Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الفلسفة وأسئلة ما بعد الإنسان وتحول الذات

للقرن الحالي قضاياه الخاصة العاجلة والمعقدة التي يمكن القول إن بعضها مقطوع الصلة بما سبقه

ظهرت  أسئلة جديدة تشكلت بفعل التغيرات الاجتماعية والتكنولوجية والسياسية والحداثة المتأخرة والشك في العقل واللغة (صورة مصممة عبر الذكاء الاصطناعي)

ملخص

يبيّن النص أن فلسفة القرن الـ21 تواجه أسئلة جديدة نتجت من التحولات الرقمية والتقنية والبيئية، مما دفعها لإعادة تعريف مفاهيم الإنسان والحرية والمواطنة. وتواصل الفلسفة اليوم دورها النقدي عبر فهم علاقة الإنسان بالتكنولوجيا والبيئة والعدالة، مع انفتاح عالمي يدمج تقاليد فكرية متعددة.

يقال إن الفلسفة هي ابنة زمانها، وإنها المرآة التي تعكس قلق الإنسان وأسئلته الكبرى في كل عصر، فإذا كان القرن الـ20 قرن الأيديولوجيات الكبرى والتنوع الهائل للتيارات الفلسفية المتشابكة مع علوم أخرى قد تميز باستمرار الاهتمام بالقضايا الكلاسيكية كالأنطولوجيا والإيتيقا والإبيستمولوجيا والسياسة والهوية مع ظهور أسئلة جديدة تشكلت بفعل التغيرات الاجتماعية والتكنولوجية والسياسية والحداثة المتأخرة والشك في العقل واللغة واللسانيات والتحليل النفسي والأيديولوجيات ونهاية التاريخ والإنسان والمؤلف، فإن القرن الـ21 هو قرن التحولات السريعة، العلمية والرقمية والبيئية والسياسية والدينية، التي أعادت طرح السؤال الفلسفي في سياقات غير مسبوقة، علماً أن التفكير الفلسفي في هذا القرن ليس مقطوع الصلة بفلسفات القرون السابقة، بل إن بعض التيارات الفلسفية تعد امتداداً وتطويراً للأفكار الأساسية التي سادت في القرن الـ20 كأعمال جاك دريدا وجان فرنسوا ليوتار في مجال اللسانيات، وجوليا كريستيفا في فقه اللغة، وجان بودريار ورولان بارت في السيميائيات، وجيل دولوز وجاك رانسيير في الجانب الجمالي، وميشيل فوكو في الفلسفة الاجتماعية، وسيمون دو بوفوار وجان بول سارتر في الفكر الوجودي، وكلود ليفي ستروس في الأنثروبولوجيا، وفليكس غاتاري ولوس إريغاراي في التحليل النفسي... إلخ، وأن تأثير مناهج الفلسفة التحليلية والفلسفة القارية والوجودية والفينومينولوجيا والهيرمينوطيقا ما زال فاعلاً في فكر جان-لوك ماريون وميشال سير وغيرهما، ذلك أن التفكير الفلسفي يتميز بأنه فكر متصل ومستمر وفي حال جدل وحركة دائمين. ولئن كانت الفلسفة قد واجهت في نهاية القرن الـ20 مأزقاً بسبب تطور العلوم تطوراً هائلاً، أبعد مجالات كثيرة عن سلطة تفكيرها، فإن بعض الأصوات قد أعلنت نهايتها وطرحت سؤال ما بعدها، لكن بعض الأصوات الأخرى أكدت أن الفلسفة قادرة على التكيف والتحول إما إلى هيرمنيوطيقا أو تأويل فلسفي للميتافيزيقا الغربية كما في كتابات غادامر وريكور، أو إلى خطاب تفكيكي كما في أعمال دريدا، أو إلى نقد للأيديولوجيا عند هابرماس، أو في استمرارها كعلم دلالة وسيميائيات، أو كنظرية عامة للغة كما انطلقت من فلسفات هايدغر وفيتغنشتاين، مستمدة غذاءها الفكري من التقدم الحاصل في ميادين العلم والفن والأدب وعلم النفس والاجتماع والبيولوجيا.

