Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الفاشر... وبات عرشها على الدم

ما لم تهدمه قرون الزمان حطمته الحرب في يوم واحد وتعرض قصر السلطان دينار ومتحفه للقصف أثناء المعارك

في قلب الفاشر كان قصر السلطان علي دينار راوياً لمجد ضارب في جذور التاريخ (مواقع التوصل) 

ملخص

الفاشر التي احتضنت التاريخ والذاكرة وجدت نفسها اليوم في قلب حرب طاحنة حوَّلتها إلى ركام، وتلاشى وهج التاريخ أمام قسوة الحرب. كانت تحتضن الأسواق والقصور، وغدت مأوى لعشرات الآلاف من النازحين الفارين من أتون الصراع في ولايات دارفور الأخرى، ثم مسرحاً للصراع.

في الفاشر لم تعد السماء كما كانت ولا الأرض تعرف حتى سكونها المتذبذب. رائحة الرماد تملأ الأزقة وقعقعة السلاح تطغى على كل صوت. هناك في المدينة التي كانت يوماً عاصمة لسلطنة مجيدة باتت جدرانها تحكي قصص الفقد، وتعيد تلاوة أسماء غابت تحت الركام. الفاشر التي كانت ملتقى القوافل وعاصمة دارفور الزاهرة أضحت اليوم رمزاً لمأساة إنسانية تتكرر فصولها، فالمجزرة الحاصلة ليست حدثاً عابراً في سجل الحروب، بل علامة دامغة على انهيار إنساني شامل.

تقع الفاشر، عاصمة ولاية شمال دارفور، على بعد نحو 800 كيلومتر غرب الخرطوم، وتشكل حلقة وصل بين شمال السودان وغربه، وبوابة عبور نحو تشاد وليبيا. أكسبها موقعها الجغرافي أهمية استراتيجية جعلتها محوراً للتنافس العسكري والسياسي عبر العصور. عرفت الفاشر كذلك بأسواقها الكبيرة مثل سوق المواشي وسوق "أم دفسو"، وآبار "حجر قدو" التي التصقت بها المأثورات الشعبية حتى غدت رمزاً للانتماء والعودة.

المدينة التي احتضنت التاريخ والذاكرة، وجدت نفسها اليوم في قلب حرب طاحنة حولتها إلى ركام، وتلاشى وهج التاريخ أمام قسوة المعارك. كانت تحتضن الأسواق والقصور، غدت مأوى لعشرات الآلاف من النازحين الفارين من أتون الصراع في ولايات دارفور الأخرى، ثم تحولت إلى مسرح للصراع. فمع سيطرة قوات "الدعم السريع" على الطرق المؤدية إليها، انقطعت خطوط الإمداد بالكامل، وتعطلت المرافق الصحية، وانهارت سلاسل الغذاء والدواء.

 

وتشير تقارير الأمم المتحدة إلى أن أكثر من 6 آلاف طفل يواجهون خطر الموت جوعاً، بينما تصاعدت الأنباء عن مجازر جماعية أودت بحياة المئات من المدنيين في أحياء المدينة ومخيمات النازحين. ومن أبرز هذه المخيمات نيفاشا وزمزم، اللذان يضمان مئات الآلاف من النازحين الذين فروا من الموت إلى مدينة لم تعد قادرة على احتضانهم. وتشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن أكثر من نصف مليون شخص كانوا يعيشون في تلك المخيمات قبل اندلاع المعارك الأخيرة.

ازدادت أهمية الفاشر الدولية عام 2008 عندما اختارتها البعثة المشتركة بين الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي (يوناميد) مقراً رئيساً لها، لما تمثله من موقع حيوي في حفظ الأمن والاستقرار الإقليمي. إلا أن الحرب الأخيرة نسفت ما تبقى من هذا الدور، فقطعت الإمدادات الطبية والغذائية، وتحولت المستشفيات إلى ساحات انتظار للموت، لا سيما بين الأطفال الذين يعانون سوء التغذية الحاد.

