ملخص
يسعى ترمب ووزير دفاعه هيغسيث إلى إخضاع الجيش الأميركي لأجندة سياسية عبر إقالة القادة المستقلين ومحاربة التنوع وإعادة صياغة دور المؤسسة العسكرية بما يخدم ولاءهم الشخصي، مما يهدد مبدأ السيطرة المدنية والاحترافية العسكرية، ويقوض أسس الديمقراطية، بينما يُطالب الضباط بالتمسك بالدستور ورفض الأوامر المناقضة له.
ربما من الصعب التذكر الآن إلا أن الضربة الأولى التي سددها الرئيس الأميركي دونالد ترمب للعلاقات المدنية - العسكرية الأميركية جاءت في عام 2017، عندما بدأ للمرة الأولى يستخدم عبارة "جنرالاتي"، وكان آنذاك عين الجنرال السابق في قوات المارينز، جايمس ماتيس، وزيراً للدفاع، المنصب المخصص في العادة لشخصيات مدنية بغية إبقاء السيطرة المدنية على الجيش، وقد غدا ماتيس على الأثر أول جنرال سابق، منذ جورج مارشال عام 1950، يشغل منصب وزير الدفاع واحتاج لتولي المنصب إلى إذن خاص من الكونغرس الأميركي.
كذلك قام ترمب بتعيين ضباط رفيعي الرتب آخرين في مناصب مدنية منهم الجنرال السابق في المارينز جون كيلي (الذي شغل أولاً منصب وزير الأمن الداخلي ثم كبير موظفي البيت الأبيض)، ومستشاراه الأولان لشؤون الأمن القومي مايكل فلين، جنرال متقاعد بثلاث نجوم، وإيتش آر ماكماستر، جنرال بثلاث نجوم كان لا يزال في الخدمة، حتى إن مستشار نائب الرئيس آنذاك مايك بينس للأمن القومي كان جنرالاً برتبة فريق متقاعد من الجيش، وهو كيث كيلوغ (الذي بات الآن مبعوثاً خاصاً لأوكرانيا) ، ويمكن القول في السياق إن قلة من رؤساء الولايات المتحدة السابقين حاولوا الاستفادة من العلاقة بالجيش الأميركي بهذه الصفاقة، فتعيين عدد كبير من الجنرالات في مناصب عليا كهذه لا يحصل في الجمهوريات الدستورية بل في الأنظمة والدول التي تحكمها مجالس عسكرية، إلا أن ترمب تعجبه هالة الصلابة التي يتمتع بها أولئك العسكريون، وقد استمتع مثلاً بالإشارة إلى ماتيس باسم "ماد دوغ" (الكلب المجنون)، اللقب الذي يمقته ذاك الجنرال الفطين.
على أنه لم يمض وقت طويل حتى بدأ ترمب يضيق ذرعاً بجنرالاته، وفي غضون عامين طردهم جميعاً تقريباً، مشيعاً معظمهم وهم خارجون من بابه بالشتائم، وقال ترمب في وقت لاحق إن الجنرال مارك ميلي الذي اختاره لمنصب رئيس هيئة الأركان العامة (وأحد القلائل الذين أبقاهم في منصبهم حتى نهاية ولايته [الأولى])، كان ينبغي إعدامه بتهمة الخيانة لأنه اتصل بنظرائه الصينيين إثر اقتحام مبنى الكابيتول الأميركي من قبل أنصار ترمب في السادس من يناير (كانون الثاني) 2021، وأكد لهم أن الولايات لا تخطط للشروع في حرب.
وحين عاد ترمب ثانية للرئاسة في يناير الماضي كان مرتاباً جداً من ضباط الجيش، إذ افترض أن الجنرالات المتقاعدين والعاملين الذين عينهم في مناصب عليا خلال ولايته الأولى قاموا بعرقلة رغباته التفردية والانعزالية (في طريقة الحكم) ، وبات ينظر إلى كل أولئك الجنرالات على أنهم جزء من عصبة "الدولة العميقة" المحبطة لشعارات الـ "ماغا" التي يرفعها، وغدا مصمماً على عدم الوقوع في الفخ نفسه الذي وقع به خلال ولايته الثانية.
وبالنتيجة انحدر ترمب في سلسلة السجل القيادي لاختيار وزير دفاعه الحالي، فاختار لهذا المنصب بيت هيغسيث، مقدم برنامج يبث خلال عطلة نهاية الأسبوع على محطة "فوكس نيوز"، لم يتخط خلال خدمته في الحرس الوطني بالجيش رتبة رائد، ولم يتول من قبل إدارة أية مؤسسة كبرى، لكن يبدو أن مؤهلاته الأساس تتلخص بالخضوع المطلق لترمب، إذ سارع بعد توليه منصبه إلى إخضاع الجيش لبرنامج حرب ثقافية كشفته توبيخاته الأخيرة التي وجهها للأدميرالات والجنرالات خلال كلمة ألقاها فيهم في (قاعدة) كوانتيكو، فيرجينيا، واعداً في سياقها باستئصال "قمامة اليقظة" [تيار الووك].
ويقوم هيغسيث في هذا الإطار، ضمن خطوات أخرى عدة، بإعادة إطلاق أسماء ترتبط بـ "الكونفدرالية" [في إشارة إلى قوات الولايات الجنوبية الانفصالية خلال الحرب الأهلية الأميركية] على قواعد عسكرية للجيش، كما يقدم نفسه كـ "وزير للحرب" بعد إصدار ترمب أمراً تنفيذياً لإعادة تسمية وزارة الدفاع بـ "وزارة الحرب"، الاسم الأقل إيحاء بتيار "اليقظة" (علماً أن ترمب لا يملك سلطة قانونية تخوله بإعادة تسمية وزارة الدفاع باسم آخر عبر أمر تنفيذي)، وكذلك قام ترمب وهيغسيث بإخضاع الأفراد الذين يخدمون في الجيش من عسكريين عاديين إلى جنرالات كبار لتلقي محاضرات سياسية لا تلائم البيئة العسكرية.