الفلسفة وصياغة معنى الحرية والمواطنة

غير أن للقرن الـ21 قضاياه الفلسفية الخاصة العاجلة والمعقدة التي يمكن القول إن بعضها مقطوع الصلة بما سبقه بسبب من تطور العلوم والتكنولوجيا الرقمية والتغيرات التي أصابت المجتمعات كافة. هذه القضايا يمكن إيجازها في الأسئلة الآتية: ما معنى الفلسفة والحرية في عالم تهيمن عليه الخوارزميات والعولمة الرقمية والذكاء الاصطناعي؟ ما مصير الإنسان في عصر ما بعد الإنسان؟ ما موقف الفلسفة من تغير مفهوم السياسة التقليدية التي أصبحت تتقيد بالمصالح الاقتصادية والتقنيات الرقمية في غياب للبعد الأخلاقي والإنساني؟ وكيف تعيد الفلسفة صياغة معنى الحرية والمواطنة، وهي التي تقف الآن على مفترق طرق تتقاطع فيها الاتجاهات بين التقدم الهائل للعلوم والتكنولوجيا من جهة، والمتغيرات والمتناقضات والتحولات في ظل ثورة تكنولوجيا المعلومات والاتصال والمراقبة الشاملة من جهة أخرى؟ وما الوظيفة الموكلة إليها في خضم الهجوم الشديد عليها من قبل بعض الاتجاهات كالبراغماتية والوضعية المنطقية؟ وما حدود المسؤولية الأخلاقية في زمن التغير المناخي والانهيار الإيكولوجي؟ وهل "الإبداع" الذي تنتجه الخوارزميات يحمل معنى فلسفياً وجمالياً حقيقياً، أم أنه مجرد محاكاة فارغة؟ وهل يمكن تحميل "الآلة" مسؤولية أخلاقية؟ من هم الفلاسفة الذين تصدوا لهذه الموضوعات الشائكة والذين غيرت كتاباتهم بصورة جوهرية تكوين هذا "الفضاء الفكري"؟

 شكلت هذه الأسئلة التي فرضها عالم معقد يشهد تحولاً مستمراً وتطوراً تكنولوجياً لب الفلسفة المعاصرة التي انتظمت في النقاشات المجتمعية وهموم الإنسان اليومية، لا سيما الثورة الرقمية والذكاء الاصطناعي والعولمة والأمن السيبراني والهوية (وبخاصة الهوية الجندرية) والإدماج والتنوع والعدالة الاجتماعية والديمقراطية وحقوق الإنسان والإرهاب والنزاعات المسلحة. ولا يزال مفكرون مثل إدغار موران، وجوليا كريستيفا، وفرنسوا جوليان، وجوديت بوتلر وسواهم، يواصلون استكشاف هذه القضايا. ذلك أن ملامح هذه الفلسفة تغيرت مع تغير علاقة الإنسان بالمعرفة والزمن والآخر، فلم تعد الفلسفة في القرن الـ21 تسأل فقط "ما الإنسان؟" كما فعل كانط في القرن الـ18، بل أصبحت تسأل: "هل ما زال هناك إنسان كما عرفناه؟".

تساؤلات عميقة حول علاقة الإنسان بالتكنولوجيا

تتناول فلسفات القرن الـ21 إذاً قضايا ما بعد الإنسانية والتحول التكنولوجي للذات، فتفكر في حدود الجسد والعقل، وفي معنى الوعي عندما يصبح قابلاً للمحاكاة عبر الآلات. مفكرون مثل دونا هاراواي (مواليد 1944) وأبحاثها في مجال النسوية البيئية المعاصرة المرتبطة بحركات ما بعد الإنسانية والحركات المادية الجديدة التي تنتقد فكرة مركزية الإنسان، مؤكدة القوى الذاتية التنظيم للعمليات غير البشرية، والتي تستكشف العلاقات غير المتوافقة بين تلك العمليات والممارسات الثقافية، بغية إعادة التفكير في مصادر الأخلاق، وبرنار ستيغلر (1952-2020) الذي كرس معظم أبحاثه لأثر التكنولوجيا الرقمية في جوانب الحياة الإنسانية والممارسات الثقافية، محرضاً الباحثين على تجديد طريقة تفكيرهم في علاقة البشر بالتقنيات وبالخوارزميات، ويورغن هابرماس (مواليد 1929)، وريث أدورنو وهوركهايمر وماركوزه وكل مدرسة فرانكفورت، ونظريته في "الفعل التواصلي" والحداثة كمشروع لم يكتمل بعد، الذي انتقد مناوئي هذا المشروع كالاسكتلندي ألسدير ماكنتاير (1929-2025) ومشروعه المناهض للنظام الاجتماعي والاقتصادي والسياسي السائد للحداثة المتقدمة وغيره مما بعد الحداثويين، مدافعاً عن ضرورة عدم التضحية بالمكاسب التي حققتها الحداثة كزيادة المعارف والفوائد الاقتصادية والحرية الفردية والعلمانية وشروط العيش في عالم متغير... إلخ.

