ملخص
تحركت مصر سريعاً عقب سقوط الفاشر، إذ بحث وزير الخارجية بدر عبدالعاطي هاتفياً مع مستشار الرئيس الأميركي للشؤون الأفريقية مسعد بولس ومستشار الأمن القومي البريطاني جوناثان باول الأوضاع في السودان، وأكد أهمية التوصل إلى وقف فوري ودائم لإطلاق النار داخل السودان، وضرورة الحفاظ على وحدة البلد وسلامة أراضيه ومؤسساته الوطنية.
وكرس استيلاء "الدعم السريع" على الفاشر التقسيم الجغرافي للنفوذ بين الطرفين المتحاربين، إذ يبقى الجيش مسيطراً على الشمال والشرق، في مقابل استيلاء قوات "حميدتي" على الغرب المتمثل في ولايات إقليم دارفور الخمس، مما جدد مخاوف التقسيم لبلد قسم سابقاً قبل أقل من عقدين.
تنظر مصر بعين القلق إلى سقوط مدينة الفاشر السودانية بيد قوات "الدعم السريع" بعد 500 يوم من الحصار، ليصبح إقليم دارفور بالكامل في حوزة القوات المناوئة للجيش السوداني، التي توسع مناطق نفوذها غرب البلاد، ولا يفصله سوى الولاية الشمالية عن حدود مصر التي وصفت "الدعم السريع" سابقاً بـ"الميليشيا"، ولا تخفي دعمها السياسي للجيش السوداني باعتباره إحدى مؤسسات الدولة.
سيطرة قوات محمد حمدان دقلو "حميدتي" على الفاشر جاءت بعد خمسة أيام من تعهده باستهداف أي مطار تنطلق منه طائرة أو مسيرة تهاجم المدنيين في مناطق سيطرته داخل دارفور وكردفان، مما فسر على أنه تهديد لمصر التي اتهمها "حميدتي" سابقاً باستهداف قواته عبر "طيران مجهول". كذلك جاء التطور الميداني الأبرز منذ سيطرة الجيش على الخرطوم، بعد يومين فقط من اجتماع في واشنطن للرباعية الدولية في شأن السودان، التي تضم مصر والإمارات والسعودية والولايات المتحدة، لبحث التوصل إلى هدنة وإيصال المساعدات الإنسانية. لكن الأمور انقلبت من محاولة التهدئة إلى اشتعال الصراع، بعدما اقتحم "الدعم السريع" مقر الفرقة السادسة مشاة للجيش السوداني داخل مدينة الفاشر الاستراتيجية شمال دارفور، فجر الأحد الماضي، لتكون نقطة تحول رئيسة في مسار الصراع الممتد منذ أبريل (نيسان) 2023.
تحرك مصر
تحركت مصر سريعاً عقب سقوط الفاشر، إذ بحث وزير الخارجية بدر عبدالعاطي هاتفياً مع مستشار الرئيس الأميركي للشؤون الأفريقية مسعد بولس ومستشار الأمن القومي البريطاني جوناثان باول الأوضاع في السودان، وأكد أهمية التوصل إلى وقف فوري ودائم لإطلاق النار في السودان، وضرورة الحفاظ على وحدة البلد وسلامة أراضيه ومؤسساته الوطنية.
وكرس استيلاء "الدعم السريع" على الفاشر التقسيم الجغرافي للنفوذ بين الطرفين المتحاربين، إذ يبقى الجيش مسيطراً على الشمال والشرق، في مقابل استيلاء قوات "حميدتي" على الغرب المتمثل في ولايات إقليم دارفور الخمس، مما جدد مخاوف التقسيم لبلد قسم سابقاً قبل أقل من عقدين.
وإزاء تلك المخاوف، أكدت مصر ضمن بيان لوزارة خارجيتها رفضها القاطع أية محاولات لتقسيم السودان أو الإخلال بوحدته وسلامة أراضيه، وأشارت إلى مواصلتها تقديم كل الدعم للسودان "لتخطي محنته الحالية".
دعم الشعب السوداني
ولم تمر 72 ساعة على سقوط الفاشر حتى كان وزير الخارجية السوداني محيي الدين سالم في القاهرة لإجراء مشاورات مع نظيره المصري، جدد فيها عبدالعاطي دعم مصر "للشعب السوداني"، والعمل على وقف إطلاق النار وإقرار هدنة إنسانية.
وشدد على تمسك مصر بوحدة السودان وسيادته وسلامة أراضيه ومؤسساته الوطنية، مؤكداً أن أمن السودان واستقراره يعدان جزءاً لا يتجزأ من أمن واستقرار المنطقة، وفق بيان للخارجية المصرية.
وبعد يوم من استقباله نظيره السوداني، عاود وزير الخارجية المصري الاتصال بمستشار ترمب للشؤون الأفريقية لتأكيد رفض مصر ما وصفه بـ"مخططات تقسيم السودان"، والدعوة إلى الالتزام بوقف النار وبخاصة في الفاشر.
الباحث في الشأن الأفريقي محمد عبدالكريم يرى أن التحرك المصري عقب أحداث الفاشر لم يتأخر، مشيراً إلى أن هناك تنسيقاً متصاعداً بين مصر والسودان ممثلاً في وزيري خارجية البلدين، بهدف إيجاد جهود مشتركة لتهدئة الأوضاع في مدينة الفاشر التي تشهد تصعيداً عسكرياً خطراً.
تهديد الأمن المصري
وأوضح عبدالكريم أن "مصر تتحرك بسرعة عقب ما فعلته قوات ’حميدتي‘ داخل الفاشر، نظراً إلى اعتبار ما يجري هناك تهديداً مباشراً للأمن القومي المصري، خصوصاً بعدما لعبت القاهرة دوراً محورياً في جهود التهدئة بالسودان خلال الأشهر الماضية".
وخلال سبتمبر (أيلول) الماضي، شاركت مصر ضمن بيان مشترك مع السعودية والإمارات والولايات المتحدة يضع خريطة طريق لحل الأزمة السودانية، تضمن إقرار هدنة إنسانية لمدة ثلاثة أشهر بصفة مبدئية، تقود إلى وقف دائم للقتال، ثم عملية سياسية انتقالية جامعة خلال تسعة أشهر تحقق تطلعات السودانيين في حكومة مدنية.
وأكد الباحث أن "ما يحدث في الفاشر يمثل تهديداً لمصر يفوق ما جرى في ليبيا عام 2019 من عمليات إرهابية"، مشيراً إلى أن "الوضع في الفاشر أخطر وأعمق لأنه يشكل تهديداً وجودياً يتجاوز البعد الأمني إلى تهديد استقرار الإقليم بأكمله"، باعتباره يحمل خطر تقسيم الجار الجنوبي لمصر.
سياسات داعمي "حميدتي"
ودعا عبدالكريم إلى وضع خطة واضحة لمستقبل السودان بعد التحركات الأميركية الأخيرة الهادفة للتهدئة، مشيراً إلى أن سقوط الفاشر يأتي نتيجة "سياسات عدوانية" من إحدى الدول العربية تجاه مصر، إذ تمد قوات "حميدتي" بالأسلحة عبر مسارات تمتد من تشاد وليبيا وجنوب السودان، موضحاً أنه رُصدت عمليات إمداد بأسلحة متطورة منذ مارس (آذار) الماضي. ورأى أن تلك السياسات "لا تراعي أية اعتبارات للأمن المصري، بل تسعى لتحقيق مكاسب في السودان حتى على حساب استقراره".
كذلك، قال السفير المصري السابق لدى الخرطوم السفير محمد الشاذلي إنه "يجب على مصر أن تنصح الدولة العربية الداعمة لقوات ’حميدتي‘ بالكف عن تلك الممارسات التي تهدد أمن واستقرار المنطقة". وأضاف الشاذلي أن "الأزمة السودانية مرشحة للاستمرار"، مؤكداً أنه "لا أمل في تسوية أو استقرار في السودان ما دام الشعب راضياً بهذا الاقتتال بين الأشقاء". وأوضح الشاذلي أن "السودان انفصل عن مصر عام 1956، ومنذ ذلك التاريخ لم يعرف السودان الاستقرار أو التوقف عن الاقتتال الداخلي".
رفض تدخل مصر عسكرياً
من جهته، أشار مساعد وزير الخارجية المصري السابق لشؤون السودان وجنوب السودان السفير حسام عيسى، إلى أن "جهود الرباعية الدولية والدعوة إلى إنهاء الاقتتال كان محاولة لتجنب الكارثة الإنسانية التي وقعت في الفاشر"، موضحاً أن "المدينة صمدت لأكثر من عام تحت حصار شديد من قوات ’الدعم السريع‘، التي منعت دخول المساعدات الإنسانية إلا عبر الإسقاط الجوي، حتى تعرضت المدينة في النهاية للدمار الكامل".
وقال عيسى إن "ما حدث في الفاشر يؤكد صحة وجهة نظر مصر منذ البداية، وهي أن ممارسات الميليشيات لا توحد الدول بل تدمرها"، مشدداً على أن "القوات المسلحة القومية هي العمود الفقري للحفاظ على وحدة واستقرار أية دولة، وهذا لم يتحقق في السودان بعد تفشي ظاهرة الميليشيات".
ورفض عيسى أية دعوة لتدخل مصر عسكرياً في السودان لدعم القوات المسلحة، مؤكداً أن "ذلك ليس في مصلحة مصر أو السودان، ولن يحظى بترحيب سوداني داخلي".
الحكومة الموازية
ووصف عيسى ما يسمى "الحكومة الموازية" بأنه "مسمار في نعش أية دولة موحدة"، معتبراً أن "تعدد مراكز القوى والسلطة يؤدي إلى تفكك الدولة وانهيار مؤسساتها".
وخلال يوليو (تموز) الماضي، أعلن ائتلاف سوداني بقيادة "الدعم السريع"، تشكيل مجلس رئاسي للبلاد بقيادة "حميدتي" وحكومة موازية برئاسة محمد حسن التعايشي، خلال مؤتمر صحافي عقد في نيالا كبرى مدن إقليم دارفور، وهي الخطوة التي لاقت تنديداً دولياً واسعاً.
لكن سيطرة فريق "الدعم السريع" وحلفائه على الفاشر بدا كلحظة مفصلية في الحرب قد تعزز حظوظ الحكومة غير المعترف بها، ودفعت إلى طرح التساؤل في شأن مدى إمكانية مراجعة مصر علاقاتها مع "حميدتي" كعنصر قد يكون له دور في مستقبل السودان.
علاقة مصر بـ"حميدتي"
ومنذ ظهوره على سطح الأحداث في السودان بعد الإطاحة بنظام الرئيس السابق عمر البشير خلال أبريل (نيسان) 2019، حافظ "حميدتي" الذي كان يشغل منصب نائب رئيس المجلس السيادي على علاقاته مع القاهرة، إذ استقبله الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي بعد ثلاثة أشهر من سقوط البشير، وخلال مارس (آذار) 2020. والتقى السيسي و"حميدتي" في الخرطوم خلال مارس (آذار) 2021.
لكن علاقة "حميدتي" بالقاهرة اتخذت منحى عدائياً خلال الأيام الأولى للقتال بين الجيش و"الدعم السريع"، إثر احتجاز قوات مصرية في قاعدة مروي العسكرية، إذ زعم قائد قوات "الدعم" أن القاهرة تدعم الجيش بقيادة عبدالفتاح البرهان، بينما ردت مصر بالتأكيد أن تلك القوات كانت مشاركة في تدريب مشترك، وأُفرج عن القوات لاحقاً "بعد وساطة إماراتية".
وتوالت بعد ذلك اتهامات "حميدتي" لمصر بتقديم الدعم إلى الجيش السوداني، على رغم تأكيد القاهرة وقوفها على مسافة واحدة من الأطراف السودانية. وكان الانتقاد الأبرز من جانب "حميدتي" خلال أكتوبر (تشرين الأول) 2024 حين اتهم الطيران المصري بضرب قواته، وردت الخارجية المصرية بالنفي ووصفت "الدعم السريع" بـ"الميليشيا" رسمياً للمرة الأولى، داعية المجتمع الدولي للتحقق من تلك التهم.
وتأرجحت مواقف "حميدتي" بعد ذلك بين دفع قواته للسيطرة على المثلث الحدودي بين مصر وليبيا والسودان، ثم إعلانه خلال يونيو (تموز) الماضي أنه "راجع حساباته" ويسعى إلى حل خلافاته مع مصر عبر الحوار، لكنه عاد ليهدد بضرب أي مطار تنطلق منه طائرات تستهدف قواته، مما فُهم أنه تحذير لمصر وفق مراقبين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هل تراجع مصر حساباتها؟
لكن هل يمكن أن تغير أحداث الفاشر نظرة مصر إلى "الدعم السريع" وقائدها؟ السفير حسام عيسى الذي عمل ضمن الملف السوداني في وزارة الخارجية المصرية منذ عام 1993 يستبعد ذلك تماماً، مؤكداً أن "موقف مصر من محمد حمدان دقلو واضح، وهو عدم التعاون إلا مع الدولة ومؤسساتها الرسمية، وليس مع أية ميليشيات أو كيان مواز"، مشدداً على أن القاهرة تدعم مبدأ حصر السلاح في يد الدولة فحسب، لما يسببه انتشار السلاح خارجها من فوضى وانهيار أمني.
كذلك، قال السفير المصري السابق في الخرطوم السفير محمد الشاذلي إن "البراغماتية السياسية لها حدود، ولا يمكن أن تعني أن تضع مصر يدها في يد حميدتي أو تعتبره طرفاً مكافئاً للجيش"، مرجعاً ذلك إلى أنه يعد "زعيم عصابة" وليس قائداً سياسياً، "إذ ارتكب عدداً من الجرائم في دارفور قبل الفاشر ومنها ما حدث في عهد النظام السابق"، مؤكداً أن "الرئيس السوداني السابق عمر البشير ارتكب خطأ جسيماً عندما عين حميدتي في رتبة فريق أول على رغم كونه غير متعلم ومتهماً بارتكاب جرائم حرب"، معتبراً أن "هذا القرار كان أحد الأسباب التي أدت إلى تفاقم الأزمة الحالية في السودان".
كذلك، أكد الباحث في الشأن الأفريقي محمد عبدالكريم أن "مصر لن تغفر لحميدتي تهديده المبطن بضرب أراضيها"، معتبراً أن "هذا التصرف غير مقبول من أي طرف في المنطقة، وسيظل نقطة فاصلة في تعامل القاهرة مع الأزمة السودانية".
انتهاكات "الدعم السريع"
وتوقع عبدالكريم ألا يكون سقوط الفاشر نهاية الحرب في السودان أو بداية انهيار الجيش، متوقعاً أن تكثف القوات السودانية الحكومية هجماتها على مناطق سيطرة "الدعم السريع" خلال الأيام المقبلة.
وأشار إلى أن الانتهاكات التي ارتكبتها قوات "الدعم السريع" في مدينة الفاشر خلال الأيام الأخيرة تعزز عدم قبول "حميدتي" على الصعيد الدولي، وقد تكون بداية النهاية له.
ووثقت الأمم المتحدة حالات إعدام ميدانية بحق المدنيين خلال محاولة الفرار من مدينة الفاشر عقب سقوطها، مؤكدة أن قوات "الدعم السريع" احتجزت المدنيين في الفاشر بلا غذاء، بما يرقى إلى استخدام التجويع كسلاح حرب على مدار أكثر من 500 يوم.
واتهمت الحكومة السودانية "الدعم السريع" بالضلوع في "فظائع ممنهجة" بحق المدنيين، مطالبة المجتمع الدولي بمحاسبة المسؤولين عنها. وذكرت مفوضية العون الإنساني (منظمة حكومية سودانية) أن أكثر من ألفي مدني قتلوا خلال يومين فحسب، بينهم أطفال ونساء وكبار سن.
من جانبه، أعلن قائد قوات "الدعم" تشكيل لجنة تحقيق في الأحداث التي شهدتها الفاشر خلال الأيام الماضية، دون أن يقر بمسؤولية قواته عن تلك الأحداث.
وأعرب مستشار الرئيس الأميركي للشؤون الأفريقية مسعد بولس عن القلق البالغ إزاء تصاعد العنف في الفاشر، داعياً "الدعم السريع" إلى محاسبة المسؤولين عن الأعمال الشنيعة ووقف الهجمات فوراً. وأكدت وزيرة الخارجية البريطانية إيفيت كوبر أن "العالم سيحاسب قيادة قوات ’الدعم السريع‘ على الجرائم التي ارتكبتها قواتهم بالسودان". ورأت أن "عليهم التحرك الآن لوقف هذا العنف الأعمى ضد الأبرياء، والموافقة على وقف إنساني لإطلاق النار".