مجلس السلطان

كما تتعدد وجوه دارفور بين السهول والجبال والوديان، تعددت الروايات حول معنى "الفاشر" ذاته، حتى غدت كلمة يتنازعها المجد والخيال. تذهب الرواية الأقرب إلى الصواب إلى أن الفاشر تعني مجلس السلطان، وهو تفسير ينسجم مع جذورها التاريخية حين كانت مقراً لحكم ملوك وسلاطين دارفور. وقد ورد هذا المعنى في التراث الغنائي السوداني، كما في الأغنية الشعبية القديمة التي تقول "الفاشر الكبير طلعوا الصايح"، أي مجلس السلطان الكبير، في إشارة إلى مكان اجتماع الحاكم وحاشيته. ومن هذا المنطلق، عرفت المدينة بـ"فاشر السلطان" و"الفاشر زكريا"، أي مجلس السلطان زكريا، تأكيداً لمكانتها كمركز للحكم والقرار.

غير أن للتاريخ الشعبي روايات أخرى، إحداها تقول إن "الفاشر" هو اسم لوادٍ فسيح كان يعرف بالفاشر بمعنى "الفاخر"، وهو الوادي الذي قامت على ضفتيه المدينة، فتشبثت باسمه حتى غدت امتداده الحضري والإنساني. وهناك رواية ثالثة تسبغ على الاسم طابعاً أسطورياً خالصاً، إذ تنسب التسمية إلى ثور عجيب يدعى الفاشر، كان يرد الوادي وحده كل يوم ليشرب الماء، حتى غاب ذات مرة، فبحث الناس عنه ووجدوه باركاً في الموقع الذي ستنشأ فيه المدينة لاحقاً، فسموا المكان باسمه تيمناً به. بينما تذهب رواية أخرى إلى أن هذا الثور لم يكن عادياً، بل كان يحرس الأرض ويمنع الدخلاء من عبورها.

 

أما من حيث النشأة التاريخية، فقد ولدت الفاشر في أواخر القرن الـ18، حين نقل السلطان عبدالرحمن الرشيد بلاطه المتنقل إلى منطقة رهد تندلتي، فاتخذها مقراً دائماً لحكمه، ليكتب ميلاد المدينة التي أصبحت قلب سلطنة دارفور النابض ومقر سلاطينها اللاحقين. ومع الزمن، أطلق عليها لقب "الفاشر أبو زكريا"، تخليداً لذكرى الأمير زكريا والد السلطان علي دينار، الذي كان له فضل كبير في تطويرها وازدهارها. وهكذا، يظل اسم الفاشر أكثر من مجرد دلالة جغرافية، بل تاريخ يروي نفسه بصيغ متعددة، مرة في لغة السلاطين، ومرة في وجدان الأسطورة، وثالثة في وجعها الجديد المضمخ برائحة المجازر.

علاقات معقدة

في قلب إقليم دارفور، قامت مملكة الفور، إحدى الممالك الثلاث التي كونت البنية الحضارية والسياسية للسودان القديم إلى جانب مملكة الفونج في سنار، ومملكة تقلي في جبال النوبة. كانت هذه الممالك مثل أضلاع مثلث حضاري متماسك صاغ هوية السودان قبل أن تمتد يد محمد علي باشا في القرن الـ19 لتضمها إلى مشروعه الإمبراطوري نحو منابع النيل. غير أن دارفور، التي اعتادت أن تحكم نفسها من جبال مرة، لم تستسغ طويلاً ذلك النفوذ، فعادت لتصوغ مصيرها بنفسها.

حكم سلاطين الفور الفاشر زهاء خمسة قرون، بدءاً من السلطان سليمان سولونق وحتى السلطان علي دينار. ومنذ ذلك العهد، غدت الفاشر محطة رئيسة على درب الأربعين، الذي ربط السودان بمصر، فكانت قوافل العاج والريش وخشب الأبنوس تشق طريقها شمالاً، بينما تعود محملة بالحرير والأقمشة والورق.