هؤلاء المفكرون أثاروا تساؤلات عميقة حول علاقة الإنسان بالتكنولوجيا وارتباطها بزيادة قدرته أو تهديدها لاستقلاليته، مما وضع الفلسفة أمام ضرورة إعادة تعريف بعض المفاهيم كالحرية والإرادة، والإبداع والمسؤولية والسياسة. فوفق الفرنسي جاك رانسيير (مواليد 1940) الذي عمل على عدم السماح للفلسفة بالانزلاق إلى مجرد تعليق على الأحداث الجارية، إن الفعل الفلسفي السياسي يكمن في القدرة على مساءلة واستجواب النظام الاجتماعي وإعادة التفكير في ما يعتبر طبيعياً أو مسلماً به، مما يجعل من الفلسفة فعلاً سياسياً بمعناه الأخلاقي، لا بمعناه الإداري أو البيروقراطي، وسيلة لإعادة تحديد الحرية والمواطنة.

هذه التحديات غير المسبوقة غيرت إذاً التفكير الفلسفي من مجرد تأمل نظري في ماهية الوجود أو المعرفة، إلى مواجهة نقدية مستمرة للتحولات وللسلطة التقنية والاقتصادية والسياسية بغية استعادة معنى الحرية والعدالة في فضاء اجتماعي مضطرب، لم يعد المواطن فيه فاعلاً ومؤثراً بقدر ما أصبح جزءاً من منظومات تراقب سلوكياته وتحدد اختياراته على ما لاحظ سابقاً ميشيل فوكو في كتابه "المعرفة والسلطة". ففي عصر البيانات الرقمية والتحكم الرقمي وحركة الأسواق لم تعد الحرية حقاً قانونياً فحسب، بل أصبحت ممارسة نقدية يومية لمواجهة الهيمنة التقنية، كما أن المواطنة لم تعد مجرد انتماء للدولة، بل مسؤولية أخلاقية نحو المجتمع العالمي، تشمل قضايا البيئة والعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان والاستدامة والأخلاق والعلاقة بين الإنسان والطبيعة. هكذا بدأت الفلسفة تتبدى اليوم لا كترف فكري، بل كضرورة سياسية وأخلاقية، تذكر الإنسان أنه ليس مجرد بيانات أو أرقام، بل كائن قادر على التفكير والاختيار.

 ولكن هل يمكن أن تعيد الفلسفة للفكر بعامة والسياسي بخاصة بعده الأخلاقي والإنساني، في مواجهة ما يسميه بعض الفلاسفة "النيوليبرالية الخوارزمية" على ما يقول الاقتصادي والمفكر اليوناني يانيس فاروفاكيس؟   

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

المكانة الخاصة للإنسان في الكون

لقد تحول سؤال السياسة اليوم إلى سؤال حول الشروط الممكنة للحرية في عالم ما بعد الديمقراطية، حيث تمارس السلطة من دون سيادة، وحيث يذوب المجال العام في فضاء رقمي مراقب. في هذا السياق، يستعاد التفكير الفلسفي في السياسة لا بوصفها فن الحكم، بل بوصفها فن القدرة على إعادة تأسيس المعنى الجماعي في عالم مفكك، اختلطت فيه الحدود بين الطبيعي والصناعي، بين الفكر والمعالجة الحسابية، بين الذات والآلة. هكذا بدأت الفلسفة منذ مطالع هذا القرن بالدخول في حوار جديد بين العقل النظري والعقل التقني، بين العلوم والإعلاميات، بين الروبوتيك والأزمات البيئية العالمية كمسائل التغير المناخي والاحتباس الحراري وانقراض الأنواع والتدهور الإيكولوجي... إلخ، التي لم تعد مجرد مشكلات علمية أو سياسية، بل أصبحت أيضاً أسئلة فلسفية في جوهرها تتعلق بعلاقة الإنسان بالعالم.