وفي هذا الجانب، مثلاً أشار ترمب خلال خطاب ألقاه بمطلع أكتوبر (تشرين الأول) لمناسبة مرور 250 عاماً على ولادة القوات البحرية إلى الديموقراطيين على أنهم "بعوضة صغيرة على كتفنا"، فيما كان هيغسيث ينظر باستحسان، ومن بين الخطوات التي اتخذها ترمب وهيغسيث لإخضاع القوات المسلحة لإرادتهما تلك التدابير الأكثر إقلاقاً والمتضمنة إقالة أكثر من 10 جنرالات محترمين (كثير منهم من النساء والأقليات) من دون أسباب وجيهة، وفرض رؤيتهما الأيديولوجية على صفوف التعليم العسكري ومواقع الجيش الإلكترونية، ونشر القوات المسلحة لتنفيذ مهمات داخلية وخارجية مشكوك في شرعيتها، وذلك في إطار حربهما غير المعلنة على الجريمة.
وفي هذا السياق وبفضل طاعته الشديدة للرئيس، تمكن هيغسيث من البقاء في منصبه على رغم تقارير متداولة تتحدث عن صراعات داخلية ونزاعات في مكتبه، فضلاً عن استعداده لتسريب معلومات عن عمليات قصف جوي قبل أن تحصل، ونشره تفاصيل بالغة الحساسية عنها ضمن مجموعة محادثة غير آمنة على تطبيق "سيغنال" ضمت أحد الصحافيين البارزين، إلا أن بقاءه على هذا النحو في منصبه يأتي بكلفة عالية على القوات المسلحة الأميركية والبلاد عموماً.
يسهل لدى تركيزنا على كل فعل من أفعال حركة "ماغا" بطريقة منفصلة أن نغفل مدى تطرف الأجندة العسكرية التي تعتمدها الحركة المذكورة، فالمرء لا يمكنه إدراك عمق الهجوم الذي يشنه ترمب وهيغسيث على الاحترافية غير المسيسة التي جعلت الجيش الأميركي من أكثر المؤسسات استحقاقاً للتقدير في المجتمع الأميركي، وواحداً من أكثر الجيوش استدعاء للمحاكاة والحسد في جميع أنحاء العالم، إلا عبر إلقائه نظرة عامة على مجمل أفعال الرجلين في هذا السياق.
إن محاولة ترمب وهيغسيث الخروج على الاحترافية العسكرية وتسييس المؤسسة العسكرية ليستا في الحقيقة مجرد عملية تهشيم لمعنويات الجيش وفعاليته تلحق الضرر بحركة التجنيد والاستدامة وتلهي القوات المسلحة عن مهماتها الأساس (كمواجهة العدوانية الروسية والصينية)، على رغم بقاء هذه الأمور مخاوف حقيقية، فمجموع الأفعال التي يقوم بها ترمب وهيغسيث تشكل أيضاً تهديداً للديموقراطية واختباراً صعباً للأفراد الذين يخدمون في مؤسسة الجيش والذين لا يقسمون على الولاء الشخصي للرئيس بل على "تعزيز دستور الولايات المتحدة والدفاع عنه".
رؤوس ستتدحرج
لم تهدر إدارة ترمب وقتاً طويلاً لتفرض على الجيش الأميركي طابع "ماغا"، ففي الـ 21 من يناير الماضي وبعد يوم واحد من تولي الرئيس منصبه، أقال القائم بأعمال وزير الأمن الداخلي الأدميرال ليندا فايغان، وهي أول امرأة تتولى قيادة خفر السواحل، من دون أن يذكر سبباً لذلك، غير أن مسؤولين في الإدارة سربوا للصحافة، من دون الكشف عن أسمائهم، أنها أُعفيت من مهماتها بسبب ما وُصف بأنه "تركيز مفرط" على جهود التنوع والشمول، وبعدها بأربعة أيام أقال ترمب مفتشين عامين في 15 مؤسسة ووكالة فيدرالية، من بينها وزارة الدفاع، وهؤلاء كانوا يؤدون دور مراقبين داخليين ينتظر منهم استئصال مظاهر الغش وسوء استخدام السلطة والقصور في الأداء وغيرها من الآفات والمشكلات السائدة داخل المؤسسات التي يراقبون فيها مسؤولي السلطة التنفيذية، وقد أشار التخلص هذا إلى أن التدقيق في أفعال الإدارة لم يعد مرحباً به في المستقبل، وبعد أربعة أيام من ذلك أيضاً ألغى هيغسيث التدابير الأمنية المخصصة لحماية الجنرال المتقاعد ميلي على رغم أن طهران وضعت ثمناً لرأس الأخير إثر قتل القوات الأميركية قائد فيلق القدس الإيراني خلال رئاسة ترمب الأولى.
وبعد مرور أقل من شهر أقال ترمب الجنرال سي كيو براون، ثاني أسود يتولى قيادة هيئة الأركان المشتركة، والأدميرال ليزا فرانشيتي، أول امرأة تتولى قيادة عمليات القوات البحرية، ومرة أخرى لم تقدم أية تبريرات لهاتين الإقالتين مما أدى إلى انتشار تخمينات على نطاق واسع ترى أن عرق براون وجنس فرانشيتي لعبا دوراً كبيراً في مسألة إقالتهما (كذلك بالتزامن أقال ترمب الجنرال جيمس سلايف الأبيض الذي كان نائباً لقائد القوات الجوية الأميركية)، وقيل في هذا الإطار إن براون، الجنرال المتواضع الذي يحظى باحترام واسع النطاق، أثار غضب الإدارة بسبب ظهوره بمقطع فيديو عام 2020 خلال الاحتجاجات على مقتل جورج فلويد، تحدث فيه عن التمييز العرقي الذي واجهه خلال ترقيه في المراتب العسكرية، وأيضاً كان هيغسيث أشار في الماضي إلى أن براون، الذي شغل سابقاً منصب رئيس أركان القوات الجوية، رقي بسبب لون بشرته.
وفيما كان الرئيس يقوم شخصياً بإبعاد أولئك الضباط، كان هيغسيث بدوره يقيل القضاة والمحامين العامين في الجيش والقوات الجوية والبحرية (المعروفون اختصاراً باسم الـ "جاغز" JAGs)، وهؤلاء يشكلون مجموعة من الضباط الكبار المكلفين بمراقبة مؤسساتهم وضمان امتثالها للقانون، وقد جاءت إقالتهم متوقعة نظراً للازدراء القديم الذي يكنه هيغسيث للـ "جاغوفس" "jagoffs"، وفق تسميته الساخرة لهم (والتي تعني "الأشخاص المزعجين"). وسبق لهيغسيث أن دافع عن عسكريين اتهموا بارتكاب جرائم حرب في أفغانستان والعراق، مقنعاً ترمب بإصدار عفو عن كثير منهم خلال فترة رئاسته الأولى، وفي واقعة أحدث قال هيغسيث إنه يريد من "وزارة الحرب" التركيز على "الفتك الأقصى وليس على المشروعية الفاترة"، مصدراً للجيش بالتالي دعوة فعلية إلى اعتماد تصرفات غير قانونية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولم يمثل خليفة براون في رئاسة هيئة الأركان المشتركة خياراً غير عادي، فهذا الخليفة، دان "رايزن" كين، الجنرال المتقاعد ذو الثلاثة نجوم من القوات الجوية، أعيد للخدمة وجرت ترقيته لرتبة جنرال كامل، ولم يستوف الرجل المتطلبات القانونية التي تخوله تولي منصب رئيس مؤسسة، فبموجب القانون من المفترض أن يشغل هذا المنصب جنرال ذو أربع نجوم سبق أن كان نائباً لرئيس هيئة الأركان المشتركة أو رئيساً لمؤسسة (ضمن الجيش) أو قائداً عسكرياً، لكن ترمب قام بإقناع مجلس الشيوخ بالتنازل عن القواعد المعتمدة وتثبيت تعيين كين لأنه (ترمب) كان مقتنعاً بأن الجنرال المذكور واحد من أنصاره السياسيين، وكثيراً ما يروي ترمب قصة ينفيها الجنرال والمقربون منه، وتفيد بأن كين كان ارتدى قبعة الـ "ماغا" وتعهد بالولاء الدائم لهذه الحركة حين التقى ترمب في العراق عام 2018.
وكين في الحقيقة منذ تأكيد تعيينه في منصبه (رئيس هيئة الأركان المشتركة) كان شديد الحرص على التصرف بحياد سياسي، ومثلاً في هذا الإطار وخلال مؤتمر صحافي في الـ 22 من يونيو (حزيران) الماضي موضوعه الضربات الجوية الأميركية على المشروع النووي الإيراني، أشاد هيغسيث بالرئيس ترمب وكرر تأكيداته غير المثبتة القائلة إنه جرى "محو" البرنامج المذكور، فيما تمسك كين في المقابل بالثناء على أفراد الجيش الأميركي مقدماً تقييمات أكثر دقة عن الأضرار التي ألحقتها القنابل (الأميركية) بالموقع المستهدف، إلا أن اختيار كين لهذا المنصب بحد ذاته يشكل رسالة تعبر عن الطريقة التي يعتمدها ترمب كي يطالب جنرالاته بالولاء السياسي قبل أي أمر آخر، كما تعبر عن ضآلة تقديره لمسألة التنوع.
كذلك استهدفت عملية التطهير التي قام بها ترمب خلال الأشهر التي تلت الجولة الأولى من عمليات الإقالة ضابطتين أخريين برتبة جنرال تحظيان باحترام كبير: نائبة قائد القوات البحرية شوشانا شاتفيلد، وهي رئيسة سابقة للمدرسة الحربية البحرية جرى إعفاؤها في أبريل (نيسان) الماضي من مهمة تمثيل الولايات المتحدة في اللجنة العسكرية للـ "ناتو"، ونائبة الأدميرال إيفيت ديفيس التي عزلت في يوليو (تموز) الماضي من مهمة الإشراف على الأكاديمية البحرية الأميركية بعد عام واحد فقط من تعيينها في المنصب (المشرفون على هذه الأكاديمية يخدمون عادة في المنصب المذكور لمدة تتراوح ما بين ثلاثة وأربعة أعوام)، وخطيئة شاتفيلد على ما يبدو كان كلامها الذي قالت فيه "تنوعنا يشكل قوتنا"، والذي عده هيغسيث "أغبى جملة على الإطلاق قيلت في تاريخ الجيش".
التزام بالنظام
ينفي هيغسيث أن تكون مسألتا العرق والجندر قد أدتا دوراً في عمليات الإقالة، وهو يزعم باستمرار أن كل خطوة يقوم بها تهدف إلى تعزيز نزعة "الفتك"، لكن هذه المزاعم تبقى جوفاء أمام المثابرة التي يظهرها وزير الدفاع في عملية محو كل آثار التنوع والمساواة والشمول داخل الجيش، المؤسسة التي أسهمت في قيادة عملية إنهاء الفصل العنصري في المجتمع الأميركي، وقد أقدم هيغسيث مثلاً في السياق على إلغاء الاحتفالات بـ "شهر تاريخ السود" و"شهر تاريخ النساء"، وطلب حذف كل مادة ترتبط بـ "التنوع والمساواة والشمول" من المدارس والأكاديميات العسكرية والمواقع الإلكترونية التابعة لوزارة الدفاع، وقادت تلك القرارات والتدابير إلى حذف أي ذكر لـ "طياري توسكيجي" (الطيارون السود خلال الحرب العالمية الثانية) و"المتحدثين بشيفرة نافاجو" (الأميركيون الأصليون الذين أدوا دوراً مهماً خلال عمليات المارينز في المحيط الهادئ)، وجاكي روبنسون (أول لاعب أسود في الدوري الرئيس للعبة البايسبول والذي خدم أيضاً في الجيش)، وكذلك جرى أيضاً تغيير اسم الناقلة البحرية هارفي ميلك، المناضل المقتول من أجل حقوق المثليين والذي خدم أيضاً في القوات البحرية، إلى اسم آخر.
بعض عمليات المحو "الأورويلية" (من جورج أورويل) هذه، وليس كل العمليات، جرى إلغاؤها لاحقاً، مثل عملية تطهير الصور، ربما بسبب عبارة "gay" (مثلي الجنس)، بحالة "إينولا غاي"، طائرة الـ (B-29) التي ألقت أول قنبلة ذرية على اليابان والتي سميت تيمناً باسم والدة الطيار قائدها، وكذلك جرى في النهاية إرجاع كثير من المجلدات الـ381 التي كانت قد أزيلت من رفوف مكتبة الأكاديمية البحرية، لكن لم يجر إرجاع كل شيء إلى ما كان عليه، والضغوط على الجيش للالتزام بأجندة حركة الـ "ماغا" لا تزال قائمة، ففي يوليو (تموز) الماضي مثلاً وجه وزير شؤون الجيش دانيال دريسكول أمراً إلى "ويست بوينت" (الأكاديمية العسكرية الأميركية) لإلغاء عرض توظيف جين إيسترلي، وهي من قدامى المحاربين في الجيش ومن خريجي "ويست بوينت" كانت ترأست "الوكالة الأمنية للبنى التحتية والشؤون السيبرانية" خلال إدارة بايدن، ثم في سبتمبر (أيلول) الماضي ألغت هيئة خريجي "ويست بوينت" حفلاً لمنح الممثل توم هانكس "جائزة سيلفانوس ثاير" التي تمنح سنوياً "لمواطن مميز" يجسد التزام الأكاديمية بقيم "الواجب والشرف والوطن"، إذ إن هانكس الذي صنع عدداً كبيراً من الأفلام والعروض التلفزيونية التي احتفت بالشجاعة العسكرية الأميركية وأسهم في جمع الأموال لإقامة النصب العسكرية التذكارية وتكريم قدامى المحاربين، كان من مؤيدي الرئيس السابق جو بايدن ومن منتقدي دونالد ترمب، وقد احتفى ترمب من جهته بإلغاء ذاك الحفل التكريمي، فكتب على منصات التواصل الاجتماعي "لا نريد من جوائزنا الأميركية الغالية على قلوبنا أن تذهب لمخربي تيار "اليقظة"، كذلك عملت إدارة "ويست بوينت" على إغلاق أندية طلابية تمثل أقليات مثل "المنتدى الآسيوي – الباسيفيكي" و"النادي الثقافي اللاتيني" "ونادي الجمعية الوطنية للمهندسين السود"، وفي مايو (أيار) الماضي كتب أستاذ الفلسفة غراهام بارسونس ضمن مقالة رأي في "نيويورك تايمز" بأنه سيتوقف عن التعليم في الأكاديمية العسكرية لأنهم في الـ "ويست بوينت" يقومون "بحذف صفوف وتعديل مناهج ومراقبة نقاشات، بغية التوافق مع توجهات إدارة ترمب الإيديولوجية".
يريد ترمب من جنرالاته الولاء السياسي قبل أي شيء آخر
وكجزء من أجندته المعادية لتيار "اليقظة"، قام هيغسيث أيضاً بإعادة تسمية القواعد العسكرية بأسماء ترتبط بالكونفدرالية بعد أن كانت تلك الأسماء قد بدلت إثر قانون أقره الكونغرس على رغم "فيتو" من ترمب في يناير 2021، ويقوم هيغسيث بالتحايل على هذا القانون عبر إعادة تسمية القواعد بأسماء محاربين قدامى لهم الاسم الثاني نفسه لرجالات الكونفدرالية الذين كانت تحمل القواعد المذكورة أسماءهم (قبل عملية تبديلها)، وهكذا عاد "فورت ليبرتي" لاسم "فورت براغ"، لكن ليس تيمناً بالجنرال الكونفدرالي براكستون براغ كما يفترض، بل برونالد أل. براغ، جندي المشاة المشارك في "معركة الثغرة" الذي لم يعرفه أحد من قبل، وتأتي هذه التدابير والأفعال المتحايلة والمتزامنة لتخدم عداء هيغسيث لتيار "اليقظة" وازدرائه لحكم القانون.
الطريقة عينها هذه في التعامل مع الأمور اعتمدت أيضاً بقرار القوات الجوية في الجيش الأميركي بخصوص آشلي بابت، المحاربة السابقة في القوات الجوية والتي قتلتها الشرطة عند محاولتها اقتحام قاعة مجلس النواب خلال تمرد السادس من يناير 2021 المثار من قبل ترمب، وقد منحت بابت جنازة عسكرية مع تكريم كامل، وكتب العقيد المتقاعد مارك هيرتلينغ في موقع "بولورك" The Bulwark أن هذا القرار "أغضبه لأنها لم تمت دفاعاً عن الدستور بل قتلت محاولة الانقلاب عليه".
وبعد اغتيال أحد أبرز مؤيدي ترمب، تشارلي كيرك في الـ 10 من سبتمبر (أيلول) الماضي، أمر هيغسيث مساعديه بتحديد ومعاقبة أي شخص في الجيش أو في أوساط موظفي الـ "بنتاغون" المدنيين ينشر أية مادة على الانترنت توحي بـ "الاحتفاء أو الاستهزاء" بموته، وقد انضم إلى تلك الحملة ناشطون رقميون (على الانترنت) عبر نشرهم مواد على منصة إكس (X) تحت وسم #RevolutionariesintheRanks للكشف عمن ينشر تلك المواد المفترضة (المستهزئة والمحتفية بمقتل كيرك)، وكثير من التعليقات التي أبرزت في هذا الإطار لم تؤيد جريمة القتل في الحقيقة، بل تناولت إشكال بعض تصريحات كيرك المثيرة للجدل، وفي مطلع أكتوبر الماضي ذكرت صحيفة "واشنطن بوست" أن وزارة الدفاع قامت في سياق هذا الأمر باستجواب قرابة 300 موظف من العسكريين والمدنيين، مما أسفر عن عدد من الإجراءات التأديبية تضمنت عمليات إقالة.
وضمن التوجه ذاته أيضاً حاول هيغسيث قمع التغطيات الصحافية النقدية عبر فرضه على جميع المؤسسات الإعلامية المعتمدة لتغطية أخبار الـ "بنتاغون"، التوقيع على تفاهم يقضي بعدم نشر أو كشف أية معلومات لم يمنحهم مسؤولو الوزارة تصريحاً بالحصول عليها، وقد هدد المكتب الإعلامي للـ "بنتاغون" في السياق بإلغاء اعتماد أية مؤسسة ترفض التوقيع على ذلك التفاهم الذي بحسب المؤسسات الإعلامية يمس بحقوقها المكفولة في التعديل الأول من الدستور (الأميركي).
تفكير جماعي
وفي الأثناء تابع هيغسيث حملة تطهير نابعة من منطلقات سياسية صارخة بحق كبار الضباط، فأقال في الثالث من أبريل الماضي رئيس وكالة القيادة السيبرانية والأمن القومي، الجنرال تيموثي هوغ، إضافة إلى نائبة المدير في وكالة الأمن القومي المدنية ويندي نوبل، ولم يصدر تفسير للإقالتين المذكورتين، لكن المؤيدة لترمب والمروجة لنظريات المؤامرة لورا لومير نسبت إلى نفسها الفضل في هاتين الإقالتين، إذ سبق ونددت خلال اجتماع مع ترمب بالمسؤولين المقالين، وذكرت لومير أن كلاهما "لم يكونا مخلصين" للرئيس، لأن هوغ، كان "اختير بعناية" من قبل مارك ميلي عام 2023، حين كان الأخير لا يزال رئيساً لهيئة الأركان المشتركة، ولا يوجد تهمة تشير إلى قيام هوغ ونوبل بأعمال سيئة، كما لا يوجد دليل على قيامهما بممارسات تقوض سلطة الرئيس.
وبعد مضي أشهر قليلة قام هيغسيث في أغسطس (آب) الماضي بالتخلص من ضباط إضافيين، فأقال مدير وكالة الاستخبارات الدفاعية الفريق جيفري كروس ونائبة رئيسة قوات الاحتياط في البحرية الأدميرال نانسي لاكور، والأدميرال البحري ميلتون ساندز، وهو ضابط في قوات النخبة البحرية يشرف على قيادة المعارك البحرية الخاصة، والجنرال ديفيد ألفين، رئيس أركان القوات الجوية الذي سيتقاعد بعد عامين من فترة ولاية مدتها أربعة أعوام، ولم يكن هناك أسباب واضحة لإقالة كل أولئك القادة والمسؤولين سوى الحقيقة الواضحة والمتمثلة بأن لاكور هي امرأة، وأن كروس ترأس وكالة أصدرت معلومات استخبارية وتقديرية أولية أفادت بأن المنشآت النووية الإيرانية لم "تمح" بفعل الضربة الجوية الأميركية، ووفق ما زعم ترمب، وإقالة كروس تلك بسبب تقديم وكالته تقديرات استخبارية حسنة النية، تشير بقوة إلى أن النطق بالحقيقة من قبل القوات المسلحة أو الأجهزة الاستخباراتية لم يعد مرحباً به في ظل الإدارة الحالية، في الأقل حين تتناقض الحقيقة مع تصريحات الرئيس.
ويحق للرؤساء بطبيعة الحال إقالة الضباط الجنرالات، وهم فعلوا ذلك في الماضي، فقد أقال هاري ترومان الجنرال دوغلاس ماك آرثر من منصبه لتحديه القرار الرئاسي الداعي لعدم توسعة الحرب الكورية نحو الصين، كما أقال باراك أوباما الجنرال ستانلي ماكريستال بعد أن نقلت إحدى المجلات كلاماً لأفراد من فريق عمله ينتقدون فيه أوباما ونائبه بايدن، لكن عمليات الإقالة السريعة (التي تقوم بها إدارة ترمب) لذاك العدد الكبير من الضباط رفيعي المستوى، من دون أية تبريرات حقيقية وبراهين عن فشلهم أو سوء تصرفهم، تبقى غير مسبوقة، ويبدو الأمر كمحاولة من ترمب وهيغسيث لتعيين ضباط جنرالات مطيعين ينفذون أوامر الرئيس تحت أي ظرف، حتى لو كانت الأفعال التي يأمر الرئيس بتنفيذها أفعالاً غير حكيمة، أو غير أخلاقية، أو غير قانونية أو الثلاثة معاً، والرسالة التي يودان إيصالها هي أن أي ضابط يشكك في رغبات الرئيس لن يلبث أن يجد نفسه في ثياب مدنية.
على أن عمليات تطهير المسؤولين الشرفاء والمستقلين هذه سيكون لها عواقب وخيمة على السياسة الخارجية الأميركية، إذ عندما يقوم الرئيس وكبار معاونوه مستقبلاً باتخاذ قرارات مهمة تتعلق بالأمن القومي، فمن غير المرجح أن يتمكنوا من تحصيل مجموعة متكاملة من الآراء والمعلومات الاستخباراتية المتعلقة بالمزايا المختلفة لمسارات العمل، لأن المحترفين في وزارة الدفاع وأجهزة الاستخبارات سيدركون أن عليهم إخبار الرئيس فقط بما يود سماعه، وهذه وصفة لذاك النمط من التفكير الخاص بجماعة معينة، والذي سبق ودفع الولايات المتحدة للدخول في حربي فيتنام والعراق.
عمليات انتشار مريبة
ويمكن بالفعل معاينة التأثير المقلق لهذه التوجهات في عمليات نشر الجيش المريبة التي تعتمدها الإدارة الحالية على المستويين المحلي والدولي، بغية تنفيذ مهمات بعيدة كل البعد من المهمات الحربية التقليدية، والمرء يتساءل هنا مثلاً إن كان كبار المسؤولين العسكريين أثاروا مخاوفهم إزاء قرار ترمب القاضي بإرسال قوات الجيش إلى ما يراه الرئيس مدناً "يديرها ديموقراطيون"، فترمب منذ بداية ولايته كان أمر قوات الحرس الوطني بالانتشار في لوس أنجليس وواشنطن العاصمة وشيكاغو وممفيس وبورتلاند، كما يقترح أيضاً الانتشار في لويزيانا، وفي خطابه إلى الجنرالات والأدميرالات في سبتمبر الماضي قال ترمب إن "علينا استخدام بعض هذه المدن الخطرة كحقول تدريب لجيشنا"، ويستخدم ترمب المعدلات الاستثنائية المفترضة في نسب الجريمة (في تلك المدن) كمبرر لما يطرحه، وذلك على رغم ما سجلته المعدلات المذكورة من انخفاض في جميع أنحاء البلاد وغياب أي مؤشر يوحي بفقدان سلطات إنفاذ القانون المحلية سيطرتها على الوضع، وفي يونيو الماضي مثلاً قام ترمب باستخدام الحرس الوطني في كاليفورنيا على مستوى فيدرالي على رغم اعتراضات حاكم الولاية غافين نيوسوم، وأرسل إلى لوس أنجليس 4 آلاف عنصر من الحرس الوطني، إضافة إلى 700 عنصر من جنود مشاة البحرية المنضمين إلى الخدمة الفعلية، رداً على الاحتجاجات الناجمة عن حملات الدهم الكبرى التي شنتها إدارة ترمب لمكافحة الهجرة، وهذه كانت المرة الأولى منذ عام 1965 التي يستخدم فيها الرئيس الحرس الوطني على مستوى فيدرالي على رغم اعتراضات حاكم ولاية.
وقد تقدم نيوسوم في هذا الإطار بدعوى قضائية، كما أصدر قاضي المحكمة الجزئية الأميركية في سان فرانسيسكو، تشارلز براير، في سبتمبر الماضي حكماً يقول إن نشر الحرس الوطني يشكل خرقاً لقانون "بوسي كوميتاتوس لعام 1878"، الذي يحظر في معظم الحالات استخدام الجيش لإنفاذ القانون على مستوى محلي، وكتب القاضي في هذا الإطار "كانت هناك بالفعل احتجاجات في لوس أنجليس، وشارك بعض الأفراد بأعمال عنف، ومع ذلك لم يكن هناك حال تمرد، كما لم تكن سلطات إنفاذ القانون المدنية عاجزة عن مواجهة الاحتجاجات وتطبيق القانون".
وكذلك واجهت جهود ترمب لنشر الحرس الوطني في بورتلاند وشيكاغو عراقيل قانونية أيضاً، وحين حاول ترمب تأميم الحرس الوطني في أوريغون، قامت كارين إيمرغوت، قاضية المحكمة الجزئية الأميركية التي عينها ترمب بإدانة تلك المحاولة ووصفتها بأنها وضع يد غير قانوني على السلطة الفيدرالية، وعندما حاول ترمب في ما بعد إرسال حرس وطني من كاليفورنيا كحل بديل، أصدرت إيمرغوت أمراً قضائياً آخر، وفي حال شيكاغو أصدرت قاضية المحكمة الجزئية الأميركية أبريل بيري أمراً قضائياً يحول دون نشر الحرس الوطني، الإجراء الذي أيدته محكمة الاستئناف الأميركية للدائرة السابعة، وقد رأت كل من القاضيتين إيمرغوت وبيري أن الإدارة لم تكن صادقة في تبرير دواعي نشر الحرس الوطني، مع إشارة بيري إلى "احتمال غياب الصراحة" بين المسؤولين.
غير أن ترمب لا يتراجع وتقوم إدارته راهناً باستئناف جميع هذه القرارات (والأحكام القضائية)، كما تحاول وزارة دفاعه، بصراحة وشفافية، إيجاد مبررات للجوء إلى قانون التمرد لعام 1807 الذي يتيح للبيت الأبيض استخدام الجيش عند وجود حال تمرد، أو عند عجز سلطات إنفاذ القانون المدنية عن فرض القانون، فهذا الرئيس (ترمب) على ما يبدو لن يتوانى عن فعل أي شيء من أجل استخدام الجيش الأميركي، وفي حديث مع "واشنطن بوست" ذكر راندي مانر، وهو جنرال متقاعد ذو نجمتين الذي سبق وشغل منصب نائب قائد الحرس الوطني، أن خطوات ترمب في هذا الجانب "ليست سوى استيلاء سياسي على السلطة".
"الاستخدام الأسمى والأمثل لجيشنا"
وما يثير مقدار القلق ذاته الذي تستدعيه عمليات نشر الحرس الوطني محلياً، هو استخدام الجيش في إطار حرب ترمب غير المعلنة على عصابات المخدرات، ففي الثالث من سبتمبر الماضي أعلن وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو أن قوات الجيش فجرت زورقاً سريعاً في البحر الكاريبي زاعماً أن أعضاء عصابة "ترين دي أراغوا" Tren de Aragua الفنزويلية وشحنة مخدرات غير مشروعة كانوا على متنه، وقد قتل في الهجوم ثمانية أشخاص ممن كانوا على متن الزورق، وزعمت إدارة ترمب أنها أمرت بتنفيذ الضربة القاتلة من خلال سلطة الرئيس كقائد أعلى (للقوات المسلحة) وفق المادة الثانية (من الدستور)، وقد رأى روبيو في السياق أن "للرئيس حق التصرف للقضاء على ما تتعرض له الولايات المتحدة من تهديدات مباشرة"، لكن ما لم يكن واضحاً هو الطريقة التي شكل فيها الزورق "تهديداً مباشراً" حتى لو كان مليئاً بالمخدرات، حتى إن روبيو ذكر أن الزورق كان متجهاً في الواقع إلى ترينيداد، وقد تبين لاحقاً أن الزورق في وقت مهاجمته كان سلك طريقه عائداً نحو فنزويلا، إلا أن الجيش قام الجيش بإغراقه على أية حال، حيث شنت طائرة عسكرية، مسيرة على ما يبدو، ضربات عدة استهدفته، فقتل جميع من كانوا على متنه.
ولم تقدم إدارة ترمب معلومات إضافية عن الحادثة مما دفع بعض قدامى المحاربين في مجال مكافحة المخدرات إلى التكهن بأن الزورق ربما كان يقل مهاجرين لا مخدرات، وفي هذا الإطار قال السيناتور الديموقراطي عن ولاية رود آيلاند، جاك ريد، بعد تلقي مكتبه إحاطة حول الهجوم "إنهم لم يقدموا أي دليل حاسم أن الزورق كان فنزويلياً، ولا أن أفراد طاقمه كانوا أعضاء في عصابة ترين دي أراغوا أو أي كارتل مخدرات آخر".
ومنذ ذاك الهجوم الأول أعلنت وزارة الدفاع أنها دمرت أربعة قوارب إضافية كانت تهرب المخدرات وفق زعمها، وأدى ذلك إلى مقتل 16 شخصاً آخر، ولم تقدم الإدارة معلومات أكثر عن أي من تلك الحوادث، ولم تنشر للرأي العام أي دليل يثبت أن القوارب كانت بالفعل محملة بالمخدرات غير المشروعة، كما لم يجر تقديم أية معلومات تشير إلى الجهة التي كانت القوارب متجهة إليها.
لقد قامت إدارة ترمب بتصنيف عصابة "ترين دي أرغوا" وغيرها من كارتيلات المخدرات كمنظمات إرهابية أجنبية، لكن هذا الأمر لا يمنح الرئيس إذناً في قتل أعضاء هذه المجموعات فور رؤيتهم، فذاك سيكون بمثابة إصدار أمر لأفراد الجيش في إطلاق النار على تجار المخدرات المشتبه فيهم وقتلهم من غير منحهم حق المحاكمة وهي الجريمة التي يمثل اليوم الرئيس الفيليبيني السابق رودريغو دوتيرتي أمام المحكمة الجنائية الدولية بسببها، وكان ترمب أعرب عن إعجابه بدوتيرتي ودعا إلى فرض عقوبة الإعدام على تجار المخدرات، بيد أن الكونغرس لم يصدر أي تفويض يقضي باستخدام القوة العسكرية والسماح بتنفيذ هكذا هجمات، وإن لم يكن الذي حصل استخداماً قانونياً للقوة، كما خلص كثير من الخبراء، فإنه يعد عمليات قتل غير قانونية، أي جريمة حرب محتملة، ويقوم بعض المسؤولين الكبار بالاحتفاء به على رغم ذلك جاك ريد، وقد كتب نائب الرئيس جي دي فانس على منصة "إكس" منشوراً يصف فيه الهجوم على زورق تهريب المخدرات المزعوم بأنه "استخدام أسمى وأمثل لجيشنا"، وعندما علق أحد الأشخاص منتقداً هذا المنشور بالقول إن "قتل مواطنين مدنيين من دولة أخرى دون أية إجراءات قانونية يعد جريمة حرب"، رد فانس "لا أهتم أبداً بما تسمي ذلك".
ربما لا يهتم فانس فعلاً بهذا الأمر لكن على أفراد الخدمة العسكرية المشاركين في هذه العمليات ومسؤوليهم المدنيين أن يكترثوا بذلك، فالمحكمة العليا (في الولايات المتحدة) منحت الرؤساء حصانة من الملاحقة القانونية عن أفعال رسمية، بيد أن تلك الحصانة لا تشمل أي شخص آخر من المشاركين في تلك العمليات أو بعمليات وهجمات لاحقة يهدد الرئيس بتنفيذها.
ميليشيات الـ"ماغا"
إنه لمن المقلق اليوم أن نرى الجيش الأميركي يقوم بالانتشار بهذه الطريقة التي قد لا تكون قانونية، ومن المقلق أيضاً ألا نرى، حتى الآن، أي اعتراض علني من أية شخصية في السلك العسكري، لكن في المقابل هذا ما يمكن توقعه: الجيش الأميركي كما يفترض غير منحاز سياسياً وليس معتاداً على انتقاد القيادة العليا للقوات المسلحة، ومحاولات ضباط كبار لمواجهة الأوامر غير المناسبة وغير القانونية، قد تقود حتى إلى أزمة مدنية - عسكرية أكبر، وربما تجر المؤسسة العسكرية للدخول أكثر في المستنقع السياسي، آخر مكان تود هذه المؤسسة الخوض فيه.
بيد أن الخبر السار هنا يتمثل بما يمتلكه الجيش الأميركي من تقليد طويل وشديد التجذر في حماية الدستور والدفاع عنه، وبحقيقة أن الجيش يشكل مؤسسة هائلة، تقع معظم امتداداتها في أمكنة بعيدة جداً من واشنطن، وسيكون مستحيلاً على ترمب وهيغسيث خلال فترة رئاسية واحدة القيام بمحو تلك المبادئ التي غرست في المؤسسة العسكرية والجيش على مدى قرون.
لكن إدارة ترمب، ومن خلال محاولتها تسييس الجيش، تقوم بتهشيم الثقة بالرجال والنساء الذين يرتدون الزي العسكري وبتنفير القادة الموهوبين من القوات المسلحة، وحينها سيحل النضوب العسكري ليستدعي سؤالاً عن مدى نجاح ترمب وهيغسيث في تطهير القوات المسلحة واستئصال الذين قد لا يتوافقون معهم، ومن غير الواضح بعد إن كان هناك ضباط كبار يعترضون خلف الأبواب المغلقة، أو إن كان الجميع يلتزمون الصمت بغية الاحتفاظ بمواقعهم ووظائفهم، وهذا الغموض من دون شك سيكون له آثار عميقة في ثقة الرأي العام بجيش البلاد، إذ حتى الاجراءات العسكرية الملائمة، والمتماشية تماماً مع القانون، سيمكن النظر إليها من الآن وصاعداً من منظور محاولات إدارة ترمب لتحويل القوات المسلحة الأميركية إلى ميليشيات للـ "ماغا".
عمليات تطهير المسؤولين الشرفاء والمستقلين من صفوف المؤسسة العسكرية ستكون لها عواقب وخيمة
وهذا الأمر ليس منصفاً بحق المؤسسة العسكرية ويتناقض مع المبادئ الأساس التي جعلت من الجيش الأميركي قوة قتالية ناجحة على مدى زمن طويل، كما أن أفعال ترمب تنذر في إثارة سلسلة ردود أفعال قد تلحق الضرر بالقوات المسلحة بعد مرور وقت طويل من مغادرته السلطة، وإذا جرى النظر إلى القادة العسكريين اليوم مثل جنرالات في حركة الـ "ماغا"، فإن أي إدارة ديموقراطية تأتي في المستقبل ستكون ميالة إلى تعيين أنصار ومؤيدين لها، سيتعرضون بعد ذلك بدورهم للإقصاء من قبل رئيس جمهوري تالي، وقد يغدو الجنرالات والأدميرالات معروفين بحسب ولاءاتهم الحزبية السياسية، وربما يتعرض الجيش الأميركي لتقلبات قيادية كبيرة.
التفسير الأكثر إيجابية لصمت الجنرالات اليوم هو أنهم يأملون إبقاء مواقفهم مضبوطة في الوقت الراهن، بانتظار أن يغدوا في موقع يسمح لهم بالعمل كضباط للتجاوزات الرئاسية إن تطور الوضع وأصبح خطراً فعلاً، وبعض الضباط بالفعل قد يجد نفسه في هذا الموقف، فترمب استبدادي طموح قام سلفاً بأمور كثيرة لتقويض حكم القانون والديموقراطية، ومن المرجح أن يصعد الضغوط خلال الأشهر والأعوام المقبلة، ففي عام 2020، وفق وزير الدفاع آنذاك مارك إسبر، طلب من الجيش إطلاق النار على متظاهرين سلميين، إسبر وميلي رفضا ذلك، وجرى التخلي عن الفكرة، ولاحقاً عندما خسر ترمب انتخابات نوفمبر (تشرين الثاني) من ذاك العام، أفيد عن قيام الجنرال السابق سيء السمعة، مايكل فلين، بالدعوة إلى استخدام الجيش لمصادرة صناديق الاقتراع وإلغاء نتائج الانتخابات، وحتى لو كان ترمب حاول تنفيذ تلك الفكرة (لا يوجد دليل على أنه حاول ذلك)، فقد كان من المستبعد جداً موافقة إسبر وميلي عليها، لكن من غير الواضح اليوم إن كان (الجنرال دان) كين وغيره من كبار القادة العسكريين سيرفضون حال صدر طلب مماثل من ترمب، فهل سيقوم كبار القادة الذين اختارهم ترمب بنفسه بمقاومة طلباته، أم سيؤدون التحية ويطيعونه؟ وعلى هذا السؤال يتوقف مصير الجمهورية راهناً.
الشرف النقي
عند محاولة تحديد ما إذا كان ينبغي عليهم تنفيذ أوامر قد تقوض الديمقراطية الأميركية، على كبار الضباط أن يتأملوا في الرسالة المفتوحة التي نُشرت عام 2022 ووقعها ثمانية وزراء دفاع سابقين وخمسة رؤساء أركان سابقين، بينهم جيمس ماتيس ومارك إسبر، وعلى رغم أن اسم ترمب لم يُذكر فيها صراحة، فإن ولايته الأولى كانت حاضرة في كل سطر منها.
وجاء في الفقرة الأولى من الرسالة "يواجه العسكريون المحترفون بيئة شديدة الصعوبة تتسم بالانقسام العاطفي الحاد، الذي بلغ ذروته في أول انتخابات منذ أكثر من قرن تعرض فيها الانتقال السلمي للسلطة السياسية إلى التعطيل والتشكيك"، ثم مضت الرسالة لتضع "المبادئ الأساس وأفضل الممارسات" التي ينبغي أن تحكم "العلاقات السليمة بين المدنيين والعسكريين في الولايات المتحدة"، وأول هذه المبادئ، بطبيعة الحال، هو "الرقابة المدنية على الجيش"، غير أن المسؤولين السابقين شددوا على أن هذه الرقابة يجب أن تُمارس "ضمن إطار دستوري يخضع لحكم القانون"، وأن لكل من السلطتين التشريعية والقضائية دوراً مهماً في ذلك، وأشارت الرسالة إلى أن "العسكريين ملزمون بتنفيذ الأوامر القانونية حتى وإن كانت لديهم شكوك في حكمتها"، لكنها أكدت في الوقت نفسه أن "على المسؤولين المدنيين أن يتيحوا للعسكريين فرصة كافية للتعبير عن شكوكهم في الأماكن المناسبة."
وبمعنى آخر، إذا تلقى القادة العسكريون أوامر تُلزمهم بفعل ما لا ينبغي فعله، فعليهم أن يُعلموا الشعب وممثليه المنتخبين بذلك، ويمكن أن تشمل "الأماكن المناسبة" ليس فقط المداولات الداخلية ضمن السلطة التنفيذية، بل أيضاً الشهادات أمام الكونغرس أو حتى المقابلات الإعلامية، وعلى رغم أن الرسالة لم تذكر هذا الخيار صراحة، فإنه في أسوأ الأحوال يمكن لكبار الضباط التهديد بالاستقالة احتجاجاً.
وصحيح أنه لا توجد في التاريخ الأميركي سابقة لاستقالة قادة عسكريين احتجاجاً، لكن ليس هناك أيضاً سوابق للأوامر من النوع الذي يصدره ترمب وهيغسث اليوم، ومن المأمول أن يتحرك الكونغرس والمحاكم ووسائل الإعلام والرأي العام في نهاية المطاف لحماية احترافية القوات المسلحة، إلا أن الكونغرس الذي يسيطر عليه الجمهوريون غائب حتى الآن عن محاسبة تجاوزات الإدارة.
لذا ففي المدى القصير سيكون على العسكريين أن يعتمدوا على أنفسهم قدر الإمكان، وعليهم أن يتذكروا ما كان يقوله ماتيس لمشاة البحرية تحت قيادته "نفذوا مهمتكم وحافظوا على نقاء شرفكم".
ماكس بوت هو باحث بارز في كرسي جين جاي. كيركباتريك لدراسات الأمن القومي في "مجلس العلاقات الخارجية" ومؤلف كتاب "ريغان: حياته وأسطورته" Reagan: His Life and Legend.
مترجم عن "فورين أفيرز"، 15 أكتوبر 2025
© The Independent