Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"السيد سكورسيزي"... حكاية مخرج شجاع

فيلم وثائقي لريبيكا ميلر يمتد لخمس ساعات من الصبر والإنصات

مارتن سكورسيزي (آبل تي في)

ملخص

في فصوله الأخيرة يتحول "السيد سكورسيزي" إلى تأمل في فكرة الخلود عبر الصورة، ويمزح بأنه تصالح مع الفناء لكن عينيه تفضحان خوفاً من اللقطة التي لن يراها مكتملة، وحين يتحدث عن الصمت يبدو كمن يكتب وصيته الأخيرة.

ثمة تواضع نادر في الطريقة التي يتحدث بها مارتن سكورسيزي عن الموت، ليس موت الشخصيات التي رسمها بعنف وجمال، لا موت ترافيس بيكل (Taxi Driver) وسط النيران، ولا انطفاء هنري هيل  (Goodfellas) في ظلال برنامج حماية الشهود، بل موته هو الشخصي البطيء الهادئ.

في الفيلم الوثائقي "السيد سكورسيزي" للمخرجة ريبيكا ميلر، وهو عمل يمتد لخمس ساعات من الصبر والإنصات وتبثه منصة "أبل تي في"، نرى آخر حكماء السينما الأميركية يواجه السؤال الأكثر قسوة: ماذا يحدث عندما تنطفئ الشاشة بينما يواصل جهاز العرض الدوران؟

هذا ليس فيلماً عن مخرج بل عن كائن يعيش داخل السينما ويدفن داخلها، وكأن ميلر لا توثق سيرة رجل بل تستحضر روح فن بأكمله، إذ ترتكز السلسلة الوثائقية على حوارات مستفيضة مع المخرج نفسه ومقابلات لم يسبق لها مثيل مع الأصدقاء والعائلة والمبدعين المتعاونين معه، بما في ذلك روبرت دي نيرو ودانييل داي لويس وليوناردو دي كابريو وميك جاغر وروبي روبرتسون وثيلما شونميكر وستيفن سبيلبرغ وشارون ستون وجودي فوستر وبول شريدر ومارغو روبي وكيت بلانشيت وجاي كوكس ورودريغو بريتو، إضافة إلى أطفاله وزوجته هيلين موريس وأصدقاء الطفولة المقربين، وكان هناك كثير من المواد التي يجب تغطيتها، فقد أخرج سكورسيزي 26 فيلماً روائياً طويلاً على مدار 56 عاماً، ناهيك عن مشاريعه الأخرى المختلفة، وتزوج خمس مرات ولديه ثلاث بنات.

اعتراف بلقطة واسعة

يفتتح الفيلم لا بصورة الأسطورة بل بالهشاشة، يجلس سكورسيزي (82 سنة) في غرفة مضاءة بضوء خافت، كمامته مائلة قليلًا ويداه ترتجفان حول فنجان قهوة، العالم في الخارج يختنق بالوباء (صوّر العمل أثناء جائحة كورونا)، والرجل الذي صوّر كل أشكال الخطيئة والخلاص يعيش عزلة تشبه صمت الكنائس بعد القداس.

 

 

يتحدث بلا توقف عن الطفولة في ليتل إيتالي، عن الربو والكهنة والذنب، عن اللقطات التي لم تلتقط أبداً وكأنه يعترف أمام كاميرا تؤدي دور الكاهن الأخير في حياته، وميلر لا تطرح الأسئلة، إنها تُصغي، وعدستها تتحرك ببطء كما لو كانت تزور قريباً عبقرياً تخشى أن توقظه من حلمه، وقوة الفيلم لا تأتي من المعلومات بل من الإصغاء، من ذلك الفضاء الذي يتحول فيه الصمت سيرة ذاتية.

كنيسة الضوء والضجيج

تلمّح ميلر إلى أن كل أفلام سكورسيزي كانت في جوهرها صلوات متنكرة في هيئة جرائم، فذلك الطفل الذي لم يستطع الركض خوفاً من نوبات الربو وجد في السينما هواءه الوحيد، ومن الضوء والظل صنع لغته الأخلاقية الخاصة حين يتحول العنف إلى إيقاع والذنب إلى حركة كاميرا.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

تنسج ميلر مشاهد من Mean Streets وTaxi Driver وRaging Bull وSilence   بخفة موسيقية بارعة ليصبح كل فيلم محطة في مسار طويل من التجربة الإنسانية والسينما المتأملة، كرحلة تكشف هشاشة الزمن وبصمة المخرج على ذاكرة الفن، فالعنف هنا لا يُمجد بل يُرثى له، والكاميرا لا تمجد القسوة بل تندبها، وحين نراه اليوم متعب الجسد لكن متقد الذهن، نفهم أن كل قَطع في المونتاج كان اعترافاً، وكل حركة كاميرا صلاة للمغفرة.