أعادت هذه الأزمات طرح السؤال القديم عن "المكانة الخاصة للإنسان في الكون"، كما في فلسفات الإيكولوجيا العميقة وما بعد الإنسانية البيئية التي حاولت تجاوز النظرة المركزية للإنسان التي ميزت الحداثة الغربية. مفكرون مثل برونو لاتور (1947-2022) الذي ركز على العلاقات المعقدة وغير المتجانسة بين كل من البشر وغير البشر من حيوانات وجمادات وأشياء، وتيموثي مورتن (مواليد 1968) وإدواردو ڤيڤيروس دي كاسترو (مواليد 1951) دعوا إلى تصور جديد للعالم بوصفه شبكة من الكيانات المتفاعلة، حيث الإنسان ليس سيداً بل كائناً بين كائنات أخرى.

في هذا السياق، ظهرت مفاهيم جديدة مثل مفهوم "الأنثروبوسين" الذي اقترحه الكيماوي الهولندي بول كروتزن الحائز جائزة نوبل للكيمياء عام 1995، للإشارة إلى دخول كوكب الأرض عصراً جيولوجياً جديداً، هو العصر الجيولوجي البشري، الذي يشير إلى العصر الذي صار فيه الإنسان قوة مؤثرة في بنية الأرض التي مرت بمراحل تطور معقدة أدت إلى تطور الحياة البيولوجية عليها تدريجاً حتى ظهور الإنسان، وهو أرقى الكائنات وأكثرها ذكاءً ونشاطاً. ويتميز "عصر الأنثروبوسين" بتقلص دور العوامل والدورات الطبيعية في تشكيل أنماط الحياة وطبقات الأرض كما كانت الحال إبان الحقب والعصور الجيولوجية الأخرى القديمة مع زيادة تأثير الأنشطة البشرية على تغيير أحوال البيئة والمناخ وجميع الأنظمة الحيوية في كامل أرجاء الأرض.

 أمام هذا الواقع الجديد والمتغيرات لم تعد الفلسفة بحثاً عن الحقيقة فحسب، بل أصبحت تفكراً في "العيش الممكن" بين الإنسان والكائنات الأخرى، إنها فلسفة تحاول التأسيس لأخلاق كونية جديدة، قوامها الاحترام والرعاية والمسؤولية.

إلى جانب هذه الموضوعات الفلسفية أظهر التفكر في العولمة تحولاً في القيم والمعايير والأنظمة الثقافية، فظهرت أسئلة فلسفية جديدة تناولت مفاهيم العدالة والهوية والغيرية والهجرة والاعتراف والسيادة والحق والمواطنة، في عالم تتجاوز فيه الشبكات والمعلومات الحدود الجغرافية. الفيلسوفة الأميركية مارثا نوسباوم (مواليد 1947) والفيلسوف الهندي أمارتيا سين (مواليد 1933) طورا مفهوم "القدرات" كأساس للعدالة الاجتماعية، معتبرين أن الإنسان لا يقاس بما يملك بل بما يستطيع أن يفعله ويكونه. تقول مارثا نوسباوم إنه لكي يتمكن شخص ما من تحقيق أعلى إمكاناته عليه أن يمتلك كماً من القدرات القابلة للتحقيق في حياته الخاصة، كالقدرة على عيش حياة تستحق العيش، والقدرة على استخدام الخيال، وتحصيل التعليم الكافي لإعطاء فهم "إنساني" للعالم، والحصول على قيمة متساوية، والقدرة على المشاركة في الحياة السياسية في المجتمع، أما الألماني أكسيل هونيث (مواليد 1949) فركز في أبحاثه على مفهوم الاعتراف كأساس للعلاقات الإنسانية العادلة، بينما واصل يورغن هابرماس دفاعه عن العقل التواصلي في مواجهة النزعات الشعبوية والانعزالية.