ومع غزو محمد علي للسودان عام 1821، ثم التمدد التركي والمهدية لاحقاً، توالت على الفاشر موجات النفوذ الأجنبي حتى استعاد السلطان علي دينار زمامها عام 1909، مجدداً روح السيادة المحلية. نسج السلطان علاقات معقدة مع القوى الاستعمارية، فهادن فرنسا حيناً، وناوأ بريطانيا حيناً آخر، محافظاً على كرامة سلطانه واستقلال قراره. وعندما اندلعت الحرب العالمية الأولى، أعلن ولاءه للخلافة العثمانية ورفض دفع الجزية، فكان ذلك إيذاناً بنهاية عهده، إذ شنت بريطانيا حملتها العسكرية على دارفور عام 1916، لتنتهي المعركة بمقتله في "برنجية" قرب الفاشر، ويسقط بمقتله آخر الحصون المستقلة في غرب أفريقيا، لكن سقوط السلطنة لم ينه روح الفاشر، فقد تحولت إلى مركز مبكر للحركة الوطنية، ومن رحمها خرجت شرارات الوعي السياسي والمطالب الاجتماعية. ومع بدايات القرن الـ21، عادت المدينة لتكون مسرحاً جديداً للحركات المسلحة، حين انطلقت منها الحركات التي نادت بإنهاء التهميش وإعادة الاعتبار لدارفور.

محو الذاكرة

في قلب الفاشر، كان قصر السلطان علي دينار راوياً لمجد ضارب في جذور التاريخ، وأصبح شاهداً على جرح مفتوح في ذاكرة السودان الحديث. شيد القصر عام 1912 بإشراف مهندس تركي قدم من بغداد، وبمشاركة مهندسين مصريين ونجارين يونانيين. بنيت جدرانه من الطوب الحراري وسقفت أخشابه من أشجار السافانا الأفريقية، فغدا تحفة معمارية تجمع بين صرامة القلاع السلطانية ودفء العمارة السودانية الأصيلة.

في عهد السلطان علي دينار، بلغ القصر ذروة تألقه، إذ أصبح مركزاً للحكم والإدارة وملتقى للبعثات والوفود القادمة من الحجاز وليبيا وتشاد. كان بمثابة "قلب دارفور"، حيث تدار فيه شؤون السلطنة وترسم سياستها الداخلية والخارجية. ومع مرور الزمن، تحول القصر إلى متحف وطني يضم مقتنيات السلطان، من سيوفه ومراسلاته إلى أدواته الملكية، ليغدو ذاكرة حية تروي للأجيال قصة دارفور في مجدها وابتلائها. وقد أدرجته "اليونيسكو" عام 2023 ضمن قائمتها للتراث الإنساني، اعترافاً بدوره الثقافي والتاريخي، واعتباره رمزاً لوحدة المجتمع الدارفوري وحضارته الممتدة عبر القرون.

 

لكن ما لم تهدمه قرون الزمان، حطمته الحرب في يوم واحد، ففي الـ15 من يناير (كانون الثاني) الماضي، تعرض القصر ومتحفه للقصف أثناء المعارك الدائرة في الفاشر، واتهمت قوات "الدعم السريع" بالمسؤولية عن تدميره، في واحدة من أكثر الحوادث إيلاماً في الذاكرة الثقافية السودانية. لم يكن القصف مجرد عمل عسكري، بل جريمة ضد التاريخ، وضد روح دارفور ذاتها. فالقصر لم يكن جدراناً تهدم، بل رمزاً لهوية جماعية حاولت الحرب طمسها، ومنارة للتاريخ حاول الرصاص إسكاتها.