ميلر، وهي مخرجة تُعرف بحساسيتها الهادئة، لا تقدم تمثالاً للأسطورة بل تفككه بحنان، وتحول فوضى سكورسيزي الداخلية إلى تأمل هادئ في معنى الخلق، في ثمن أن تعيش حياتك كلها داخل فيلم لا ينتهي.

الغضب والإيمان

ما ينقذ الفيلم من أن يتحول إلى تمجيد أجوف هو شجاعته في مواجهة الفشل، فالرجل الذي صنع Goodfellas وThe Departed   هو نفسه الذي انهار يوماً تحت ثقل الإدمان والديون والوحدة، وحين يقول بصوت متهدج "لم أعد أميز أين ينتهي العمل وأين يبدأ العقاب"، يصمت المكان كله.

 

 

لم يقترب أي وثائقي آخر من سكورسيزي بهذا القدر من العُري، لا كمعلّم للسينما بل كإنسان حول كل جرح إلى لقطة، مشاهد أرشيفية له يصرخ في موقع Raging Bull تُقابلها لقطات جديدة له على شرفة ميلر، يتحدث كما لو كان يحاول تهدئة شبحه القديم.

النساء اللواتي عبرن شاشته

على رغم احترامها له ترتكب ميلر فعلاً تصحيحياً أنثوياً هادئاً وتمنح مساحة لصوت النساء اللواتي عشن في ظل عبقريته: زوجاته، ممثلاته، ابنته فرانشيسكا، وتقول الأخيرة "كانت أفلام أبي هي بيته الحقيقي، ونحن كنا نزور ذلك البيت من حين إلى آخر"، في اعتراف مؤلم لكنه لا يخلو من الحنان، فالمخرج الذي كان يملأ مواقع التصوير صخباً صار الآن أباً يحاول الإصغاء، ليتحول الوثائقي إلى مفاوضة بين الفن والرحمة، بين الحاجة إلى الخلق وثمنه الباهظ.

وفي عين ميلر لا يبدو انتقال سكورسيزي من التمرد إلى الحكمة انحداراً بل اكتمالاً، فالغضب الذي غذى Taxi Driver  ذاب في امتنان هادئ، والرجل الذي كان يبحث عن الخلاص عبر الأفلام يبحث عنه اليوم عبر العائلة.

السينما كحياة بعد الموت

في فصوله الأخيرة يتحول "السيد سكورسيزي إلى تأمل في فكرة الخلود عبر الصورة، ويمزح سكورسيزي بأنه تصالح مع الفناء لكن عينيه تفضحان خوفاً من اللقطة التي لن يراها مكتملة، وحين يتحدث عن الصمت يبدو كمن يكتب وصيته الأخيرة، وحين يتذكر المرة الأولى التي رأى فيها شعاع الضوء يخترق ظلمة صالة العرض، يبدو كمن وُلد من جديد.

في تلك اللحظات لا يعود الفيلم عن سكورسيزي وحده بل عنّا جميعاً، عن هشاشتنا أمام الزمن وحاجتنا إلى أن نحتمي بفن يعيد ترتيب جراحنا في إيقاع جميل.

اللقطة الأخيرة

تختم ميلر فيلمها بصمت، سكورسيزي يجلس وحيداً يشاهد مقاطع من أفلامه القديمة، ينعكس الضوء المتقطع على وجهه فلا يبدو كمخرج بل كرجل يعود للكنيسة الوحيدة التي لم تغلق أبوابها في وجهه: السينما.

وهناك فقط، في تلاشي الصورة، نفهم معجزة سكورسيزي الصامتة وأن موضوعه الحقيقي لم يكن الجريمة ولا الإيمان ولا أميركا، بل الزمن نفسه وما يفعله بأرواحنا، وفي النهاية لا يتركك الفيلم مع فكرة عن الإرث بل مع سؤال عن البقاء: هل نصنع الأفلام لنحيا فيها بعد موتنا، أم لأننا لا نجد وسيلة أخرى لنعيش الحياة أصلاً؟

اقرأ المزيد

المزيد من سينما