الانفتاح على تعدد الثقافات وتلاقي التقاليد الفكرية

كذلك، طرح الفلاسفة المعاصرون أسئلة حول العدالة الرقمية والاستعمار التكنولوجي الجديد، حيث تهيمن الشركات العملاقة على البيانات والمعلومات، مما يعيد إنتاج أشكال جديدة من التبعية والاستغلال. في هذا السياق تستعيد الفلسفة رسالتها النقدية، وتصبح أداة لتحليل السلطة كما فعل ميشال فوكو، ولكن في فضاء رقمي لا مركزي، وفهم الشر كما في كتابات آلان باديو (مواليد 1937) "الأخلاق: مقالة في فهم الشر"، الذي يناقش الأبعاد الأخلاقية للحدث والسياسة، والذي يبدأ بنقد للأخلاق الإنسانية المهيمنة التي يبثها وينشرها العالم الغربي والتي رسخت بوصفها أخلاقاً كونية وطبيعية، لكن باديو يفكك أسسها، مبيناً أن التصور المعمم للأخلاق الإنسانية للغرب لا أساس له في الذات، وأن الشر لا ماهية له، وما من شيء بدهي حياله مثله مثل الخير.

ومن السمات المميزة أيضاً لفلسفة القرن الـ21 انفتاحها على تعدد الثقافات وتلاقي التقاليد الفكرية، إذ لم تعد الفلسفة حكراً على الغرب، بل أصبحت فضاءً للحوار بين الفلسفات الشرقية والإسلامية والأفريقية واللاتينية. من هذه الزاوية أتحدث عن المشاريع الفكرية التي تسعى إلى فلسفة كونية متعددة الأصوات، والتي تدعو إلى الحوار بين الحضارات كما في كتابات الفرنسي أوليفييه روا (مواليد 1949) ودراسات الأرجنتيني إنريكو دوسيل (مواليد 1934) في "الفكر الما بعد استعماري"، الذي يدعو إلى إعادة كتابة تاريخ الفلسفة من منظور الجنوب العالمي، كما تشهد هذه الفلسفة تجدد الاهتمام بالفكر الإسلامي، وبإسهامات ابن سينا والفارابي وابن رشد في النقاشات المعاصرة حول العقل والروح والسياسة في محاولة لإدماج هذا التراث في النقاش العالمي حول العقلانية والروحانية والعدالة، مما يمنح هذه الفلسفة بعداً إنسانياً يتجاوز الحدود اللغوية والجغرافية.

غير أن فلسفة القرن الـ21 تواجه أيضاً تحدياً مزدوجاً: من جهة، هناك تراجع لمكانتها في المؤسسات الجامعية أمام العلوم التطبيقية والاقتصاد المعرفي، ومن جهة أخرى هناك عودة قوية للفكر الفلسفي في الفضاء العام، عبر الكتب والمنصات الرقمية كالبودكاست وسواها، لقد خرجت الفلسفة من قاعات المحاضرات لتعود إلى الشارع، إلى المقاهي، إلى النقاشات اليومية حول المعنى والسعادة والموت والعدالة مع ميشال أونفري (مواليد 1959) ولوك فيري (مواليد 1951)، وأندريه كونت-سبونفيل (مواليد 1952)، وشارل بيبان (مواليد 1973)، وسينتيا فلوري (مواليد 1974)، وغيرهم، وهنا نرى نشوء ما يسمى الفلسفة العملية أو الفلسفة من أجل الحياة، التي تستلهم من سقراط وسبينوزا ونيتشه روح التساؤل والتجربة الذاتية، إنها فلسفة متواضعة في ادعاءاتها، لكنها أكثر جرأة في طرح مشكلاتها، فلسفة تحاول قدر الإمكان إبقاء باب السؤال مفتوحاً.

 في الربع الأول إذاً من القرن الـ21 تعرف الفلسفة عودة وحضوراً أكيدين بعد كل ما قيل عن نهاية التاريخ ونهاية الإنسان، ذلك أن إنسان الألفية الثالثة ما زال يطرح أسئلة تستدعي التفكير الفلسفي، ذلك التفكير الذي يحكمه تصور للمستقبل لا يقوم على فهم خطي ومستقيم للتاريخ، وإنما على تصور منحنى يغير دوماً من اتجاهه حسب تحديد فتغنشتاين، فليست الفلسفة اليوم استمراراً للتقليد السقراطي في البحث عن الحقيقة من طريق التأمل والحوار وطرح الأسئلة، بقدر ما هي عبارة عن محاولة لفهم واستيعاب التحولات الكبرى ودلالات إنجازات البحث العلمي وآثارها في الإنسان.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة