام 2014) ويمتد لهيبها إلى عيون الناظرين من قوة التأثير النفسي.
أما سيروان باران فيوثّق في "30 ثانية خارج الزمن"، لحظة مروعة تتداخل فيها الشجاعة بالبطولة والمأساة، حين هرع رجال الإطفاء إلى العنبر رقم 12 قبل انفجار مرفأ بيروت (4 أغسطس/ آب 2020)، في مشهد يتسم بطغيان الأحمر الناري وسطوع الضوء وسط التلطيخ الباعث على الشعور بالفوضى والضياع والتبعثر، تخليداً لتضحيتهم في لحظة تستحضر الانفجار كأنه نهاية العالم.
من عواصم الألم
بين الماضي والحاضر مسارٌ يشبه المشي في حقل ألغام بين شظايا أحلام وجماليات نابعة من قوة التعبير عن ذاكرة مخضبة بالدم. هذا المسار يتمحور في المعرض حول الجدارية المنسوجة "مجزرة صبرا وشاتيلا" (2018–2016)، وهي نسخة مطابقة للرسم الضخم الذي أنجزه ضياء العزّاوي بين عامَي 1982 و1983، وجرى تنفيذها على النسيج بدافع الحفاظ على هذه التحفة التي وثّقت حدثاً تاريخيّاً مروّعاً. فقد اقتنى متحف "تايت مودرن" Tate Modern في لندن العمل الأصلي المُنجز على الورق عام 2012. ومع هشاشة الورق بعد ثلاثة عقود وصعوبة عرضه الدائم، قرر الراحل رمزي دلّول، بموافقة الفنان، تحويله إلى جدارية منسوجة في مصنع الأنسجة الملكي في مدريد، في عملية استغرقت عامين (2016–2018) شكّلت خطوة أساسية لصون الذاكرة. العمل الأصلي كان رسماً جدارياً على الورق بأقلام الحبر والرصاص والشمع، ثُبّت على أربع ألواح قماشية، زاخرة بأجساد متداخلة وأطراف مبعثرة وطيور وكراسٍ شاغرة وأحذية عسكرية ورؤوس متدحرجة.
وقد اعتمد العزّاوي أسلوباً تكعيبياً، فصوّر الشخصيات البشرية متفتتة إلى شظايا هندسية تُرى من زوايا متعددة في آن، ما يعكس حضوراً مجرّداً وصادماً. أنجز العزّاوي العمل وهو في لندن، مستلهماً أيضاً مقالة جان جينيه "أربع ساعات في شاتيلا" التي وثّقت المجزرة عن قرب. يتقاطع عمل العزاوي مع تقاليد الفن الجداري الحديث في الغرب، وبخاصة مع "غورنيكا" بيكاسو، سواء في سردية نسخ اللوحة نسيجياً أو في اعتماد التكعيبية والألوان الحيادية. فقد رُسمت بالأبيض والأسود مع لمسات من البني والأحمر القاني، لتجسّد رعب المجزرة التي هزّت ضمير العالم عام 1982.
ويقابل جدارية العزاوي عمل محمود العبيدي "عائلة عملية حرية العراق" (2016) وهو عبارة عن منحوتة برونزية بالحجم الطبيعي، تجمع بين تقنيات النحت التقليدية، ومواد مستوحاة من التاريخ السياسي المعاصر. صُنعت المنحوتة من خليط من البرونز وقطع من المعدات العسكرية الأميركية المُعاد تدويرها، عقب عملية الغزو الأميركي للعراق عام 2003، والمعروفة باسم "عملية حرية العراق". يجسّد العمل أسرة نازحة مثقلة بالجراح، ثلاثة من أفرادها معاقون، في مفارقة بين العاطفة التي تجمعهم وقسوة الحرب. ومن خلال تسمية العمل باسم الحملة العسكرية نفسها، يقلب العبيدي دلالة "الحرية" كاشفاً عن نتائجها الكارثية.
وفي عمل تركيبي آخر، يعيد العبيدي إنتاج صورة جورج بوش مؤطّرة بالأحذية، في استعادة لحادثة الصحافي منتظر الزيدي عام 2008، لتغدو الصورة مرآةً لمشهدية الفوضى التي عصفت بالعراق. ومن خلال مفارقة بصرية حادّة، يضع تمثال الحرية الأميركي متدلياً من السقف في وضعه الطبيعي، في مقابل الزقورة، رمز الحضارة العراقية، مقلوبة رأساً على عقب، فيما الرأي العام الدولي يدير ظهره لهذه الكارثة غير مبالٍ بنتائجها. هكذا يكشف العمل عن "النفاق السياسي" ويحوّل التناقض بين الرمزين إلى سؤال مفتوح على الهوية والذاكرة، كما لو أن المنفى ذاته صار مسرحاً لهذا الجدل المرير.
كذلك يبرز عمل فيصل لعيبي صاحب "الانتفاضة"، وهو عبارة عن لوحة ملحمية تضع النساء في صميم النضال العراقي، بأسلوب في الرسم يدمج بين تأثيرات الجداريات الرافدية والواقعية الاشتراكية، في مجاز بصري يفيض بالحركة والحماسة. وعلى إيقاع تعبيري آخر يجسد عمل محمد القاسمي "عرّاف الأزمنة" حرب الخليج التي انتهت باجتياح العراق عام 1991، بأسلوب إيمائي ودلاليّ عميق، يشير إلى الأشكال الانسانية، وهي تعوم في فراغ عدميّ.
ويطل "إعصار" عبد الرحمن قطناني كتحفة فنية مذهلة بضخامتها، معلقة من السقف ومصنوعة من الأسلاك الشائكة بعلو يبلغ 3 أمتار، ووزن يقارب 200 كلغ، يلتفّ العمل في حركة حلزونية عاصفة، تبدأ ضيقة ثم تتسع صعوداً، معبّراً عن أزمة الوجود الفلسطيني. فالأسلاك الشائكة وصفائح التول المعدنية، إلى جانب أدوات الحياة اليومية في المخيمات، تشكّل أساس أعمال قطناني المنتمية إلى "الواقعية الجديدة" في تعبيرها عن الطفولة والفقر والحرمان. والمفارقة أن الأسلاك التي ارتبطت تقليدياً بالعزل والمنع، تصبح جسراً عابراً للثقافات ودعوة إلى تلاشي الحدود.
أما لوحة طفل غزة (2023) ليوسف عبدلكي، فهي تستحضر قصة "الذئبة المرضعة" في الأسطورة الرومانية "لوبا كابيتولينا"، لكي تقوض الحنان الأمومي، وتستبدله بوحشية آلة الحرب المدمرة التي ترتكب المجازر منذ 7 سبتمبر (أيلول) 2023 وتستهدف قتل أطفال غزة. اعتمد عبدلكي تقنيته المعهودة في الرسم بالفحم على الورق، بما يتيحه من تدرجات قاتمة وحساسية عالية في إبراز العتمة والظلال، لتكثيف الإحساس بالمأساة وإبراز الهشاشة الإنسانية في وجه العنف.
الذاكرة وتداعيات المكان
النار والدخان في أعمال جان بوغوصيان لا يشكّلان قوّتين تدميريّتين، بل يتحوّلان إلى وسيلتين للإبداع، عبر تقنيات الحرق وألوان الدخان التي تمنح العمل إيحاءً درامياً بالكارثة. في سلسلته "دوائر الدخان" يروّض بوغوصيان النار ضمن هندسة دقيقة، ليشكّل الدخان دائرة فوق أرضية أحادية اللون. أما مروان سحمراني فيستكشف موضوع العنف بأسلوب انفعالي حركي يذكّر بفن "الأكشن" في مدرسة نيويورك، وكأنه يحفر في اللحم الممزق وسط طبقات كثيفة من الألوان المبعثرة في سيول ونقاط تشبه أكوام الجثث. ويضيء هادي سي عبر لعبة الأرقام على حادثة 11 سبتمبر في نيويورك، رابطاً بين رقم الطوارئ (911) والمأساة عبر تكوين يُؤكد على الالتباس والغموض، ليضع المُشاهد وجهاً لوجه أمام دور الدين في تبرير الوحشية، وكيفية قدرة الأرقام على صياغة سرديات ترسّخ تصوّراتنا.
ويقدم أيمن بعلبكي مشهدية صادمة في جدارية "بيت بيروت" التي رسمها على قماش مشمّع يستخدم عادة كستائر للشرفات، مشدود بحبال كجسد ممزق ومتقطع الأوصال، في استعادة لذاكرة خطوط التماس خلال الحرب الأهلية اللبنانية. وفي لوحة الشّرق الأوسط (2014) يصور بعلبكي حُطام طائرة تابعة لشركة طيران الشّرق الأوسط (MEA)، من خلال طبقات من الركام اللوني، مستعيداً ذكرى أليمة عن قصف القوّات الإسرائيليّة للمطار خلال حصار بيروت عام 1982، كجزء من تاريخ لبنان المضطرب.
في هذا السياق تحوّل كاتيا طرابلسي قذائف الهاون، وهي من أكثر رموز الحرب عنفاً وارتباطاً بالدمار والقتل، إلى قطعٍ جميلة مزخرفة بالألوان والرموز الحضارية، ضمن سلسلة "هويات أبدية" (2014) تظهر مجموعة من القذائف مرفوعة على منصّات هي صناديق أسلحة من الخشب، لتشير إلى تذكارات صامتة عن الصراع الذي تحول إلى مصدر إلهام لمشروع يهدف إلى تقويض طبيعته التّدميريّة، وإعادة توجيهه نحو الاحتفاء بقدرة الإنسان على الصّمود. وفي مسار فن التدوير، يوظّف سليم القاضي شظايا القذائف التي سقطت على قرية الخيام بعد إذابتها في منحوتات فنية تستحضر معنى المقاومة ومواجهة النسيان.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أما ألفرد طرزي، فيستعيد في عمله المفاهيمي حديقة حيوان بيروت (2025) حكايات من زمن الحرب، ويتمحور حول فكرة عبثية عن تحويل منطقة محاصرة إلى حديقة حيوانات، بأسلوب شعريّ مركّب يعتمد على الأرشيف. يعرض العمل داخل صندوق موسيقي- سينمائي شبيه بـ "صندوق الفرجة"، حيث تتحرك الملصقات على قماش دوّار لتولّد حواراً بين الصورة والذاكرة، وبين التاريخ والخيال. وفي المقابل، يكتب سعيد بعلبكي كلمة "الثورة" بأضواء النيون، في صدى يلتقي مع لوحة عناية حديب، التي تزاوج بين ذهب الأيقونة وأسطورة لبنان ما بعد الحرب كطائر الفينيق، حيث تُخفي متعة العيش ثقل الجراح. أما شوقي فران فيقدّم مشهديات مروّعة لرؤوس الدمى المكدّسة والمقطوعة، في إحالة إنسانية إلى العنف والهشاشة وضياع الطفولة والحقوق.
من ذاكرة القرن العشرين
تنبع أهمية المعرض من كونه يقدّم أعمالاً نادرة لرواد الحداثة العربية توثق تاريخ الصراع العربي- الإسرائيلي في حقبة الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين، ومن أبرزها لوحة سليمان منصور المعروفة باسم "جمل المحامل" 2005، التي تعدّ عملاً أيقونياً موسوماً بعنوان استمدّه الفنان من الشاعر الفلسطيني إميل حبيبي. وقد اختير "الجمل" رمزاً للصبر والتحمّل، في إحالة إلى المنفى داخل الوطن الفلسطيني. دخلت اللوحة ذاكرة الفن الفلسطيني عبر المتاحف وجامعي الفن في لندن، فرسم منها منصور ثلاث نسخ تعود أولها إلى عام 1973. ويقدم المعرض النسخة الثالثة التي اقتناها رمزي دلول من مزاد "كريستيز" عام 2015، وهي الأكثر إشراقاً في ألوانها وتحمل رموزاً للديانات الثلاث. يُظهر العمل حمّالاً مسنّاً مُرهقاً، مثقلاً بالحنين والفقد، وهو يحمل القدس على ظهره وسط فراغ لا متناهٍ، وهو يمثل نموذجاً لكفاح الشعب الفلسطيني ونضالاته وتراثه المجيد.
يمثل ممدوح قشلان في عمله "مجزرة داعل" (1973)، مأساة قصف القوات الإسرائيلية للقرية السورية في 8 يناير (كانون الثاني) 1973، التي أودت بحياة سبعين مدنياً معظمهم أطفال. فيما تعود بنا لوحة نذير نبعة إلى هجوم بحر البقر (8 أبريل/ نيسان 1970) الذي استهدف مدرسة في محافظة الشرقية بمصر، مخلفاً ضحايا كثراً. أنجز نبعة هذه الأعمال ضمن سلسلة بدأت مع حرب الأيام الستة العربية- الإسرائيلية عام 1967، ورداً على العدوان الإسرائيلي وفظائع الحرب، مجسّداً الإحباط والدمار، ومستلهماً رمز المُناضل كمنارة للأمل وسط المأساة. وثمة لوحة نادرة لمحمود حمّاد، المعروف بأسلوبه في التجريد الهندسي والحروفي، تعيدنا إلى بداياته التشخيصية في الخمسينيات وتحمل عنوان "قايين وهابيل"، (1958) كاستعارة رمزية للصراع الإنساني والعنف وسفك الدم.
يبدو أن ذاكرتنا على مدى عقود هي ذاكرة حروب ونار ودخان، يوقظها معرض "شواهد النار"، مؤكداً قدرة الفن العربي على تحويل الدمار والمعاناة إلى شهادات بصرية، ذات أبعاد إنسانية وسياسية، قادرة على مقاومة النسيان وتحويل الكارثة إلى مادة للتفكير والجمال.