يرى مهتمون أن استهداف هذا المعلم لم يكن عرضياً، بل جزءاً من مسار أوسع لمحو الذاكرة الوطنية وتفكيك رموز الوحدة الثقافية. فالقصر، الذي مثل لقرن من الزمان مركزاً للسيادة والفخر، تحول رمزياً إلى ضحية جديدة في حرب لا تكتفي بإزهاق الأرواح، بل تمتد لاغتيال المعنى نفسه.

فتيل إثني

مدينة الفاشر تقف اليوم على مفترق ديموغرافي وسياسي بالغ التعقيد، تسكنها مجموعات قبلية وإثنية متنوعة، وإن كانت الغلبة فيها للمكونات التي نشأت منها فصائل مسلحة في الإقليم، مثل ‎الفور ‎والزغاوة و‎المساليت. يقيم كثير من أبناء هذه المجموعات في معسكرات نازحين داخل المدينة. أما القبائل ذات الأصول العربية، فوجودها داخل الفاشر أقل نسبياً، حيث يتركز غالبية أفرادها في ولاية جنوب دارفور، ومنها بدأت سيطرة قوات "الدعم السريع".

شمال دارفور، تحديداً، تبدو مرآة لإقليم قائم على مفصل قبلي وسياسي، هنا تتلاقى قبائل الفور، ذات الامتداد المحلي، مع الزغاوة الممتدة نحو تشاد، إلى جانب العرب مثل ‎الرزيقات و‎الماهرية، التي ينتمي إليها زعيم "الدعم السريع" محمد حمدان دقلو "حميدتي". وفي الغرب يستقر المساليت والتاما والزغاوة، وفي الجنوب تنتشر التعايشة والبني هلبة والسلامات. هذا النسيج القبلي المعقد كان دوماً مصدر تنوع وثراء، لكنه أيضاً كان فتيلاً جاهزاً للاشتعال عند تبدل موازين القوة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لعبت الفاشر، بداية من اندلاع حرب دارفور عام 2003، دوراً محورياً في الصراع، فقد استخدمت كمنطلق لانتشار الفصائل المسلحة، وكمسرح لتنافس القبائل على الموارد والأمن والحضور السياسي. وعندما انفجرت الحرب بين الجيش و"الدعم السريع" في أبريل (نيسان) عام 2023، تحولت الفاشر من عاصمة إقليمية إلى بؤرة في معركة بقاء شرسة. سبق أن وقعت اتفاقية بأن تتولى قوة مشتركة، تضم عدة فصائل، حماية المدنيين في المدينة، مع وجود منفصل لكل من الجيش و"الدعم السريع"، تفادياً للاحتكاك المباشر، لكن بعد إعلان ‎حركة تحرير السودان" (قيادة مني أركو مناوي) و"حركة العدل والمساواة" (قيادة جبريل إبراهيم) دعمهما للجيش، وانسحاب فصائل أخرى من القوة المشتركة، فقد هذا التوازن، مما أضعف فاعلية حماية المدنيين.

هذا التحول من القتال بين فصيلين إلى حرب ذات طابع قبلي وإثني يتلاقى مع استراتيجية محكمة من "الدعم السريع" لترسيخ السيطرة، وتغييب مكونات عدة من المشهد السياسي في الفاشر، يعيد استحضار فصول من العنف الماضية، لكن في ظروف أكثر دقة ودموية.

ومنذ خمسة قرون، كانت الفاشر مركز الحكم ومصدر الشرعية، واليوم، بعد قرن على سقوط السلطان علي دينار، عادت المعركة إلى النقطة ذاتها، حيث يتقاطع التاريخ بالدم، ويعيد الزمن صياغة الفرضية نفسها "من يملك الفاشر يملك دارفور، ومن يملك دارفور يمسك بخيط متين السودان كله"، كأن الفاشر ما زالت تنصت إلى وقع خيول السلاطين، وقد اختلطت اليوم بخُطى الفارين من موت لا يرحم.

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير