ملخص
تحتل رواية "الداليا السوداء" مكانة الصدارة في رباعية جيمس إيلروي، وإن كان لا بد أن يضاف إليها جزء خامس أعلن دائماً أنه سيكتبه حتماً عن جريمة قتل أمه بعدما كان تناول هذه الجريمة بصورة مواربة بل ربما عبر إشارات عابرة في العدد الأكبر من رواياته موصلاً الأمر إلى نوع من التماهي
هو دون أدنى ريب واحد من أفضل كتاب الرواية البوليسية الأميركية اليوم. وهو أمر مؤكد وثمة من حوله إجماع، في الأقل لدى خبراء النوع من الذين يعدونه الامتداد الطبيعي لأساطين النوع البوليسي في الولايات المتحدة الأميركية، لا سيما منهم رايموند تشاندلر وداشيل هاميت لكي لا نذكر سوى هذين الكبيرين بين الكبار.
غير أن الرجل الذي يتجاوز الآن الـ77 من عمره، لا يروق له أن يكتفي بهذا التصنيف فهو لا يحب أن يحتسب حتى مع كبار الكبار ولو كانوا من أعز الراحلين. لماذا؟ بكل بساطة لأنه يعد نفسه أعظم كاتب للروايات البوليسية في الأقل، في كل مكان كما في كل زمان.
والغريب في الأمر أن ثمة كثراً ليس بين القراء المدمنين على قراءة جيمس إيلروي وحسب، بل بين النقاد والباحثين الأكثر جدية، يتفقون على رأيه وإن بدرجات متفاوتة. وهم يستشهدون على هذه الموافقة أولاً بغزارة إنتاجه وتنوعه، وثانياً بانتشار أدبه عبر اقتباساته السينمائية والتلفزيونية، ولكن بصورة خاصة عبر الفيلم الذي حققه بريان دي بالما في اقتباس عن روايته الأقوى والأقسى والأجمل، "الداليا السوداء" التي اقتبسها، بعد تراجع ذي دلالة من ديفيد فينشر، في فيلم سينمائي يحمل العنوان نفسه وتشارك في بطولته النسائية كل من سكارليت جونسون وهيلاري سوينك.
عن الأم المغدورة
ولئن كنا نذكر هاتين النجمتين دون غيرهما من أبطال الفيلم، فما هذا إلا لأنهما لا تلعبان دور البطولة في الفيلم، بل دورين هامشيين لمجرد أن البطولة فيه معقودة لأنثى ثالثة ميتة منذ بدايته. لذا هي غائبة وتدور الحكاية كلها حول مقتلها بصورة غامضة.
والحقيقة أن الحكاية حتى ولو كانت مستقاة من سجلات البوليس في لوس أنجليس وتتعلق بمقتل الفتاة الملقبة بالداليا السوداء بصورة غامضة لم تفك أسرارها حتى اليوم حتى وإن كان الكاتب، والفيلم بالتالي يفترضان للحكاية نهاية أقل غموضاً. فإن المهم هو أن إيلروي يعود هنا بالتحديد لا إلى مقتل الداليا السوداء وظروفه بل إلى مقتل أمه قبل عقود من كتابة الرواية وعقود أكثر من تحقيق الفيلم، في المدينة نفسها وهذه المرة أمام ناظريه وكان طفلاً لا يفقه ما يحدث لها.
ومن المعروف أن إيلروي لم يكف عن الحديث عن رابط ما يجمع بين مقتل أمه ومقتل الداليا السوداء ولكن من دون أن يفسر ما هو ذلك الرابط. أما النقاد فلقد تحدثوا عن رابطين يمكن أن يبدوان واهنين: الجريمة الغامضة في الحالتين، ومدينة لوس أنجليس كمكان لهما إذ إن الجريمتين تنتميان معاً إلى سجلات تلك المدينة التي عاش إيلروي فيها وكتب عنها، بل إن الباحثين يقولون دائماً إن الرباعية المسماة "رباعية لوس أنجليس" التي كتب إيلروي أجزاءها الأربعة تباعاً تضم ليس فقط أفضل أربع روايات لهذا الكاتب على الإطلاق، بل أفضل الروايات التي كتبت عن هذه المدينة على مدى تاريخها.
وتحتل "الداليا السوداء" مكانة الصدارة في هذه الرباعية على أية حال والأجزاء الأربعة هي "أسرار لوس أنجليس"، و"صحافة شعبية أميركية"، و"جاز أبيض"، ناهيك بالطبع عن "الداليا السوداء"، وإن كان لا بد أن يضاف إليها جزء خامس أعلن إيلروي دائماً أنه سيكتبه حتماً ولكن لاحقاً. وهذه المرة عن جريمة قتل أمه بعدما كان تناول هذه الجريمة بصورة مواربة بل ربما عبر إشارات عابرة في العدد الأكبر من رواياته موصلاً الأمر إلى نوع من التماهي، الذي يعترف هو نفسه بكونه مزيفاً على أية حال في "الداليا السوداء".
عودة إلى الأم
صحيح أن هذا الجزء الخامس لم يصدر بعد وإن إيلروي لم يكتب منه حتى الآن سوى خطوط أولى، غير أنه بالنسبة إليه يبدو وكأنه قد أنجزه بصورة أو بأخرى. وربما يكون قد أنجزه في عام 2006 ولكن من خلال حديث تلفزيوني مسهب عنه لا أكثر، وكان ذلك حين دُعي كضيف أول لبرنامج تلفزيوني جديد عنوانه "جريمة من خلال كتاب" أصر فيه على الحديث عن أمه طوال زمن الحلقة وتقريباً كبطلة في واحدة من رواياته الأساسية المقبلة.
وإثر بث الحلقة التي حققت استماعاً رائعاً، سأله صحافيون عما لا يزال يدفعه إلى الانكباب على تلك القضية الشخصية رغم انقضاء أكثر من نصف قرن على حدوثها فكان جوابه: "إذا نحينا قضية اللغة جانباً، ستكون ذريعة العودة إلى هذا الموضوع الحاجة إلى التهدئة. ذلك أن العلاقة بين أمي وبيني لا تزال قائمة. وقوة هذه المرأة، قوتها الخالصة، الأنثوية، المعقدة، الملتبسة، التائهة، تواصل التحكم بي حتى اليوم". وإذ قال له صحافي آخر بوضوح، "قبل 10 أعوام من الآن حكيت لنا في كتاب لك عنونته 'حصتي من الظل' ويحمل سيرتك الذاتية، حكاية تلك الجريمة كجزء من تاريخك الخاص، وبدا لنا واضحاً أن الجريمة تغوص في ثنايا حياتك كما تغوص في رواياتك نفسها كما في الثلاثية التي نعرف أنك تنجزها في هذه الفترة من حياتك بالذات، والتي تنبني أحداثها على خلفية المرحلة ما قبل الريغانية". فسكت إيلروي هنيهة قبل أن يقول، "إن ما أحبه في تلك المرحلة التي أكتب عنها الآن وهي التي تستغرق الأعوام 1958 - 1972، هو أن العداء للشيوعية كان يبرر عملياً كل أنواع النشاطات السرية. وأنا في الواقع أحب كثيراً الغوص في ثنايا تلك الحالة الغريبة، تلك الانتهازية التي وصلت إلى أقاصيها".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
صحيح أن الصحافي عد تلك الإجابة نوعاً من التهرب لكنه لم يعد إلى الأمر نفسه بل انتقل ليطرح على الكاتب سؤالاً آخر أراد به أن يحرجه على سبيل ما خيل إليه أنه رد الكيل كيلين، فوجه له سؤالاً مباغتاً في رأيه، "هل تراك تعد نفسك روائياً كبيراً أم إنك مجرد كاتب روايات بوليسية؟"، فأتاه رد إيلروي مفاجئاً إذ قال له، "أنا معلم من كبار معلمي فن الرواية، كما أنني في الوقت نفسه أعظم كتاب الرواية البوليسية في كل زمان ومكان. أنا بالنسبة إلى الرواية البوليسية ما كانه تولستوي بالنسبة إلى الرواية، وبيتهوفن بالنسبة إلى الموسيقى". فعاد الصحافي وقد آفاق من المفاجأة ليسأله مبتسماً، "فكيف تعرف هذا وأنت تقول دائماً إنك لا تقرأ أية كتب أخرى؟". فكان الجواب هذه المرة، "إنه أمر أعرفه هكذا وبكل بساطة. هناك بيت شعر رائع في قصيدة أكثر روعة لتوماس لاكس فحواه أنه يقول لنفسه: 'إنك وحيد وإنك لتعرف أموراً قليلة جداً'. كل ما في الأمر بالنسبة إلى هو أنني مميز". الصحافي: "فماذا عن ريموند تشاندلر؟" إيلروي: "سمعته أكبر من قدرته الكتابية بكثير". الصحافي: "وداشيل هاميت الذي بات اسمه صنوا للرواية البوليسية السوداء؟". إيلروي: "الجواب نفسه. أعتقد أنه أكبر من تشاندلر وأنه كاتب كبير. لكني أرى أنني أكبر منه كثيراً هو الآخر. اقرأ روايات هاميت الخمس فستجد بينها ما لا يقل عن روايتين ضعيفتين، 'المفقود' و'دم فاسد'..."